قصة قصيرة

شيما وراجو
إعداد: إميل منذر
عميد ركن متقاعد

كُنَّ على متنِ القاربِ سبعًا عائداتٍ من المزرعةِ، حيث يعملْنَ، إلى قريتِهنّ الصغيرةِ التي تتبعثرُ بيوتُها فوقَ بضعِ هضابٍ غيرِ عاليةٍ في سهلٍ فسيحٍ يمتدُّ بينَ مجرى النهرِ وأقدامِ الجبل. بيوتٌ متواضعةٌ مبنيّةٌ من طينٍ وأسطحُها مغطّاةٌ بأغصانِ أشجارٍ وقشّ. أما الحياةُ في تلك القريةِ فرتيبةٌ وبسيطةٌ، لكنْ هانئة.
كان الصمتُ يخيّمُ على رحلةِ العودةِ هذه، لا يقطعُه بينَ الحينِ والحينِ إلا زقزقةُ عصفورٍ على شجرةٍ من أشجارِ الضِفّتَينِ، أو ضربُ المياهِ العميقةِ بمجذافَينِ يمسكُ بهما عجوزٌ يجلسُ في مقدّمةِ القارب.
قالتْ «سولانا»، إحدى الصبايا: غنّي يا «شيما».
- كيفَ أغنّي يا أختاهُ ونفسي حزينةٌ حتى الموت!
- قتلَ اللهُ الحزن. غنّي وارقصي وافرحي؛ فالعمرُ قصير.
- أجل. غنّي لنا يا شيما، غنّي، قالتِ الفتياتُ الخمسُ الأخرياتُ بصوتٍ واحد. أما العجوزُ فهزَّ رأسَه أنِ افعلي، وقدِ ارتسمَ على شفتيه ظلُّ ابتسامةٍ ذابلةٍ، وعيناه الغائرتان في محجرَيهِما كادتا تدمعان. لقد كان يحبُّ شيما كإحدى حفيداتِه، ويشقُّ عليه أن يراها حزينةً لأنها طيّبةُ القلبِ، نقيّةُ الروحِ، تحبُّ كلَّ الناسِ وتتمنّى الخيرَ لهم.
أغمضتْ شيما عينيها للحظةٍ، ثم غنّتْ بصوتٍ شجيٍّ تمايلتْ له الأغصانُ المتدلّيةُ فوقَ الماءِ، ورقصتِ الأسماكُ حولَ القارب:
أيُّها النهرُ العظيمُ لماذا تسرعُ في جريانِك؟
لماذا تدفعُ الزورقَ بهذه القوّة؟
ألا تعرفُ أنني لم أعُدْ على عَجَلة من أمري!؟
لم أعُدْ أحبُّ أن أصلَ إلى قريتِنا على جناحِ السرعة
فحبيبي الذي يملكُ قلبي لم يعُدْ يحبُّني
لم يعُدْ ينتظرُني عندَ ضِفّتِك كما من قبلُ
لم يعُدْ يريدُني
أسمعتَ أيها النهر؟
حبيبي ما عادَ يريدُني.
ما كادتْ شيما تلفظُ العبارةَ الأخيرةَ حتى اختنقَ صوتُها وانقطعتْ عنِ الغناء. أما العجوزُ فنهضَ واقتربَ منها، وارتمى على ركبتَيه أمامَها، واحتضنَ يديها بينَ كفَّيه الخشنتين: «لا تحزني يا صغيرتي. تسلّحي بالأملِ والرجاءِ؛ فلا بدَّ لكلِّ شدّةٍ من نهايةٍ، ولكلِّ غيمةِ صيفٍ من عبور».
أوقفَ العجوزُ قاربَه في محطّتِه المعتادةِ؛ فترجّلتِ الصبايا ومن بعدِهنّ شيما التي حملتْ تعبَ يومِها وحزنَ قلبِها وأطرافَ ثوبِها الطويلِ، واجتازتْ بهنّ الطريقَ الترابيَّ مطأطئةً رأسَها لا تنظرُ إلا إلى الأرضِ أمامَ قدميها حتى وصلتْ إلى بيتِها.
