سياحة في الوطن

شليفا مرج الزهر أو العدل الكبير؟
إعداد: باسكال معوض

 

مرج من الزهور, وشلال من المياه الهادرة, وقصر تاريخي لآلهة النار المقدسة. تلك هي بعض الصفحات من كتاب شليفا الزاخر بالجمال وبالحكايات الجميلة.
شليفا بلدة قديمة جداً تكثر فيها المغاور والآبار الصخرية, والتي يعود تاريخها الى العصر اليوناني ­ الروماني.
اسمها كلمة سريانية الأصل وإن اختلف المجتهدون في تفسيرها.
في العامية “شلّف” النبات أي خرج منه “الشلف” وهو الزهر أو السنابل أو الأغصان التي تحمل الثمر. والأرجح أن يكون معنى الإسم مرج الزهور لأن البلدة عرفت بسهلها المكسو بالزهر والعشب. لكن ثمة تفسير آخر يفيد أن معنى الكلمة هو العدل الكبير لارتباط البلدة الوثيق تاريخياً بقصر البنات القائم على التلة والمعروفة بجرف شليفا.

 

تاريخ شليفا

ورد في كتاب ميخائيـل ألوف, أنه وفي سنة 635, قام أبو عبيدة الجراح بمهاجمة مدينة بعلبك وجوارها, وبعد دخولـه اليها هرب حاكمها آنذاك البطريق جرجس, وتحصـن ورجاله وأعوانـه على تلة في بلدة شليفا داخل قصر محاط بسور عال هو دير مار يوحنا...
وقد لحق به سعيد بن يزيد أحد رجال أبو عبيدة, فحاصر القصر لمدة طويلة ولم يستطع الدخول إليه إلا بعد مفاوضات جرت مع القاطنين فيه, حيث تعهد بن يزيد الحفاظ على الدير وعلى حياة الرهبان والبطريق جرجس شرط دفع الجزية المطلوبة.
في العامين 1158م و1202م تعرضت المنطقة بأكملـهـا لزلزالـين عنيفـين نتـج عنهما تهدّم الدير وبيـوت البلـدة بشـكل كبير, مما أدى الى هجـرة الأهالي منها. إلا أنه وبعـد فترة غير طويلـة أعـاد أبنـاء شليفا بناء ما تهـدم فازدهرت البلدة من جديد بشكـل لم يسبق لـه مثيل. وفي العام 1318 (تبعاً لكتاب ميخائيل ألوف) تعرضت البلدة من جديد لكارثة كبيرة تمثلت بطوفان كبير استمر لمدة عشرة أيام, أطاح ببيوتها وأسواقها مخلفاً وراءه دماراً وخراباً كبيرين.
ومرة جديدة أعاد أبناء البلدة بناء بيوتهم, وإنما هذه المرة في الطرف الشمالي لموقعها القديم الذي ظلت آثاره قائمة فيه.
مع الفتح العثماني هاجر أهل شليفا من بلدتهم التي عادت إليها بعض العائلات في أواخر القرن الثامن عشر آتية من العاقورة والهرمل.

 

قصر البنات

على تلة منيعة في البلدة ترتفع آثار قديمة هي عبارة عن جدران شاهقة تتناثر من حولها بقايا أحجار ضخمة تدل على وجود بناء تاريخي عظيم ميّز البلدة.
يعتبر هذا البناء قصراً رومانياً, وقد شيّد في زمن هياكل بعلبك, يدل على ذلك طرازه المعماري وقدم احجاره.
يعرف هذا البناء اليوم بالقصر أو قصر مار يوحنا, وأيضاً بـ”قصر البنات”, ويقال أنه كان قصراً للسجناء والخارجين عن العدالة وكبار المتهمين, ومن هنا تفسر اسم شليفا على أنه يعني العدالة, فالبلدة كانت مركزاً عدلياً مهماً.
ويقال أيضاً أن هذا البناء كان قصراً أو معبداً تقيم فيه البنات حيث كان مخصصاً لعبادة الإلهة “فيستا”
(Vesta) وهي إلهة النار المقدسة الدائمة الإشتعال, والتي تقول الأسطورة أنها علّمت الرومان كيفية استعمال النار. وقد كانت فتيات من العذارى الرومانيات تتولّين خدمة المعبد على مدار الساعة, ولذلك سمي بـ”قصر البنات”.
وهنالك رواية ثالثة تتحدث عن إحدى الأميرات التي كانت ابنة ملك قنفّذ, لم يستطع والدها تحمّـل طبعهـا المتسلط والبغيض, فشيّد لها قصراً بعيداً عن المملكة وأسكنها فيه مع شلّة من صديقاتها. ويقال أن هذه الأميرة القوية والمتجبرة عملت على جرّ المياه الى قصرها بواسطة قنوات تمتد كيلومترات عدة, على أعمدة لا زالت بعض آثارها واضحة حتى اليوم, وتصل الى منطقة بعلبك, كما يقال أن أحد هذه الأعمدة هو عامود إيعات الشهيـر.
أما الرواية الأقرب الى الحقيقة فتفيد بأن القصر كان معبداً وثنياً, ففي العام 395 ميلادي أصدر الأمبراطور الروماني تيودوسيوس أوامر تقضي بهدم كل المعابد الوثنية الموجودة على أراضي الأمبراطورية ومنها “قصر البنات” الذي تم هدمه في تلك الحقبة.
في الـقرن الرابع, ومع انتشـار المسيحية في منطقــة شمالي لبنان, تحوّل أبناء شليفا الفينيقيــون والآراميون الوثنيــون الى الدين المسيحي وراحوا يبنـون كنائــس في مناطقهــم. وقد عملوا بمساعـدة الرهبان آنذاك على إعادة بناء المعبد القدــيم بالحجارة القديمة ودشّنوه على اسم القديس يوحنا, فتحول الى كاتدرائية على الطـراز البيزنطي. إلا أن البناء هدمه الزلزال في ما بعد وعبث الطامعون بالكنوز بما بقي منه, فلم يصمد منه سوى جدارين متوازيين يشهدان على عظمته.
حتى اليوم يعـرف الموقع بقصر مار يوحنا, وقد حاول أبناء البلدة إعادة إحيائه أكثر من مرة, ببناء مزار على اسم القديس يوحنا قربه.

