الحياة أقوى

شعلة التحدي تضيء ظلمة بيروت
إعداد: هيام كيروز
تصوير: ميشال الإسطا

البحر والمرفأ حيوية المدينة، ومجالها الرحب، رزق الصيادين، ومتعة الهواة، الثراء الثقافي والوجداني، النشاطات العلمية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والفكرية. علاقة متشابكة تمتد بخصوصيتها إلى عقود طويلة.

 

بيروت المدينة، الكائن الذي يحيا بروح من يسكنها، طُعنت في قلبها، مزقها انفجار لوّن رحابة المكان بالاسود، وملأها بالدمار وبجثث الضحايا وأشلائها.

التهمت النيران الأرزاق وامتدت ألسنتها إلى مناطق النهر ومار مخايل والكرنتينا والجميزة والأشرفية، فحوّلت المنطقة وساحاتها، وشوارعها والعمارات والمنازل، والمقاهي، والمطاعم، والمتاجر والمستشفيات والمدارس، وكذلك المعالم التراثية والدينية والثقافية وصالات العرض إلى هيكل مهدّم الأضلاع، وأودت بذاكرتها الجمالية إلى أنقاض حزينة، وطوت حياة وذكريات إلى غير رجعة.

 

بيروت مدينة منكوبة ولكن...

هكذا تمّ وصف الوضع الذي آلت إليه العاصمة إثر انفجار ٤ آب الهائل. وضع مضرّج بالدم، بالدمع. ما يعني إحالتها إلى عداد المدن الميتة مجازيًا.

في التاريخ، ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها بيروت للنكبة. إلا أنّها، تاريخيًا، دأبت على التشكّل من جديد بعد كل نكباتها. ليس أقل برهانًا على هذا حاليًا، الحركة التي تضجّ بها البقعة المنكوبة على كامل مساحتها والحدود، حيث تشكلت خميرة بشرية اجتماعية فاعلة، بهدف لملمة الجراح وكفكفة الدموع.

 

إنّها الحياة

إنّها الحياة، تنبثق توًّا إثر الانفجار. إنّها الحياة تتفجّر دونما إعداد ولا تخطيط مسبق، ولا برامج ادارية تقليدية ولا خارطة طريق.

إنّها الحياة، ومستلزمات انطلاقتها: التحدّي فحسب، التعالي فوق الجراح، فالوقت ليس للبكاء والتحسّر. لا بد من تجاوز المنحة والمأساة، والشروع بالعمل للمواجهة والاستمرار.

المحرك الأساسي جاهز: التصميم، الإرادة وسواعد الشباب.

الهدف محدد: تلبية الحاجات الإنسانية الملحة أولًا، تلك المتعلقة بتأمين الغذاء لسكان المنطقة الذين لم يغادروا، والدواء لمن يحتاج. ومن ثم المباشرة بإزالة الركام والزجاج المحطّم من الشوارع ومداخل الأبنية ومنازلها، والعمل على إقفالها للحؤول دون تعرضها للسرقة.

شباب متوثب مقدام، يحركه الشعور بالمسؤولية وحسن الشراكة. وخلطة عجيبة متنوعة من الهيئات والتجمعات الشبابية تجد مجالها الحيوي في قلب الدمار، ترصد الحاجات، وتشكل النواة للدعم ولإعادة البناء الاجتماعي.

لم يتكل الشباب على الدولة وعلى مبادراتها. ولم يضعوا خططًا ويشبعوها تحليلًا، ولم ينتظروا من يشحذ هممهم أو يعطيهم التعليمات. بدأ توافدهم عفويًا أول الأمر، عدد من طلاب الجامعات اندفع لمساعدة الأصدقاء والأهل والأقرباء، والبعض الآخر نزل إلى الشوارع طوعًا لتنظيفها من الركام والزجاج والقمامة.