لم تكنْ تريدُ أن تقعَ عيناها على «راجو» في مشغلِه المطلِّ على الطريق. هي ما زالتْ تحبُّه بكلِّ جوارحِها، وصورتُه لا تفارقُ خيالَها. أنّى لها أن تمحوَ من ذاكرتِها صورةَ ذاك الوجهِ البهيِّ المستديرِ، وتَيْنِكَ العينين اللوزيّتين والأنفِ الدقيق!! بل أنّى لها أن تمحوَ خمسةَ عشَرَ عامًا منَ الحبِّ والسعادة! مع ذلك كانت تريدُ أن تجتازَ مشغلَه من غيرِ أن تلتفتَ إليه.
قبلَ خمسةَ عشَرَ عامًا كانت شيما ابنةَ خمسٍ، وراجو ابنَ ثمان. جميلةُ الوجهِ ناعمةُ القَسَماتِ هي. سمراءُ البشرةِ ككلِّ الناسِ في تلك البلاد. أما الشعرُ فكستنائيٌّ أملسُ يتدلّى جَدِيْلةً واحدةً حتى وسَطِ ظهرِها. وأما العينان فنجلاوان تشعّان فرحًا ونباهة.
وكان راجو غلامًا قويَّ البنيةِ، خفيفَ الظلِّ، لا تفارقُ البسمةُ شفتيه السمراوَين. كلَّ صباحٍ يتأبّطُ كتبَه ويذهبُ إلى مدرسةِ القريةِ الابتدائيةِ، فلا يدخلُ الصفَّ إلا بعدَ رؤيةِ شيما، ولا يعودُ إلى بيتِه إلا بعدَ التحدّثِ إليها ولو لدقيقتين. أما أيّامُ العطلةِ فكانا يُمضيانها معًا. وفي نهايةِ السنةِ تركَ راجو المدرسةَ ليتعلّمَ من أبيه مهنةَ النجارة. أما شيما فتعلّمتْ ثلاثَ سنواتٍ أُخَرَ قبلَ أن تتركَ المدرسةَ بدورِها لتساعدَ أمَّها في أعمالِ البيتِ وأباها، أيضًا، في جمعِ محصولِ الأرضِ وجَنْيِ المواسم.
ومرّتِ الأيّام. وإذا الجمالُ الذي كان بُرْعُمًا، قد أزهرَ وأصبحَ أكثرَ نضارةً وأشدَّ سطوة. شيما حديثُ الناسِ وقِبلةُ الأنظارِ في القريةِ والجوار. جمالٌ آسِرٌ، وذكاءٌ متوقِّدٌ، ومهارةٌ لا تُضاهى. وراجو قَيْدُوْمُ القريةِ وفتاها الأغرّ. بفضلِه كانت لها قصبةُ السَبْقِ دائمًا في مبارياتِ الفروسيةِ وألعابِ القوى بينَ القرى. وكان يلتقي شيما في المعبدِ والسهراتِ وسائرِ الاحتفالات. وما كان عرسٌ ليلمَّ الناسَ كبيرَهم وصغيرَهم إلا إذا رقصَ فيه راجو وغنّتْ شيما.
وكما كبرَ الجمالُ، كبرَ الحبُّ في القلبين ونما. واشتهرت قصّةُ العاشقَين في تلك النواحي مثلما اشتهرت من قبلُ عندَ العربِ قصّةُ قيسٍ وليلى. وكان يومٌ التقى فيه راجو حبيبتَه في ساحةِ المعبدِ وقد زادَها سِحْرًا فستانُها الطويلُ المُزَرْكَشُ والمِنديلُ المطرّزُ بالخَرَزِ الدقيقِ يغطّي شعرَها. فأخذَ راجو يدَها بينَ كفّيه، وقالَ لها: «أحبُّكِ يا زنبقةَ الحقولِ وحوريّةَ النهرِ، أحبُّك. ومثلما يشتاقُ السهلُ إلى مطرِ الخريفِ، أشتاقُ إليكِ». إذْ ذاك دسّتْ شيما أصابعَها بينَ خصلِ شعرِه، وقالت: «أحبُّكَ يا رفيقَ النمورِ وربيبَ النسورِ، أحبُّك. وكوفاءِ أرضِنا المعطاءِ لتعبِ الفلاّحين سأبقى وفيّةً لك». هكذا قالت، ثم أمسكت يدي حبيبِها بكلتا يديها وغنّت؛ فما كان من الناسِ إلا أن تحلّقوا حولَها يُصغون إلى عذبِ غنائها.
