- En
- Fr
- عربي
وداع
يرتدي الجندي واجبه لباسًا يلتصق بجلده ويمضي إلى الخدمة من دون أن يعرف إذا كان سيعود منها سالمًا، مع ذلك يمضي ملتزمًا واجبه. لكن ماذا عن الخدمة في بلاد بعيدة؟ وماذا عن استشهاد جندي يشارك في مهمة حفظ السلام؟ من الصعب أن يتخيل الإنسان عمق الألم الذي يسببه فقدان جنود أتوا إلى بلاد بعيدة عن بلادهم لينفّذوا مهمة نبيلة، مهمة حفظ سلام.
الجندي الإيرلندي شون روني Sean Rooney الشاب المليء بالأمل والوعود» كما وصفه القائد العام لليونيفيل الجنرال أرولدو لاثارو، والذي حمل أحد رفاقه صورته في أثناء التشييع، واحد من جنود السلام الذين سالت دماؤهم على أرضنا وامتزجت بدمائنا وترابنا. روني مضى هذه المرة إلى بلاده في رحلة أخيرة حزينة، يحتضنه علما اليونيفيل وإيرلندا. لم يُقدر له أن يفرح بلقاء عائلته وخطيبته في العيد، فقد خطّ القدر نهاية حزينة لمشواره القصير في الحياة، وسيضاف اسمه إلى أسماء ٤٧ من رفاقه سقطوا في لبنان في حوادث مختلفة بينها اعتداءات إسرائيلية على مواقع القوة الإيرلندية التي تُعد من أقدم القوى التي خدمت في الجنوب ضمن قوات الأمم المتحدة، والتي تميزت بعلاقات طيبة مع المواطنين اللبنانيين، وبمساهمتها في مشاريع تخدم أبناء الجنوب. في هذا السياق يُسجل للكتيبة الإيرلندية – البولونية العديد من المبادرات الطيبة، منها على سبيل المثال لا الحصر المساهمة في إنشاء مستوصف تبنين، وحملة للتبرع بالدم والمال للصليب الأحمر اللبناني في العام ٢٠٢٠ بعد فترة من انفجار ٤ آب. المبادرة الثانية خصوصًا كانت بالغة الأثر لدى اللبنانيين ونموذجًا لمشاعر التعاطف والمودة التي يكنها الجنود الإيرلنديون للشعب اللبناني. يومها لم يكتفِ هؤلاء الجنود بالتبرع بما جمعوه من أموال من رواتبهم، فقد تواصلوا مع مواطنين في بلادهم لجمع الأموال للصليب الأحمر اللبناني، كما نظموا العديد من النشاطات التي تبرعوا بعائداتها له.
ومن المعلوم أنّ مهمة اليونيفيل في الجنوب لا تقتصر على الجانب الأمني المتمثل بمراقبة وقف الأعمال العدائية ومراقبة الخط الفاصل بين لبنان والعدو الإسرائيلي، فضلًا عن دعم القوات المسلّحة اللبنانية والحكومة، بل تشمل أيضًا دعم السكان المحليين من خلال مشاريع إنمائية وخدماتية تحسّن ظروف حياتهم. وحين ناقش مجلس الأمن منذ أسابيع التقارير المتعلقة بعمل قوات الأمم المتحدة في مختلف أنحاء العالم، خلص إلى تصنيف أداء اليونيفيل في جنوب لبنان على أنه الأفضل.
رئيس الحكومة وقائد الجيش في الناقورة
كان للحادث الذي أدى إلى استشهاد الجندي الإيرلندي وجرح ثلاثة من رفاقه وقع صاعق عبّر عنه المسؤولون في مختلف المواقع. وفي هذا السياق توجّه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي يرافقه قائد الجيش العماد جوزاف عون إلى الناقورة حيث التقيا القائد العام لليونيفيل وقدما له التعازي، وقد أعرب ميقاتي عن حزنه العميق للحادثة، موضحًا “أنّ التحقيقات اللازمة مستمرة لكشف ملابسات الحادث، ومن الضروري تحاشي تكراره مستقبلًا»، وقال: «أحيي ذكرى شهداء هذه القوات الذين اختلطت دماؤهم بدماء شهداء الجيش والجنوبيين على مر السنين منذ أن انتُدبوا لمهمة حفظ السلام في جنوب لبنان. كما نعرب عن تقديرنا الكبير لمساهمة اليونيفيل في السلام والاستقرار في جنوب لبنان، وأنا هنا لأؤكد مرة أخرى أنّ الشعب اللبناني، وأنا شخصيًا، نقدر عميقًا العمل الذي تقومون به، جنبًا إلى جنب مع الجيش للحفاظ على السلام والهدوء في الجنوب».
