قضايا اقليمية

شــــارون على عتبة مـرحلـة حاسمـــة تاريخياً ويواجه لحظـة الحقيقة
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

يبدو رئيس الحكومة الإسرائيلية آرييل شارون وكأنه يدور ضمن دوامة قوية تضطره الى الدوران حسب قانونها واتجاهها, من دون أن تكون لديه القدرة على تكييفها أو الوقوف بوجهها. وعلى الرغم من كل النفوذ الذي يتمتع به اليمين الإسرائيلي المتطرف في الولايات المتحدة, لا تظهر هناك مؤشرات على أنه ستكون له الكلمة الفصل, ليس فقط بشأن خارطة الطريق المطروحة على بساط التنفيذ وليس على بساط البحث, بل أيضاً بشأن آلية الصراع الدامي اليومي مع حركات المقاومة الفلسطينية التي تمكنت حتى الآن من احتواء وامتصاص كل أساليب التصفيات الجسدية وتدمير البنى التحتية في عمق الضفة الغربية وقطاع غزة, من دون أن يصل كل ذلك الى المس بالعمق المعنوي النفسي أو بالوعي الوطني النضالي لمجمل الشعب الفلسطيني الذي لم يعد لديه من الآن فصاعداً ما يخسره أكثر مما خسره, وهو على عتبة صنع قدره بيديه الملطّختين بدماء التضحية في سبيل الحرية وتقرير المصير.
كلا الطرفين, الإسرائيلي والفلسطيني, يحاولان في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة, إحراز انجازات تكتيكية فعلية أخيرة, بعد عجزهما معاً عن إحراز الإنجاز الاستراتيجي الحاسم لمصلحة أي منهما سياسياً أو عسكرياً, وذلك قبل لحظة الحقيقة التي تبدو أنها باتت قريبة الوصول, عندما سيهدأ كل شيء بناء على “أوامر صادرة” ويتوقف مسلسل التفجيرات والقتل والقتل المضاد, في ظل تطوّر مصلحة عالمية أساسية لفرض وقف النار على الطرفين المتصارعين في أعقاب زلزال العراق ونشوة الانتصار الأميركي المعلن عنها من على متن إحدى أكبر حاملات الطائرات الأميركية, وفي أعقاب شعور الأوروبيين بزلة القدم الاستراتيجية على صعيد المنافسة الشديدة من أجل تقاسم الهيمنة العالمية مع الولايات المتحدة الأميركية, القطب الأقوى والأشد شراسة.
بعض المرجعيات العليا في إسرائيل, لا تبدي قلقاً ظاهراً إزاء التحضيرات الجارية في واشنطن بشأن التسوية الدائمة, فالانتخابات الرئاسية الأميركية الوشيكة في العام المقبل, تطمئنهم الى أن الرئيس بوش سوف يتجنب أية مجابهة قاسية مع شارون. ولكن جهات سياسية معنية أخرى في إسرائيل تتخوف من سوء التقدير, خاصة على ضوء محاولات رئيس مكتب شارون فايسغلاس الفاشلة في واشنطن لإدخال تعديلات جوهرية على خارطة الطريق. وهي ترى بالتالي أن القيادة الإسرائيلية أخطأت أيضاً في فهم الجانب الفلسطيني عندما راهنت على أن “أبو مازن” سيطلب تأجيل طرح الخريطة لأنه غير جاهز فلسطينياً لذلك. إلا أن هذا الرهان سقط ووجدت إسرائيل نفسها في موقف المباغت, لا سيما وأن الرئيس بوش يمر الآن في “حالة مزاجية خلاصية” تنبئ بخطوات وإجراءات غير متوقعة سلفاً.
لقد تمكن شارون من المفاخرة والزهو باسقاط أوسلو, فوجد نفسه فجأة أمام خارطة الطريق, التي هي اليوم الوثيقة الدولية الوحيدة المطروحة لإنجاز تسوية بين إسرائيل والفلسطينيين, والتي تعتبر في إسرائيل بأنها أسوأ من أوسلو, فالأميركيون والبريطانيون على قناعة بأن نصرهم في العراق سيؤثر على القوى العربية “المعتدلة” ويدفع بالتسوية الى الأمام, والأوروبيون الذين نأوا بجانبهم عن حرب العراق يرون الآن فرصة سانحة لاستعادة التأثير في الشرق الأوسط. وفي هذا السياق أعلنت إسرائيل عن رفضها للمراقبين الأوروبيين, وأعلن وزير الدفاع شاؤول موفاز عن تخوّفه مما أسماه “التدويل اللين” الذي من شأنه أن يفتح بوابة خلفية من المفاجآت غير السارة على المصالح الإسرائيلية القومية.
من هنا راح معسكر اليمين المتطرف في إسرائيل ينظم نفسه لبذل الجهود الرامية الى إحباط أي تقدم ممكن في خارطة الطريق التي تحولت الى أمر واقع لا مناص منه, وتشكل من أجل هذه الغاية ما سمي “لوبي يشاع” (أي لوبي الضفة الغربية وقطاع غزة) الذي ضم حتى الآن 22 عضو كنيست بقيادة يحيئيل حزان من الليكود, والمقيم في مستعمرة ارئيل في الضفة الغربية. وتقدم عضو الكنيست جلعاد اردان من الليكود أيضاً بمشروع اقتراح في الكنيست يدعو الى إجراء “استفتاء شعبي على خارطة الطريق أو على الحل الدائم مع السلطة الفلسطينية”.