* * *
ما مرَّ طويلُ زمنٍ حتى أُصيبَ والدُ شيما بمرضٍ عُضالٍ ألزمَه الفراشَ زمنًا، ولم تنجحْ حيَلُ الأطبّاءِ في التغلّبِ على المرضِ وإعادةِ الرجُلِ إلى سابقِ صحّتِه وعافيتِه. ولما كانت شيما كبيرةَ أبناءِ والديها الثمانيةِ، قرّرتْ أن تعملَ في ما يؤمّنُ لأفرادِ الأسرةِ الكبيرةِ رغيفَ الخبزِ، ولأبيها حبّةَ الدواء. وهكذا انضمّتْ إلى ستِّ بناتٍ من قريتِها يعملْن في تلك المزرعةِ التي يمرُّ النهرُ بمحاذاتِها.
كان راجو قبلَ كلِّ غروبِ شمسٍ ينتظرُ حبيبتَه عندَ الضفّةِ على أحَرَّ منَ الجمر. وإذْ يصلُ القاربُ، يستقبلُها ويتأبّطُ ذراعَها، ويأخذُ بمحادثتِها وممازحتِها حتى بلوغِ بيتِها. وأكثرَ من مرّةٍ قالَ لها: عمّا قريبٍ ترتاحين من كلِّ هذا التعبِ يا حبيبتي. سأبني لكِ بيتًا صغيرًا جميلًا، وآتي بكِ إليه لتكوني سيّدةً فيه.
لكنْ أوّلَ من أمسِ لم يكنْ راجو عندَ الضفّةِ بانتظارِها كعادتِه. ترجّلتْ منَ القاربِ ولم يكنْ هناك. إنها المرّةُ الأولى التي يتخلّفُ فيها عنِ المجيء. لذلك استولى عليها خوفٌ شديدٌ من أن يكونَ قد أصابَه مكروه: «يا ربّ»، قالتْ همسًا بشفتين مرتجفتين وهي تحثُّ خطاها، والدمعُ في عينيها يكادُ يمنعُها من تبيُّنِ مواطئِ قدميها. ولما بلغتْ مشغلَه، التفتَتْ؛ فإذا هو في الداخلِ يعمل. ارتاحتْ نفسُها ولم ترتَح. وقفت في البابِ صامتةً؛ فرفعَ بصرَه إليها ثم خفضَه وعقدَ حاجبيه، وعادَ يضربُ المساميرَ في الخشبِ أشدَّ، والخشبُ يتكسّرُ تحتَ المِطرقة. خطَتْ إلى الداخلِ وقالت له مبتسمة: «ليُعطِكَ اللهُ العافيةَ يا حبيبي». لم يردَّ، ولم ينظرْ إليها. قالت: «ما الأمرُ يا راجو!! لمَ أنت حزينٌ وغاضب!! هل أسأتُ إليك بكلمةٍ أو تصرّفٍ يا حبيبي وأنا لا أعلم؟».
- لقد أسأتِ إلى نفسِكِ قبلَ أن تسيئي إليّ.
- ماذا!! أوضحْ أرجوك. قالت وقدِ اكفهرَّ وجهُها، وبدت وطأةُ المفاجأةِ في نظراتِ عينيها.
- من أين لكِ هذه القلادةُ الثمينةُ في عنقكِ؟ لعلَّ صاحبَ المزرعةِ أهداكِ إيّاها. قيلَ لي إنكِ تقضين من الوقتِ في بيتِه أكثرَ ممّا تقضين في مزرعتِه.
- ما هذا الكلامُ يا راجو!!! صاحبُ المزرعة...
- اسكتي. صرخَ بأعلى صوتِه.