وأضاف: «إنّ لبنان ملتزم تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي ١٧٠١، ويحترم القرارات الدولية، ويدعو الأمم المتحدة إلى إلزام اسرائيل بتطبيقه كاملًا ووقف اعتداءاتها المتكررة على لبنان، وانتهاكاتها لسيادته برًا وبحرًا وجوًا»، وختم قائلًا: «البيئة التي يعمل فيها الجنود الدوليون بيئة طيبة، والتحقيقات متواصلة في مقتل الجندي الإيرلندي ومن تثبت إدانته سينال جزاءه».
بدوره تقدم قائد الجيش من قائد اليونيفيل بأحر التعازي متمنيًا الشفاء للجرحى. وثمن «تضحيات عناصر اليونيفيل الشريك الاستراتيجي للجيش في المحافظة على الأمن والاستقرار في الجنوب»، مؤكدًا «استمرار التنسيق والتعاون بينهما».
القائد العام لليونيفيل الذي عبّر عن تقديره للزيارة التضامنية شكر رئيس حكومة تصريف الأعمال وأول المستجيبين للحادثة على التصرّف «سريعًا» معربًا عن تطلعه إلى «دعمهم وتعاونهم في المستقبل، فيما تقوم اليونيفيل بالتحقيق في ما حدث».
وقال: «نحن جميعًا نتعامل مع الحدث المروع، ونحن حزينون على فقدان الجندي الإيرلندي شون روني، وهو جندي شاب كان يرنو إلى مستقبل مشرق أمامه. ونتمنى للجندي شين كيرني، الذي أصيب بجروح خطيرة، الشفاء التام والسريع، مع زملائه المصابين».
كان جنديًا شجاعًا
كان شون روني جنديًا شجاعًا و«مثالًا في الانضباط والالتزام الثابت» وفق ما قال في وداعه عضو المجلس العسكري اللواء الركن بيار صعب ممثلًا وزير الدفاع الوطني موريس سليم وقائد الجيش العماد جوزاف عون. وهو «أدى خلال فترة خدمته في بلدنا دورًا أساسيًا إلى جانب رفاقه في الكتيبة الإيرلندية البولندية، تحت راية اليونيفيل فساهم في حفظ السلام ضمن منطقة الجنوب وآمن بعلاقات الصداقة والتعاون بين إيرلندا ولبنان».
الوداع المؤثر للجندي الإيرلندي والذي أُقيمت مراسمه في القاعدة الجوية في مطار رفيق الحريري الدولي بالتنسيق بين قيادتي اليونيفيل والجيش اللبناني، عكس عمق العلاقة بين الطرفين وإصرارهما على الشراكة القائمة بينهما انطلاقًا من المهمة التي ينفّذانها «في إطار القرار ١٧٠١ والاحترام والثقة المتبادلين اللذين ترسّخا على مدى سنوات طويلة من العمل المشترك بين وحدات الجيش ووحدات اليونيفيل حسب اللواء صعب الذي أكّد أنّ «جميع عناصر اليونيفيل هم موضع تقدير عميق من جانب قيادة الجيش». وإذ أشار إلى أنّ الجهود التي يبذلها هؤلاء العناصر لحفظ السلام تحظى بتقدير اللبنانيين جميعًا ولا سيما أبناء الجنوب الذين بنوا مع وحدات اليونيفيل علاقات مودة وثقة، أكّد أنّ أي اعتداء على اليونيفيل هو اعتداء على أمن بلدنا وهو مرفوض مطلقًا من قبل اللبنانيين. وأكد اللواء الركن صعب أنّ قيادة الجيش وباقي الأجهزة الأمنية ستبذل أقصى جهودها لكشف ملابسات ما جرى في ١٢/١٥/ ٢٠٢٢ وسوق كل من يثبت أنّه مُعتد على عناصر اليونيفيل إلى العدالة لينال جزاءه.
معًا نحزن
أما الجنرال لاثارو الذي كرّم الجندي شون روني في احتفال الوداع المهيب الذي حضرته سفيرة إيرلندا في لبنان السيدة نيولا أوبراين Nuala O,brein وعدد من ضباط اليونيفيل والجيش اللبناني، فقال: «معًا، نحزن على فقدان الجندي روني. لقد قدّم أصعب تضحية يمكن لجندي أن يقدمها. نشكر عائلته وزملاءه وبلده على منحنا امتياز وشرف الخدمة معه، والمساهمة في حفظ السلام في جنوب لبنان».
وأضاف: «ساهم الجندي روني بفخرٍ في المهمة كعضو قيّم في وحدة نموذجية. الكتيبة الإيرلندية هي وحدة تبرز من بين أخريات، ولها تاريخ طويل ورائع من الخدمة المكرسة للسلام في هذه المنطقة».
ونوّه رئيس بعثة اليونيفيل وقائدها العام بتاريخ إيرلندا في حفظ السلام في لبنان، حيث خدمت قوتها فيه منذ العام ١٩٧٨، مشيرًا إلى أنّ هذا التاريخ الطويل لم يكن من دون تضحيات، إذ بلغ عدد الجنود الإيرلنديين الذين سقطوا في لبنان ٤٨ جنديًا كانوا يعملون من أجل السلام في لبنان. كما أكّد التزام اليونيفيل مهمتها بهدف إرساء الاستقرار والسلام الدائم في الجنوب.
