رحلة في الإنسان

شهود العيان...
إعداد: غريس فرح

لماذا تخونهم الذاكرة؟


في معظم الأحيان، تصدر الأحكام القانونية بالاستناد إلى أقوال شهود العيان الذين يمثلون أمام القضاء للإدلاء بمعلوماتهم. وهؤلاء كما هو معروف، يعتمدون على رؤيتهم للأشخاص أو الأحداث ذات الصلة بالجرم. لكن ماذا لو ثبت علميًا أن شهود العيان يخطئون أحيانًا، لا لأنهم يتعمّدون الكذب، بل لأن الرؤية التي تسجّلها ذاكرتهم قد تكون مضلّلة، أو غير ذات صدقية.

 

الطامة الكبرى
إذا كان هذا الافتراض صحيحًا، فلماذا يخطئ بعض الشهود، وعلى أي أساس يبنون شهاداتهم؟
حسب دراسة أجرتها مجلة العلوم الأميركية، فإن معاينة الشاهد للمشتبه به، ترتبط بعملية انتقائه من بين مجموعة صور تحتفظ بها مراكز الشرطة. وهذا يعتمد على الترابط بين الملامح التي يحتفظ بها الشاهد لصاحب الجرم، وبين أحد الرسوم التي يفترض أنها تعكس صفاته. وبعد انتقاء صورة المتهم، أو التعرّف عليه، يطلب عمومًا من الشاهد توقيع اعتراف خطي يؤكّد صحّة انتقائه. وحسب الأعراف السائدة، فإنّ القضاة لدى إصدارهم الأحكام بحق الموقوفين يولون أهمية بالغة لأقوال الشهود لعدم درايتهم أن بعضها قد يكون مخطئًا، وهنا الطامة الكبرى.

 

الذاكرة قد تضطرب لدى الاستجواب
المحلِّلون النفسيون الذين يولون أهمية بالغة لهذه الناحية الإنسانية، يؤكدون أن عدم تشكيك القضاء بإدلاءات شهود العيان (وخصوصًا الذين يقسمون اليمين على صحّتها، ويتمسّكون بأدق تفاصيلها)، ينبع من الاعتقاد الشائع بعمل الذاكرة.
فالذاكرة، بحسب ما هو معروف، تعمل كشريط التسجيل، أي أنها تعيد إلى ذهن الشاهد، نسخة طبق الأصل عن صور الأحداث التي عاينها، وذلك في كل مرة يحاول استعادة تفاصيلها. لكن يبدو أن الاختصاصيين النفسيين يحلّلون هذه الناحية بطريقة علمية بعيدة كل البعد عن الأعراف السائدة.
فالدماغ برأيهم لا يعيد إلى الأذهان شريط الذكريات المسجَّلة، بل يعيد صوغ جزئياتها المفكَّكة بطريقة تؤمن ترابطها لدى محاولة استذكارها. ويحصل أن بعض أجزاء هذه الذكريات قد لا يلتئم في أثناء عملية الاستذكار لعدّة أسباب، الأمر الذي يتسبّب بمغالطات تشوب إفادة الشاهد وقد تزجّ بأبرياء في السجون.
وحسب ما أكّدته مجلة العلوم الأميركية، فإن الدراسات التي أجريت في جامعة كاليفورنيا بهذا الشأن، أكّدت أن إعادة تركيب جزئيات الذكريات وخصوصًا في أثناء الأحداث الجرمية، يعتبر عملاً بالغ الدقة، ويلزمه الكثير من الاسترخاء الفكري، وهو ما يصعب على الشاهد تحقيقه، وخصوصًا إذا لم يكن على معرفة مسبقة بالمتّهم.
هذا لا يعني أن شهود العيان هم دائمًا على خطأ، والدليل أن شهاداتهم في المحاكم كانت وما تزال الركيزة الأساسية التي تُبنى عليها الأحكام. لكن، كما سبق وأشرنا، فقد يكون الشاهد واثقًا من معلوماته في الوقت الذي تثبت الدلائل كافة عدم صدقيتها.
إن تأكيد الشاهد على صحّة أقواله المغلوطة، ينبع كما ذكرنا سابقًا من عجز دماغه عن إعادة صوغ ذكرياته بطريقة صحيحة. وهذا يحصل عمومًا تحت وطأة الضغوط، ومنها على سبيل المثال، الأسئلة التي يوجّهها محامو الدفاع وتمتزج إيحاءاتها بالصور المفكّكة في الذاكرة، الأمر الذي يتسبّب باستعادة ذكريات كاذبة.