وبموجب هذا الإقتراح يجب أن يصوّت الى جانب الخارطة أو الحل الدائم ما يزيد عن 50% من أصحاب حق الإقتراع. وهذا الإقتراع كان قد تقدم بمثيله مع تعديلات طفيفة, وزير الخارجية الحالي سلفان شالوم بتوقيع رئيس الحكومة آرييل شارون. ووصف أردان خارطة الطريق بأنها “إسم جميل ليس إلا, وليس الجميع يدركون بأن المقصود هو خطوة خطيرة يحصل عبرها الفلسطينيون على دولة فلسطينية مؤقتة من دون أن نحصل على شيء في المقابل”. فالخارطة, وحتى قبل أن تقام الدولة الفلسطينية المؤقتة, تطالب إسرائيل بتفكيك جميع النقاط الإستيطانية التي أقيمت منذ صعود شارون الى سدة السلطة, والوثيقة لا تتعاطى مع بهلوانيات تحاول التفريق بين مستوطنات “قانونية” وأخرى “غير قانونية”, بل تفرض إخلاءها جميعاً. إضافة الى ذلك فإن إسرائيل مطالبة بتجميد بناء وتوسيع المستوطنات تجميداً مطلقاً بما في ذلك مقولة “التكاثر الطبيعي”, الأمر الذي يتناقض مع مطلب شارون بإحراز “تسوية مرحلية بعيدة المدى”, كما تفرض الخارطة تدخلاً دولياً عميقاً في جميع مراحل العملية وصولاً الى إنهاء الإحتلال الإسرائيلي الذي بدأ عام 1967, في حين أن موقف شارون المعلن والمعروف هو أنه لا يوجد احتلال إسرائيلي للضفة بل إن الأردن والعراق هما اللذان احتلاها عام 1948.
إن شارون يشعر بنفسه أنه أمام لحظة تاريخية لا يحسد عليها, فبالإضافة الى الأوضاع الأمنية والإقتصادية والإجتماعية والنفسية المتردية في داخل إسرائيل, يجد نفسه مضغوطاً من قبل إدارة أميركية تأخذها النشوة الإمبراطورية الكونية, وترى أن لا مجال لتحدّيها أو رفض إرادتها, ومن قبل رأي عام داخلي منهك ويتصبب عرقاً ودماً في انتظار لحظة القبول بالتسوية النهائية. من هنا طرح المحلل الإسرائيلي المعروف زئيف شيف أكثر من سؤال محرج من قبيل: “ما هي السياسة الحقيقية التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية في النزا ع مع الفلسطينيين؟ إن معظم الوزراء لا يملكون إجابة واضحة عن هذا السؤال. كذلك هي الحال في واشنطن. فهل الحكومة تسعى الى حلول صغيرة وجزئية, أم أنها ترغب في استمرار الوضع الراهن مع إرهاب يمكن تحمله؟ ربما تكون النية الحقيقية هي التسبب في انهيار المجتمع الفلسطيني وعدم تمكينه من الوصول ليصبح كياناً سياسياً جدياً؟”...
في “إيباك” (اقوى منظمة يهودية من مجموعات الضغط في اميركا) التي يراهن عليها شارون والفريق اليميني المتطرف في حزبي المفدال والإتحاد الوطني والليكود, يعلنون أنهم لا يؤيدون الأطراف الداعية الى إلغاء الخارطة, بالإضافة الى أنهم لا يدعون الى دفع المسار كيفما اتفق من دون أية علاقة بالتطبيقات العملية الخاصة بالفلسطينيين.
كذلك ومن ناحية أخرى, كان أكثر من مئة حاخام على علاقة بـ”لوبي السلام اليهودي” في الولايات المتحدة, قد بعثوا برسالة الى الرئيس بوش يناشدونه فيها تنفيذ خارطة الطريق, معتمدين في ذلك على رسالة كان قد بعث بها الى بوش كل من الوزراء السابقين شلومو بن عامي وآمنون شاحاك ويولي تامير, في شهر أيلول الماضي, دعوا فيها الى البدء بخطة سلام أميركية يقبلها الطرفان وتنقذ إسرائيل من نفسها.
لقد قدم شارون للأميركيين تحفظاته على خارطة الطريق, تلافياً لمجابهة مباشرة مع الإدارة الأميركية, وتجنباً لاتهامه داخلياً بالرفض العبثي, ولكن هل ستبقى هذه التحفظات تخدم شارون كخشبة خلاص, وهل ستبقى ذريعة “النمو الطبيعي في المستوطنات”, وحق الشبان الإسرائيليين في الزواج والتكاثر فيها, تقنع الأميركيين والأوروبيين بأنها حجة منطقية “إنسانية” إزاء كل ما يحصل من هدم لبيوت الفلسطينيين المتواضعة وجرف أراضيهم الزراعية, وقتل أبنائهم وقيادييهم, ومصادرة أملاكهم وحقوقهم, وإقفال مدارسهم وجامعاتهم ومنعهم من العمل, ومحاصرتهم بأبشع الأساليب والأدوات وحشية وهمجية في العالم؟!.