ذ ذاك فارتِ الدموعُ من مقلتَي شيما؛ فأطبقتْ أصابعَها على ثغرِها علّها تمنعُ صرخةَ روحِها من تجاوزِ شفتيها. إنها المرّةُ الأولى التي يصرخُ فيها بوجهِها ويوجّهُ إليها مثلَ هذا الكلام.
- أحبُّكَ يا راجو، قالَ ساخرًا. وكوفاءِ أرضِنا المعطاءِ لتعبِ الفلاّحين سأبقى وفيةً لك... يا لَهذا الحبِّ ما أصدقَه وهذا الوفاءِ ما أعظمَه!!
- أنا أحبُّك يا راجو، قالتْ باكية. وما زلتُ وفيّةً لك. وهكذا سأبقى حتى آخرِ يومٍ من حياتي.
- اسكتي يا...
- يا ماذا؟ قُلْها يا راجو. يا ماذا؟
- يا كاذبة. يا خائنة.
- آه!! شهقت، ولم تعُد تستطيعُ كلامًا.
- هيّا اخرجي، ولا تدعيني أرى وجهَكِ بعدَ اليوم. كم كنتُ أحمقَ حينَ صدّقتُكِ وأخلصتُ لكِ!
ولمّا بقيتْ جامدةً في مكانِها غيرَ مصدّقةٍ لما ترى وتسمعُ، أخذَها راجو بيدِها وجرَّها إلى الخارجِ وأوصدَ البابَ؛ فراحت تضربُه بكلتا يديها وتقولُ باكية: دعْني أكلّمُك. دعني أشرحُ الحقيقةَ لك.
- الحقيقةُ لا تحتاجُ إلى شرح. إنها واضحةٌ مثلَ عينِ الشمس.
- إنك تظلمُني يا راجو. حرامٌ عليك.
- قلتُ اذهبي، ولا تتلفّظي باسمي بعدَ اليوم.
وذهبتْ شيما إلى بيتِها تجرُّ قدمَيها، وتسقي ترابَ الطريقِ من دموعِها. فهالَ أمَّها ما رأتْ من حالِ ابنتِها. سألتها عمّا بها؛ فأجابتها بما لم يشفِ غليلَها.
- أنا أمُّك يا شيما. باللهِ عليكِ أن تخبريني ما بكِ.
- قلتُ ما بي شيءٌ يا أمّي. ما بي شيء.
- بدّلي ملابسَك، وتعالي لنتناولَ طعامَ العشاء.
لكنَّ شيما دخلت، وبدّلت ملابسَها، ودسّت نفسَها في السريرِ تشكو ألمَها إلى وسادتِها، وقرّرت ألا تذهَب إلى المزرعةِ بعدَ اليوم.
* * *
كلُّ هذه الحكايةِ بأدقِّ تفاصيلِها مرّت في خاطرِ شيما وهي تسلكُ الطريقَ بينَ الضِفّةِ والبيت. لقد مرَّ يومان ولم يتبدّلْ شيء. لا هي عرّجت بعدَ ذلك على راجو، ولا هو عادَ ينتظرُها عندَ ضفّةِ النهر. وها هي للمرّةِ الثالثةِ تمرُّ من أمامِ مشغلِه من غيرِ أن ترفعَ بصرَها عنِ الأرض. وكان هو كلّما رآها، يأخذُ قلبُه بضربِ جنباتِ صدرِه. لكنّه كان يمنعُ قلبَه المحطّمَ منَ اللحاقِ بها والتدحرجِ فوقَ آثارِ خطواتِها.
ومضى يومان آخران من غيرِ أن تجفَّ لشيما دمعةٌ أو تنطفئَ لغضبِ راجو شرارة. ثم ما لبثَ أن زالَ الغضبُ ليحلَّ محلَّه شعورٌ بالخيبةِ والندمِ على انقضاءِ خمسةَ عشَرَ عامًا من عمرِه أمضاها صادقًا وفيًّا و... مخدوعًا. لذلك ابتعدَ عنِ الناسِ، وأخذَ يرهقُ نفسَه في العملِ منَ الغَلَسِ حتى الغَسَقِ، ثم يؤوبُ إلى بيتِه ويرمي نفسَه في السريرِ مُنْهَكًا وقانطًا.
