مرايا الحياة

شعراء وفلاسفة
إعداد: وفيق غريزي

فريدريك نيتشه... العبقرية المحيرة

 

ما زال فريدريك نيتشه يحتل في تاريخ الفكر الحديث مرتبة مثيرة ومحيّرة جداً في الوقت نفسه؛ مثيرة لأنه تحدى كل الأفكار والمعتقدات والقيم التقليدية في عصره, ومحيّرة لأن نتاجه شديد الإثارة, وهذه الإثارة أسهمت فيها تناقضات نتاجه وعدم إنسجامه.
"وجاءت نهايته, نفسها, غير عادية, يزيدها دراماتيكية, أن آثار نيتشه, بعد إهمال استمر طوال حياته الخلاّقة, أضحت فجأة زياً تحوّل الى شيء من الشعار العقائدي في أوروبا كلها".
ظهر نيتشه في نهاية حقبة بارزة جعلتنا أزماتها الداخلية والخارجية, حسب قول “يانكو لافرين”, نشهد الإفلاس التدريجي للتقاليد الأوروبية الإنسانية. كان واحداً من هؤلاء الذين رفضوا الإنخداع. وبينما بدا وجه من أوجه تفكيره خيالياً تنبؤياً, جاء الوجه الآخر إنتقادياً شديـداً, ومليئاً بالتشاؤم. وقد أعطى نيتشه العالم كناقد, تشخيصاً وتحليلاً من أشد ما عرف عصره قسوة وبعـداً عن الشفقـة, وهو من ناحيـة أخرى, كمتخيّل قد قدّم لمعاصريه مثالاً بدا في النهاية مستحيلاً من حيث التحقيق بمقدار ما هو جريء من حيث النظرية. كان ببعده الى أقصى حد, عن التقليدي الشكلي, حرباً على المبادئ التي ليست سوى نظـريات. كـان يسعى الى فلسفة حية, تُعاش, فلسفة يمكن أن تؤثر في وجودنا تأثيراً فعلياً.

 

الولادة والكفاح المبكّر

ولادة فريدريك نيتشه نفسها هي شيء من التناقض. فإن “هذا المفكر الذي وُصف بأنه أكثر المفكرين العصريين مناهضة للمسيحية, كان إبناً لقسّ لوثري ورع, ووريثاً لما لا يقل عن أجيال ثلاثة من الكهانة من جهة أبيه وأمه. وُلد في الخامس عشر من تشرين الأول سنة 1844 في روكن”.
تدّعي عائلته أنها تحدرّت من كونت بولوني هائم من مكان الى آخر, هو الكونت نيتسكي, وكان نيتشه فخوراً بتحدّره من أصل كهذا.
عندما بلغ نيتشه سنته الخامسة, تعرّض والده لسقطة شديدة أودت بحياته, فانتقلت الأم مع ولدها الصغير وأخته أليزابيت التي تصغره بسنتين, الى مدينة “نادمبورغ” المجاورة الواقعة على نهر “سالي”. وهناك بدأ نيتشه الصغير متفوقاً في المدرسة المحلية الى درجة أنه في الرابعة عشرة من عمره قُبل كطالب في مدرسة “بفورتا” الداخلية التي كانت وقفاً على النخبة, حيث بقي حتى أوان قبوله في الجامعة.
في هذه المدرسة توزّعت إهتمامات نيتشه بين الشعر, والدراسات الكلاسيكية, والموسيقى. عام 1864, دخل جامعة “بون” حيث كان ينوي دراسة اللاهوت والدراسات الكلاسيكية القديمة. إلا أن بون وجامعتها لم تستهويا ذوقه. ولكنه وجد في البروفسور فريدريش فيلهلم ريتشل ­ بحاثة في الدراسات القديمة ­ ملهماً له, ما دفعه في النصف الثاني من السنة الى التخلي عن دراسة اللاهوت, ليتفرّغ بكل قواه الى الدراسات الكلاسيكية وبخاصة عالم وحضارة اليونان القديمة. وعندما انتقل البروفسور ريتشل الى ليبزيغ, تبعه نيتشه لإكمال دراسته بإرشاده.
في ليبزيغ وقع نيتشه على نسخة قديمة من كتاب شوبنهور المسمى “العالم كإرادة وفكرة”, فقرأه وأعاد قراءته بصورة متتابعة وكأنه في غيبوبة لمدة إسبوعين. وعندما انتهى منه كانت نظرته كلها الى العالم قد تغيّرت.
وفي الجامعة أيضاً تأثر بصورة خاصة بفلاسفة ما قبل العهد السقراطي. من الشعراء الأقدمين الذين انجذب اليهم, ثيوغنيس الميغاري, الذي استهوته عقليته الأرستقراطية.
قطع عليه دراسته لمدة, قيامه بالخدمة العسكرية سنة 1867, لكن خدمته انتهت بما يقارب الكارثة, حيث ورث أمراضاً عدة.
وعندما عاد الى ليبزيغ, تم التعارف بينه وبين الموسيقار ريتشارد فاغنر وزوجته كوزيما في خريف 1868, فاستهوت نيتشه كوزيما ولكنها لم تبادله عواطفه.
وفي سنوات آلامه المتزايدة, صمم نيتشه على أن يقول للحياة “نعم” رغم كل شيء, كان هذا السبب الذي جعله يتحوّل من فاغنر وشوبنهاور. ولقد التقى نيتشه مع الشاعر العظيم هولدرلن (1770- ­1842) وجمعهما حب اليونان القديمة.