 

الذكريات الكاذبة وطرق الحدّ من مخاطرها
أكّدت دراسة أجرتها المحلّلة النفسية الأميركية إليزابيت لوفتنر وأوردتها مجلّة العلوم الأميركية، إمكان ابتداع أدمغة الكثيرين ذكريات كاذبة، وهذا يحصل لدى إخضاع هؤلاء لأنواع من تقنيات غسل الأدمغة. واللاّفت أن المعنيين بهذه الذكريات يصرُّون على صدقيتها الأمر الذي يتسبّب بتضليل القضاء.
من هذا المنطلق، يعتمد بعض المحاكم الأميركية تقنيات مختلفة، الهدف منها تحسين دقة إفادات شهود العيان ومنها: دفعهم إلى متابعة أفلام لمشاهد حية مشابهة للمشاهد التي تضمنتها أحداث الجريمة المعنيين بها. وبحسب المحلّلين فإن هذه التقنية قد تحدث في أدمغة الشهود يقظة تؤمن إعادة تركيب المعلومات التي بحوزتهم بشكل أكثر دقّة.
إلى ذلك، تجري أمامهم عروض لصور المتهمين على شريط  فيديو، ويترك لهم الوقت الكافي للتدقيق بملامحهم قبل الإدلاء بإفادتهم، هذا مع العلم أن هذه الإفادات لا تعتبر كافية في بعض المحاكم، ما لم تقارن بعينات مخبرية ودلائل ملموسة مأخوذة من مسرح الجريمة.

 

دور الخبراء النفسيين
المعلوم أن الاستعانة بخبراء اختصاصيين في علم النفس لتحليل معاينات شهود العيان في المحاكم، قد تتيح للقضاة مجالاً أكبر للتفكير قبل إصدار الأحكام. ويجدر بالذكر عدد من العوامل النفسية الضاغطة التي يأخذها هؤلاء الخبراء بالاعتبار، لتأثيرها السلبي في رؤية الشاهد ودقة ملاحظته، ومنها ما يأتي:
• خضوع الشاهد لضغوط حادة في أثناء وجوده في مسرح الجريمة أو لدى استجوابه لاحقًا.
• وجود السلاح قد يزرع الخوف في نفس الشاهد، ويزعزع رؤيته للأشخاص الضالعين في الحدث الجرمي.
• اعتماد المجرمين أساليب التمويه كالأقنعة وسواها.
• وجود فوارق عرقية بين الشاهد وبعض الموجودين في مسرح الجريمة، الأمر الذي يدفع به إلى اتهامهم.
• للوقت الذي ارتُكب خلاله الحدث الجرمي دور بالغ الأهمية على صعيد توضيح رؤية الشاهد للمجرمين. والمعروف أن معظم الجرائم يُرتكب بسرعة تفوق مقدرة الشاهد على التمييز.
• لا ينسى الخبراء غياب العلامات الفارقة كالنقوش على الأذرع والقامات الفارعة، وسواها من الخصائص اللافتة التي قد تترسّخ في ذهن الشاهد وتوقد ذاكرته.
إذن، شهود العيان، حتى ولو أقسموا اليمين القانونية لاعتقادهم بصحّة أقوالهم، تبقى الشبهات حائمة حول صدقيتها، ما لم تقارن بالدلائل الثابتة. ومن هنا أهمية الاستعانة بالفحوص المخبرية التي لا تضلّلها المشاعر ولا أطياف الرؤى المموَّهة.