* * *

ذاتَ صباحٍ جاءت سولانا ووقفت في بابِ مشغلِه.
- صباحُ الخيرِ أيُّها الوسيم.
- أتتزوّجين بي يا سولانا؟
- ماذا!! أهكذا من دونِ مقدّمات!؟ سألت وقلبُها يرقصُ فرحًا.
- أجل من دونِ مقدّمات. أتتزوّجين بي؟
- وشيما؟
- لم أعُدْ أريدُها.
- جيّدٌ أنك عرفتَ، ولو متأخّرًا، مَن هي التي تحبُّك حقًّا.
ولمّا خفضَ راجو رأسَه ولاذَ بالصمتِ، اندفعتْ سولانا تعانقُه وتقبّلُ جبينَه وعينيه وخدّيه، فيما بقيَ هو واقفًا بينَ يديها كالصنم.
سولانا فتاةٌ ذكية. لا جميلةٌ ولا قبيحةٌ هي. وُلدتْ في العامِ نفسِه الذي وُلدَ فيه راجو. كانت في صفِّه، وتجلسُ دائمًا إلى جانبِه. تحبُّه، وتحاولُ لفتَ نظرِه إليها بشتّى الوسائلِ، لكنها لم تُفلح. قلبُ راجو كان في مكانٍ آخرَ، أو قُلْ في أيِّ مكانٍ تكونُ فيه شيما. لكنَّ سولانا لم تيأس. ظلّت تحاولُ، وترفضُ كلَّ مَنْ يأتيها خاطبًا ودَّها، حتى صحَّ فيها قولُ الشاعر:
جُنِنّا بليلى وَهْيَ جُنَّتْ بغيرِنا وأُخرى بنا مجنونةٌ لا نريدُها.
وها هي محاولاتُها اليومَ قد أثمرت. وهل ثمرةٌ أشهى من أن يطلبَ راجو يدَها!!
* * *
مضى على انقطاعِ شيما عنِ العملِ زُهاءَ أسبوع. ولمّا سألَ صاحبُ المزرعةِ عنها رفيقاتِها، قُلنَ له إنها مريضةٌ؛ فاغتمَّ كثيرًا.
صباحَ اليومِ التالي كان العجوزُ، الذي دأبَ على نقلِ الفتياتِ العاملاتِ بزورقِه كلَّ صباحٍ ومساءٍ، يقودُ زورقَه منَ المزرعةِ باتّجاهِ القريةِ، وإلى جانبِه عجوزٌ نيّفَ على الثمانينَ منَ العمرِ، وقد أخذتْ منه السنونُ همّتَه مثلما أخذَ الموتُ زوجتَه والغربةُ ولدَيه؛ فلبثَ في بيتِه وحيدًا يعدُّ الأيّامَ، والأيّامُ تأبى أن تنتهي. وإذ وجدَ في شيما العاملةَ النشيطةَ والشابّةَ الأمينةَ، طلبَ منها أن تجيئَه كلَّ يومين لبعضِ الوقتِ فتُعِدَّ طعامَه، وتغسلَ ثيابَه، وتنظّفَ البيت. هذا العجوزُ هو صاحبُ المزرعة.
أحبَّ العجوزُ شيما، وعطفَ عليها وأكرمَها. وكان دائمًا يقولُ لها: «لو كان لي بنتٌ، لَما أحببتُها أكثرَ منك»؛ فتبتسمُ وتجيبُه: «أطالَ اللهُ عمرَك يا عمّي الشيخَ، وجمعَك بولديك»؛ فيهزُّ رأسَه: «ليستجبِ اللهُ دعاءك يا ابنتي».
وكان أنْ ذهبَ العجوزُ إلى المدينةِ منذُ أسبوعين، وابتاعَ حاجاتِ البيتِ التي لا تنتجُها مزرعتُه، واشترى قلادةً ثمينةً لشيما.
- ما هذه يا عمّي الشيخ!!