 

آلامه

بعد عام 1876, ساء نظر نيتشه, كما ساءت صحته عامة, الى درجة كانت أكثر الأحيان تجعل من الصعوبة بمكان أن يستطيع حتى كتابة بعض الملاحظات والنبذات لنتاجه المقبل, وكان أحياناً يضطر الى إملائها على الموسيقار الشاب بيتر غازت.
إلا أنه من المؤسف أن علل نيتشه (الصداع, وآلام المعدة, والأرق.. الخ) أضحت مؤلمة جداً, فاضطرته سنة 1879 الى الإستقالة من منصب أستاذ في جامعة بال.

 

المرأة والحب

رغم مهاجمته المرأة, فإن المرأة كانت غايته, وقد وقع في علاقات غرامية عدة, كلها باءت بالفشل. لم تكن كوزيما الحب الوحيد لنيتشه, ولكنه الأعمق, حتى أنه عندما انهار ذهنياً أرسل الى كوزيما ثلاث رسائل قصيرة خاطبها باسم أدريان قائلاً: “أدريان.. إنني أحبك”.
وعام 1877 تعرّف الى ماتيلد ترامبيداخ وهي فتاة من المقاطعات البلطيكية في روسيا, ويبدو أنه وقع في حبها, وهذه المرة قام بعرض الزواج إلا أن عرضه رُفض. وكأن ذلك جرح كبرياءه فانكمش على نفسه. وأثناء وجوده في روما أحب الفتاة لو سالومي فكتب لها العديد من القصائد منها:
“إجعلي شعلتك, يا روحي, تتوقد
دعيني في لهيب الصراع أجد جواباً لجوهرك اللغزي
دعيني أفكر وأحيا ألفاً من السنوات
وأرمي فيها كل ما لديك... كلّه.
وإن لم يكن لديك من سعادة باقية تقدمينها لي
فلن يكون في وسعك أن تزيدي من آلامي”.
وحبه للو سالومي أيضا قوبل بالرفض.
بعد هذه الخيبات التي تركت في أعماقه جروحاً عميقة, صب نيتشه جام غضبه على النساء في كثير من مؤلفاته. ففي كتابه “إنسانيون شديدو الإنسانية” قال: “النساء يتآمرن دائماً على نفوس أزواجهن الأكثر رفعة, فإنهن يردن سلب مستقبلهم منهم من أجل حاضر مريح بعيد عن الألم”. وفي كتابه “هكذا تكلم زرادشت” قال: “يجب أن يهيأ الرجال للحرب, وأن تهيأ النساء للترفيه عن المحارب” و”سعادة الرجل هي إنني أريد, وسعادة المرأة هي أنه يريد”.

 

صفاته

لا يجد الناظر في نيتشه, لأول وهلة, ما يثير الدهشة, فهو معتدل القامة, بسيط اللباس أنيق, مردود الشعر الى الوراء, وقد يمر بالمرء ولا يسترعي انتباهه.
ابتسامته رقيقة, وصوته خافت, مشيته مشية حذر متأمل, وعلى شيء من الإنحناء, يداه رائعتان, عيناه عينا خائن, وكأنه أعمى لا يراقبك, أو يزعجك, إزعاج قصيري النظر, وكأنهما تختزنان أسراراً صامتة.
نظره المحدود يضفي على ملامحه سحراً خاصاً, وعيناه لا تعكسان ما هو خارجي, متبدل, بل ما يجول في خاطره, إنهما تنظران الى ما في الداخل, والى البعيد. هو في حياته العادية مهذّب كل التهذيب, لطيف لطف فتاة, هادئ هدوءاً مستقراً رقيقاً.

 

فلسفته

أدرك نيتـشه أن فلسـفة تعاش وتخـتبر عبر القدر الذاتي للإنسان, هي عادة أقرب الى أن تبدو غير منسجمة ومتنافرة كالحياة نفسها, فقد علم كذلك أن هذا التنافر نفسه غالباً ما يصبح أكثر حيوية, وبالتالي أكبر قيمة من كل الأنظمة الفكرية المجرّدة التي جرى بحثـها على كرسي مريح.
واعتبر نيتشه الإنسان المعاصـر مادة خاماً للسوبرمان الموعود, ولذا فقد طلب أن تعامل هذه المادة بمقتضى ذلك. الإنسانية العادية لم تعن له أكثر من طين ضروري لخلق نمط الوجود الجديد. الفـكرة هذه جعلته يطـالب بتلك الشروط من الصلابة والتصـارع التي يمكنها وحدها كـما رأى نيتـشه, أن تنـشئ وتنـمي أرفع النماذج البشرية في العالم. توفي نيتشه عام 1900.