أخذت الحماسة تفعل فعلها وتتصاعد، ألهمت شبّانًا من قرى وبلدات بعيدة ومن الأطراف، جذبتهم إلى قلب العاصمة. أتوا ليقاتلوا ضدّ اليأس وفقدان الأمل. شباب لا يملك من الإمكانات إلا المشاعر الوطنية التي يختزنها. حجم الغضب والحزن فاجأ الجميع، وأطلق طاقة الجيل الشاب وحيويته. لا نحتاج إلا إلى سواعدنا، يقول إدي.

مواقع شبكات التواصل الإجتماعي أدت دورًا في التعبئة والانخراط عبر المدوّنات والصفحات. ووصلت أعداد المتطوعين إلى ذروتها في غضون أيام ثلاث، ما استدعى تأطير الاندفاع العفوي المتدفق، في هيئات منظمة، تستوعب قدرات الشباب الخلاّقة وتحوّلها إلى قوة إيجابية مضادة للموت.

 

جدارة الشباب

أثبت الانخراط في هذه الحملة التضامنية جدارة الشباب، التي لا مثيل لها في مواجهة التحديات. الهيئات الشبابية التي تضم في ما تضم، متطوعين مغتربين وسياحًا من جنسيات مختلفة، انتشرت في الأحياء المنكوبة ومارست في شوارعها فعل الإيمان بالوطن.

عن السبب الذي دفعها إلى التطوع تقول ماريان:

«إنّها مسؤولية كل فرد منا، لبنان لنا، والضرر أصاب كل واحد منا في الصميم. من الطبيعي أن أعمل على تضميد جراح مدينتي. تقوم مهماتي على تنظيف المنزل من الركام والزجاج، وإعادة توضيب ما أمكن من أغراض وأدوات وملابس، لتصبح الإقامة فيه ممكنة».

تطوعت ماريان تلقائيًا من دون دعوة أو إيعاز من أحد، وهي تتشارك العمل مع أشخاص لا تعرفهم.

أما شربل فيحدثنا عن مهمته بحماسة: «ما إن وقع الانفجار حتى توجهت إلى الأشرفية. يدفعني حس المسؤولية، وعملت مع شبان كثيرين لا أعرفهم في نقل المصابين إلى المستشفيات. بعدها عملت على إعادة تركيب الباب الخارجي في منزل أحد الأصدقاء منعًا لتعرضه للسرقة. وفي الأيام التالية انصب جهدي على تركيب إطارات النوافذ، وتركيب الأسرّة المخلعة، لأن ليس لصديقي مكان يأوي إليه. نفّذت المهمة ذاتها في بيوت لا أعرف أصحابها، مدفوعًا بالواجب الوطني ليس إلا»...

ريم، التي تطوعت بادئ الأمر للقيام بإسعافات أولية كعنصر في «الصليب الأحمر»، أصبحت تداوم يوميًا، وتؤدي المهمات التي توجهها إليها القيادات الميدانية: «نفرز الزجاج لإعادة تدويره. إنّها مدينتي. أشارك يوميًا بكل إمكاناتي». وتؤكد فرح على «المشاركة في فرز الزجاج يوميًا. هذا العمل يريحها ويشعرها بأنّها تسهم في إعادة الحياة إلى بيروت المتألمة».

رالف ووليد وزياد وشانتال يعملون أيضًا في فرز الزجاج، فيما يندفع أحمد وبهاء وليلى إلى كنس الشوارع والأدراج ومداخل الأبنية».

اللافت أنّ الهيئات الشبابية، تنتشر على شكل جزر متعددة لا تنضوي تحت قيادة واحدة، بل قيادات ميدانية أشبه بالوحدات. تتلازم وطنيتها مع متطلبات الظرف. وترتكز على ثوابت الدعم المادي: من تحضير الطعام للسكان والمتطوعين، وتقديم الوجبات عبر شركات Delivery تطوعت وموظفيها لإيصال الطلبات، إلى تأمين المستلزمات الصحية والشخصية، إضافة إلى خدمات الإيواء للذين دمرت منازلهم كليًا...

اندفاعة الشباب كجمعيات وكأفراد شملت أيضًا توفير الدعم النفسي لتلاقي تداعيات الصدمة، عبر مجموعة اختصاصيين نفسيين تطوعوا لتقديم المساعدة اللازمة.