- هديةٌ متواضعةٌ تستحقّين أثمنَ منها يا صغيرتي.
- لا، أرجوك. إنك تَنْقُدُني أجري وأزْوَد.
لكنَّ العجوزَ تجاهلَ الجوابَ، وعلّقَ القلادةَ بعنقِ شيما.
* * *
ترجّلَ صاحبُ المزرعةِ منَ الزورقِ عندَ المحطّةِ النهريةِ، واتّجهَ نحوَ القريةِ باحثًا عن شيما، مستعينًا بعصاه في حملِ جسمِه المتهدّم. في طريقِه استوقفَ، قُبالةَ مشغلِ راجو، صبيًّا سألَه إن كان يعرفُ الفتاة. فلما رآه راجو وسمعَه يلفظُ اسمَ شيما، خفقَ قلبُه؛ فرمى المنشارَ من يدِه، ونفضَ ثيابَه على عجَلٍ، وأسرعَ نحوَ الخارج: «سمعتُك تسألُ عن شيما أيُّها الشيخ. أنا أرشدُك إلى بيتِها. ولكن قُلْ لي فيمَ تريدُها؟».
- أنا صاحبُ المزرعةِ التي تعملُ الفتاةُ فيها، وقدِ انقطعتْ عنِ العملِ لأكثرَ من أسبوعٍ؛ فقلقتُ عليها وجئتُ أسألُ عنها.
- أنت مالكُ المزرعةِ أيُّها الشيخ!!
- المُلكُ للهِ يا ابني. أجل، أنا مالكُ المزرعة.
في هذه الأثناءِ امتلأ قلبُ راجو بالفرحِ وكان من قبلُ لا يسكنُه سوى الحزنِ واليأس. أرادَ في هذه اللحظةِ أن يغنّيَ، أن يرقصَ، أن يأخذَ يدَي العجوزِ ويقبّلَهما: «أقلتَ إنك صاحبُ المزرعة!!».
- هل أعطيك بطاقةَ هُويّتي وأجلبُ لك صكَّ المُلكيةِ أيُّها الشاب؟ قالَ العجوزُ مبتسمًا ومتعجّبًا.
- لا، لا. انتظرْني لحظةً أرجوك حتى أقفلَ المشغلَ وأرافقَك.
- لا داعيَ لأن ترافقَني يا ابني. يكفي أن ترشدَني من هنا.
- لا يصحُّ ذلك. سأرافقُك بكلِّ سرور.
هكذا قالَ وهو يخطو سريعًا باتّجاهِ المشغلِ؛ فأقفلَ بابَه، ورافقَ العجوزَ وهو يتمنّى لو كان من اللائقِ أن يحملَه ويركضَ به، أو أنّ المِسافةَ إلى بيتِ شيما أقصر.
بلغَ الرجلان البيت. وكمْ تردّدَ راجو قبلَ أن يقرعَ الباب. ولما قرعَه، فتحت شيما لتتفاجأ أيَّما مفاجأة.
- صباحُ الخيرِ يا ابنتي. لقد شغلتِ باليَ حقًّا.
- أهلًا يا عمّي الشيخ. قالتْ وأمسكتْ يدَ العجوزِ تساعدُه على الدخولِ، ولم ترفعْ بصرَها إلى راجو، ولم ترحّبْ به.
- وأنا يا شيما؟ ألا تدعينني للدخول؟
- بيتُنا مفتوحٌ لكلِّ الناس: أصدقاءَ وغرباء.
- عساكِ بخيرٍ يا ابنتي، قالَ العجوزُ لشيما.
- الحمدُ لله. ما زلتُ حيّةً كما ترى.
- أرجو أن تعودي إلى عملِك في المزرعةِ؛ فهي كئيبةٌ من دونِك، وبيتي تسكنُه الوحشةُ، وأنا مشتاقٌ إلى الطعامِ الذي تُعدُّه يداك. أم أنكِ تريدين حرماني اللقمةَ الطيّبةَ، قالَ ضاحكًا؛ فابتسمت شيما.