مراسم وداع خاصة
حرص الجيش اللبناني على تكريم الجندي الذي سقط على أرض لبنان، فكانت المراسم التي رافقت التشييع غاية في التنظيم والوقار وقد جرى تنظيمها في القاعدة الجوية في مطار رفيق الحريري الدولي. وفي حين قدمت ثلة من الشرطة العسكرية وموسيقى الجيش التحية للشهيد، رسمت أكاليل الزهر الأبيض مشهدًا زاده تأثيرًا حضور صورة الجندي روني بوجهه المشرق يحملها أحد رفاقه. وقد منح الجنرال لاثارو الشهيد وسام الأمم المتحدة، كما منحه اللواء بيار صعب أوسمة الحرب والجرحى والتقدير العسكري من الدرجة البرونزية، وقدم له التنويه باسم قائد الجيش.
غادر الجندي روني بلادنا على متن طائرة أتت خصيصًا من إيرلندا لنقله إلى حيث شيّعته بلاده وعائلته بكثير من الحزن. جاء إلى لبنان في مهمة نبيلة، وغادر شهيدًا سيظل ذكره حيًا ليس فقط بين رفاقه، وإنما بين الكثيرين من أبناء الجنوب الذين عرفوه.
تكريمًا لتضحياتهم
حمل قائد الجيش العماد جوزاف عون تحية عطرة إلى جنود الكتيبة الإيرلندية - البولونية الذين تعرضت آليتهم إلى إطلاق نار في بلدة العاقبية بتاريخ ١٤/١٢/٢٠٢٢ ما أدى إلى استشهاد الجندي Sean Rooney وإصابة رفاقه الثلاثة. فقد زار العماد عون قيادة الكتيبة في الطيري (قضاء بنت جبيل) حيث قام بتكريم الجنود الأربعة في حضور قائد قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان - اليونيفيل اللواء أرولدو لاثارو وقائد القطاع الغربي في اليونيفيل العميد Giuseppe Bertoncello وقائد الكتيبة الإيرلندية- البولونية وضباطها وعسكرييها، وقادة وحدات الجيش المنتشرة في الجنوب.
وبعدما أدت ثلة من عناصر الكتيبة التشريفات، وضع قائد الجيش إكليلًا من الزهر على نصب شهداء الكتيبة ووقف مع الحضور دقيقة صمت، ثم دوّن كلمة في سجل التعازي.
ونوّه قائد الجيش بتضحيات الكتيبة الإيرلندية - البولونية التي تخدم ضمن اليونيفيل منذ العام ١٩٧٨، وهي قدّمت خلال خدمتها ٤٨ شهيدًا من أفرادها. وقال: «أحيّي عناصر الكتيبة، حفظة السلام الأبطال، البعيدين عن أوطانهم وعائلاتهم من أجل الحفاظ على السلام في لبنان ودعم سكان الجنوب».
كما أشاد العماد عون بتضحيات عناصر وحدات اليونيفيل التي تعمل بشكلٍ وثيق مع الجيش اللبناني للحفاظ على الأمن والاستقرار في الجنوب، وجدد التأكيد أنّ التعاون مستمر بين الجيش واليونيفيل بوصفها شريكًا استراتيجيًا أساسيًا، وذلك لتطبيق القرار ١٧٠١.
من جهة أخرى، شكر اللواء لاثارو الجيشَ بشخص العماد عون على تضامنه مع اليونيفيل، مشددًا على استمرارها في أداء مهمتها بكل مهنية ضمن إطار القرار ١٧٠١ بالتنسيق مع الجيش اللبناني، مقدّرًا الجهود التي يقوم بها الجيش لجهة التحقيق في الحادثة.
وفي الختام، سلّم العماد عون قائدَ الكتيبة الإيرلندية - البولونية وسام الجرحى لكلٍ من الجنود الجرحى الثلاثة، وذلك عربون وفاء وتقدير لخدمتهم وتضحياتهم ضمن إطار مهمة حفظ السلام التي تنفّذها كتيبتهم في جنوب لبنان.
مثال للتفاني والإخلاص
فور الإعلان عن خبر استشهاد الجندي روني أعربت قيادة الجيش في تغريدة على تويتر عن «تعازيها الحارة بوفاة أحد عناصر الوحدة الإيرلندية العاملة ضمن قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان»، وتمنت «لرفاقه الثلاثة الجرحى الشفاء العاجل». وعبّرت عن تقديرها لجنود الأمم المتحدة بالقول: «هؤلاء الجنود كما باقي رفاقهم مثال للتفاني والإخلاص في أداء الواجب، وإنّ تضحياتهم محل تقدير عميق من المؤسسة العسكرية واللبنانيين جميعًا».