ثقافة وفنون

شعراء الفرنكوفونية

أندريه شديد: كلماتها لا تحب الكبرياء

الشاعرة والأديـبة الفرنكوفونية أندريه شـديد كتبـت في خمسين سنة ونيّف ما يزيد على خمـسة وعشرين كتابـاً في أكـثر من نوع أدبي, تتوزّع بين الروايـة والمجموعـة الشعرية والقـصة القصـيرة والمسرحية وكتـب الأطفال, إلا أنها تبـقى مـشدودة منـذ المراهـقة الى الشعر. فهي تبحـث عن طـرق غـير مباشرة للتخاطـب مع المتلقي فـوق أرض القصـيدة لا أرض جماعـة ما. لذا بالرغـم من أصـولها المصريـة واللبـنانيـة ومما كتبته وسجّلته في “الفرعونيات” و”اللبنانيات”, فإن أياً من صفتي المصرية واللبنانية لا تلحق بها, بل ظلّت بعيدة عن الخانات القومية والوطنية. فهذه الأديبة الفرنكوفونية العربية الأصل, التي تقطن مدينة باريس الى يومنا هذا تقول: “أحب هذه المدينة, وأجـد فيها من المنشـطات ما يحفز قـواي دوماً, هـذا ما قلـته لنفسي مـنذ طـفولتـي”.
فمن هي أندريه شديد؟

 

الأصول

ولدت الشاعرة أندريه شديد في القاهرة عام 1921, من عائلة صعب أساساً, وهي مصرية الجنسية ولبنانية الأصل. تقيم في باريس منذ العام 1946. أسهمت في تحرير “دفاتر الشرق” في بيروت, و”رجال وعوالم” و”المحاولات” و”الأخبار الأدبية” في فرنسا. لها بالفرنسية, في الشعر: “نصوص لوجه” ­ 1949, و”نصوص لقصيدة” ­ 1950, و”نصوص للحي” ­ 1952, و”نصوص للأرض الحبيبة ­ 1955, و”أرض وشعر” ­1960, و”طقوس العنف” 1976. وفضلاً عن هذه المجموعات, لها بعض المؤلفات في المسرح, وفي الرواية, ومن بينها: “الرماد المعتق” ­ 1952, “جوناثان” ­ 1955, و”الحاسة السادسة” ­ 1960. إنها من الوجوه الطليعية في حركة الشعر اللبناني باللغة الفرنسية.

 

الحب والتأمل

غنّت الشاعرة أندريه شديد للحب بقلب نابض, ولكنه غير متفجّر, وحلمت به بخيال لطيف ولكنه غير متباعد, وانطلقت كما يرى الدكتور غالب غانم, في تجربتها من محاكاة بعض أطياف الحب بأشكاله القديمة, ثم استقرت على مشـارفه وطوالعه الجديدة. والحـب عنـد هذه الشاعرة التي تسير في خط الطليـعة بين شعراء الموجة الجـديدة, هو المياه الخالدة ومواسم الحصاد المنسية, ونبض العمر الذي تهطل أيامه فلا يقوى الإنسان على إحتمال هروبه, ورفيق الموت الذي يجتمع معه لمحو وشوم الإنسان على الأرض.
والتأمل عند شاعرتنا نجده بشكل مكثف ومتسرّب الى غالبية قصائدها. حتى أن جزءاً كبيراً من ديوانها “الأرض المنظورة” ومعظم قصائدها في ديوان “وحده الوجه” نزعت نزعة تأملية خالصة. وكانتتأملاتها مجموعة من الرؤى والمواقف الإنسانية ومحاولات السفر في أبعاد الحياة والموت, استطاعت فيها, بشكل عام, الإبتعاد عن جفاف هذا اللون الأدبي الذي يغيب عنه الصفاء الشعري والصورة المشرقة والأسلوب النضر, حتى يتعزز عنصر الفكر وعامل التوجيه والعقل عند شعرائه الإتباعيين. ولكن أندريه شديد عانت في بعض المواضيع مما عاناه شعراء هذا التيار, فكانت كلماتها تنكشف عن تعابير مألوفة وشحنات فكرية تضفي العملية الفنية في الشعر... وترى الشاعرة السابحة في التأمل, أن لها مع السامع أو القارئ تاريخاً واحداً محفوراً على صدر الأرض التي لا معنى لوجودها بدون الإنسان. ثم ترسم خط الرحلة الى العالم الآخر, وتبحث عن الحياة الحقيقية, وتسهر وحدها لابسة ثوباً منسوجاً من المحيط. وتلمس الحرية التي لا تعرف سلطاناً, وتظل في وعد يشدّها الى الإتصال بالطبيعة وبالأشياء, ويبقى الوجه وحده مملكتها ومملكة الناس, لأن صورته تنقش بين أدوار الحياة ولحظاتها. ولهذا تميزت في تألق صورها الشعرية وفي أبعاد التأملات في نتاجها الشعري.
ولكن مرة واحدة توقفت شاعرتنا عن التأمل, وبحثت عن الصراخ, مرّة واحدة خرجت من غرفة القصيدة الى شارع المعاني حيث يقف الناس.

 

الشعر والشاعرية

تقول الشاعرة: “إذا لم يقلب الشعر حياتنا رأساً على عقب فلا شأن له بنا ولا شأن لنا به. وسواء أكان مسكناً أم منبهاً فعليه أن يطبعنا بطابعه الخاص, وإلا فما عرفنا منه غير الدجل”.
ويعني هذا القول أن الشعر لحم من لحمنا ودم من دمنا, بمعنى أنه القلب والرئتان معاً, أو علّة الوجود ومبرر الوجود. وإذا لم يكن كذلك فإنه ليس شعراً أو أننا لسنا شعراء ولا متذوقي شعر. وعبثاً يتلهى اللاهون بعروضهم أو بتكسيرها, فهم في واد والشعر في واد!. والقصيدة لديها إندفاعة, رغبة, جوع, إنطلاقة, تضعها على الورق ثم تتركها, على أن تعود إليها لاحقاً, حيث تجد ركاماً من الجمل, فتعمل على تبيّن هندستها الداخلية, ثم بلورتها كعمارة شفافة. كما لو أنها تبسط أو ترخي فوق خشبة عريضة, ثم تنصرف من بعد الى تسويتها وتشذيبها وهندستها.
مما لا ريب فيه, أن أندريه شديد شجرة بين أشجار الغابة. تعمل دائماً على البقاء في ظل غيرها من الأشجار, رغم أنها الدوحة السامقة. فلا تتشاوف بحالها ولا تتعالى ولا تتفاصح ولا تعتزل رفقة الناس والأشياء. بين الأشجار تعيش, وبين الأولاد تعيش, كما تعيش بين الوهاد والجبال, تعيش لاهثة ومرتاحة.. وعيناها لا تستقران لفرط ما تلوبان, إلا على الناعم الذي فيه ريّ لعطش وشبع لجوع, وملء لفراغ, وإذ بهـا دائمـاً أغنى ممـا كانت عليه, أغنى لأنها تزداد إمتـلاءً, وأغنـى لأنها تمـلأ الآخرين بعطاء الكلمة. ومـن قصيدة “وحده الوجه” هـذه الأبيـات:
“فقدت الشجرة العصفور
والدرب فجر الدرب
وحمامة تحتضر
على ذراع الليل
أين هم رفاقنا؟
وأين, أين المملكة؟
ولمن توجّه ما تقول,
وعلامني أكتب؟
في معظم الأوقات من أعمارنا نعيش كالظلال, فكأننا ثمر الظلال...”.