- أعدُك بأنني سأعود. قالت والتفتت ناحيةَ راجو. وإذ رأتْه مسمّرًا في مكانِه، قالت: «لماذا تقفُ في الباب! ألم أقُلْ إنّ بيتَنا مفتوحٌ للغرباءَ أيضًا؟». عندئذٍ دخلَ مسحوقَ الفؤادِ، وجلسَ على أقربِ مقعدٍ إلى البابِ، وحنى رأسَه فوقَ صدرِه معتصمًا بالصمت.
قامَ والدا شيما بواجبِ الضيافةِ قبلَ أن ينسحبا إلى الداخلِ لأنّ وجودَ راجولم يَرُقْهما. ثم غادرَ العجوزُ بعدما اطمأنَّ قلبُه وارتاحَ بالُه؛ فما كان من راجو إلا أن نهضَ من مقعدِه ودنا من شيما، وأخذَ يديها بينَ كفّيه: «سامحيني يا شيما. سامحيني يا حبيبتي. أنا لا أستحقُّ حبَّكِ ووفاءك. اليومَ عرفتُ كلَّ الحقيقة. شكرًا للربِّ الذي فتحَ بصري وبصيرتي».
- لقد ظلمتَني كثيرًا وكنتَ قاسيًا عليَّ جدًّا.
- ها أنا جئتُ أعتذرُ يا حبيبتي؛ فأرجوكِ أن تغفري لي. قالَ، ورفعَ يدَي شيما إلى ثغرِه يقبّلُهما كما لم يفعلْ مرّةً من قبل.
- لا بدَّ من أنَّ أحدًا نمَّ لك وأوْغَرَ صدرَك.
- إنها سولانا. هذه الشيطانةُ غلبَها الشرُّ وهي غلبتْني. أعمتْها الغيرةُ فأعمتني.
- أنا لا ألومُها بقدْرِ ما ألومُك.
- أجل. أنا المَلُوْم والمذنبُ يا حبيبتي؛ فأرجوكِ أن تغفري لي.
عندما أبصرتْ شيما الدمعةَ في عينِ راجو وسمعتْ نغمةَ الهزيمةِ في صوتِه، لانَ قلبُها، وتقطّرتِ الدموعُ من عينيها؛ فنهضت وعانقت حبيبَها، وقبّلتْ جبينَه ومفرقَ شعرِه.
غادرَ راجو محمولًا على أجنحةِ السعادة. وأدركَ العجوزَ في منتصفِ الطريقِ؛ فاصطحبَه إلى بيتِه، وأوْلَمَ له وأكرمَه أيَّما إكرام. وبعدَ ذلك غادرَ العجوزُ إلى مزرعتِه.
صبيحةَ اليومِ التالي قصدتْ شيما المزرعةَ برفقةِ خمسِ فتياتٍ لمعاودةِ العمل. سولانا لم تكنْ بينهنّ. أمسِ التقاها راجو، وقالَ لها إنه سيقتلُها إذا ذكرتْ شيما بعدَ اليومِ بسوء. أما العجوزُ، صاحبُ المزرعةِ، فعادتْ إليه بسمتُه وبهجتُه. بل عادت إليه حياتُه.
عندَ العصرِ كان الزورقُ يحملُ الفتياتِ الستَّ عائدًا بهنَّ إلى القريةِ، عندما طلبتْ رفيقاتُ شيما منها أن تغنّيَ؛ فغنّت:
أيُّها النهرُ العظيمُ لماذا تجري بطيئًا؟
بل لِمَ مجراك متعرّجٌ يمينًا ويسارًا؟
أيُّها النهرُ العظيمُ اصنَعْ معي معروفًا
وأعِدْني إلى القريةِ سريعًا
فحبيبي عندَ المحطّةِ ينتظرُني
ليأخذَني بينَ يديه القويّتين
ويقولَ لي إنه يحبُّني.
هكذا كانت شيما تغنّي والفتياتُ يردّدْنَ الأبياتَ من بعدِها. أما العجوزُ فكان يضربُ المياهَ بالمجذافَين بقوّةٍ، وعيناه تلمعان بالدمع. لكنْ هذه المرّةَ من فرح.