 

البلدة وأهلها

يتمتع أهالي شليفا بسمعة طيبة, وهم الى كونهم أصحاب كرم وجود, معروفون بصدقهم وطيبتهم. هم “أوادم” بشهادة الجميع على ما يقول مختار البلدة السيد يوسف البرّاك الذي التقيناه خلال جولتنا. ويقول المختار: إن ولاء أبناء شليفا الأول والأخير هو لوطنهم, ومعظمهم خدم أو يخدم حالياً في الجيش أو في المؤسسات الأمنية الأخرى. ويضيف قائلاً: أبناء شليفا معروفون أيضاً بحبهم للثقافة وبسعيهم الى اكتسابها.
في الماضي كانت البلدة مشهورة بكروم العنب التي انحسر وجودها كما انحسرت الزراعة إجمالاً بسبب عدم توفر الري. ومحاصيل البلدة من الزراعة باتت مقتصرة على البطاطا والتبغ والقمح والشعير والأشجار المثمرة.
كسواها من البلدات التي افتقرت الى كثير من الخدمات الأساسية في ظل غياب العمل البلدي, بدأت شليفا تشهد منذ العام 1998 نهضة تجلت معالمها في أكثر من مجال.
ويقول رئيـس بلديتها الدكتور اسكندر الهاشم, إن المجلــس البلدي باشر عملــه منذ انتخابه مركزاً على الأولويـات. وفـي هذا المجال قامـت البلدية بمسـح شامل هدفه تسويـة المخالفات لإرسـاء العمـل وفقاً للقوانين والأنظمة.
الخطوة الثانية كانت إنارة شوارع البلدة وتأمين حل لمشكلة النفايات عبر مكب بعيد عن البلدة, ومن ثم تم حفر بئر ارتوازي لتأمين مياه الري للأراضي الزراعية.
 

ويضيف الدكتور الهاشم قائلاً:
مبنى المدرسة الرسمية في البلدة هو ملك للبلدية وقد حرصنا على تطويره وتوسيعه, وبفضل مساعدة من مؤسسة التنمية الأميركية أضفنا إليه طابقين. الى ذلك جهزنا المدرسة بصالة تضم 12 جهاز كومبيوتر.
ويتحـدث رئيس البلدية عن جملة مشاريع مستقبليـة تتعلـق بطرقـات البلـدة وبانشاء أقنية للمياه في الأراضي الزراعية, الى إقامة منتزه سياحي قرب منطقة الشلال, وصولاً الى جعل شليفا ذات موقع مميز على الخريطة السياحية اللبنانية.

 

الشلال

في الثلاثينات, وأثناء الانتداب, قام الفرنسيون بشق الجبل الذي يفصل شليفا عن منطقة اليمونة, ومدّوا قنوات وقساطل لجر المياه الى البلدة والتي كانت عطشى في وقت تحيط بها المياه الوفيرة من كل جانب. وبعد شق النفق وجرّ المياه تفجر شلال من أعلى الجبل وحوّل المنطقة الى جنة طبيعية زاخرة بتنوّع بيئي مميز.
وفي التسعينات قامت وزارة الموارد المائية بتجديد مجرى المياه ونظمت توزيع الكميات على البلدات المحيطة كافة.
ولا تكتـمل الجـولة في شليفا إلا بزيارة لمنطقة الشـلال, التي سوف تتـحول الى منطقة سياحيـة بعد أن بدأت المقـاهي والمطـاعم تغـزو محيـطها بشكـل سيـاحي منـظم وجمـيل.

 

الموقع والسكان

شليفا بلدة بقاعية تقع على بعد نحو 100 كلم من بيروت, أما المسافة التي تفصلها عن زحلة مركز المحافظة فهي 45 كلم, وعلوها عن سطح البحر يناهز الـ800 متر. يحيط بالبلدة من الشمال بلدتا دير الأحمر وبتدعي, ومن الغرب دار الواسعة وفلاوي, ومن الجنوب بوادي والعلاّق, ومن الشرق إيعات وبعلبك.
يبلغ عدد سكان شليفا بحسب السجلات نحو سبعة آلاف نسمة, فيما يصل عدد المنازل فيها الى نحو 300 منزل.
أما عائلات البلدة فهي: كيروز, برّاك, هاشم, معلوف, عاقوري, مطر, لطّوف, اسكندر, سقلاوي, غصين, بشراوي, رعيدي, خوري, سعد, سكر, حدشيتي, خشّان, حرب, اسحاق, مزرعاني, ريشا, ابو يونس, صفير.