 

بوادر الأمل

التحدي ينسحب على أصحاب المتاجر والمؤسسات المختلفة، ومع أنّ الأضرار كبيرة إلى حد يكفي لإخماد أي أمل أو طموح، فإنّ بوادر الأمل أطلت بسرعة من بين الأنقاض. صاحبة محل سمانة، أصيبت بجراح كثيرة وتضرر منزلها وتكسرت واجهة محلها، تقول: «إيماني ومحبتي لوطني يمنعانني من الانهيار ،الدعم المعنوي الذي أمنه لي شبان اهتموا بتنظيف المنزل والمحل، وكذلك الدعم المادي الذي تلقيته من شركات مياه، وشركات تجارية أخرى، أعطاني القوة للاستمرار. وجود عناصر الجيش الذين يحرسون الشارع، مدّني بالأمل. بالطبع سننهض من جديد رغم كل شيء».

وتعقب صاحبة محل لبيع فساتين السهرة والزفاف «لا خيار لي إلا التحدي والاستمرار. لن أدع الانفجار يحطم معنوياتي ويمنعني من التقدم أنا في محلي رغم الزجاج المحطم. هذا لبنان، سيقوم كما كل مرة».

تعمل القيادات الميدانية على توزيع المهمات على المتطوعين، انطلاقًا من «المحطة الأولى» حيث خيمة «الإسعافات الأولية» يحاذيها مستشفى ميداني. بعد بضعة أيام من العمل العفوي، بدأت النشاطات تتأطر وتكتسب مزيدًا من الفاعلية في ظل التنسيق مع غرفة الطوارئ المتقدمة التي أنشأتها قيادة الجيش وفق ما يخبرنا كريم الذي يواظب على تقديم خدماته يوميًا منذ وقوع الانفجار.

إلى الهيئات التي تعمل على رفع الركام ومساعدة السكان بطرق مختلفة، ثمة اختصاصيون في مختلف المجالات، إضافة إلى أطباء، ومحامين ومهندسين... الكل في مهمة واحدة: النهوض ببيروت من الكارثة، واستعادة وجهها الجميل.

 

إنقاذ الأبنية التراثية

فقد انضمت إلى المبادرات هيئات تعمل على حماية البيوت وإنقاذها من السماسرة والمتسللين تحت شعار «تاريخنا مش للبيع». ونشط المهندسون بالتنسيق مع الجيش لإنقاذ الأبنية التراثية التي تضررت وقد بلغ عددها ستمئة وأربعين بناء وفق تقييم المديرية العامة للآثار، بما فيها قصر سرسق والمتحف الوطني، ومتحف الجامعة الأميركية في بيروت.

وفي هذا السياق أصدرت الحكومة اللبنانية تعميمًا «يمنع بيع أو رهن العقارات ذات الطابع التراثي والتاريخي، أو ترتيب أي حقّ عينيّ عليها، إلا بعد أخذ موافقة وزارة الثقافة اللبنانية، وذلك منعًا لاستغلال الحالة الراهنة».

تحت وطأة الفاجعة، انهارت الأبنية والمرافق وتصدعت المدينة، وانهارت الشرفات المحفوفة بمشاعر جمالية وذبل عطر زهورها، لكن التكافل الاجتماعي، والاستثمار النظيف للطاقات الشبابية، ضخّا في الشوارع والساحات حيوية متدفقة، تحمل آمالًا بغدٍ مشرق، وآفاقًا مشرّعة على مستقبل يليق بالشباب. هؤلاء الذين امتشقوا الأمل من أعماقهم.

إنّ التعاضد الذي أظهروه، هو ميزة فريدة من الفعل والتفاعل الإنساني. فعل مداواة أوصال المدينة المنكوبة بأيدي من يحبونها، وتقديم اتجاه حقيقي للغد.. للحياة. فحركة التاريخ بسواعد الشباب تسير لامحالة، إلى الأمام.