ضيف العدد

صاحب الحق
إعداد: جورج شامي

ما ضاع حق فتى له زند له       كفّ لها سيف له حدّان

هذا البيت من الشعر ورد في احدى المفكّرات التي كانت تصدرها المؤسسة العسكرية في أوائل السبعينيات من القرن الفائت، وكنت لا أزال أحتفظ بما تبقى من أوراقها التي نجت من الاغتيال بالقنابل وراجمات الصواريخ التي دمّرت الكثير الكثير من المفكّرات والمذكّرات والمدوّنات، وهو يعود بي إلى حوار دار بيني وبين أحد أحفادي وحفيداتي، حين دخل عليّ في ذلك اليوم مشحوناً بأفكار سوداء عن الحرب، وأنا منكبّ على مطالعة كتاب «السر الأكبر» الذي يتضمن معلومات مذهلة عن خفايا الكون والأحداث! اندفع إليّ كعادته، مدفوعاً بخفة المحبة والعاطفة، وطوّقني بذراعه اليسرى وقبّلني بهدوء، ثم همس في أذني، متسائلاً، كالكبار الكبار:
- صحيح في حرب؟!
ومن دون أن ألتفت إليه سألته بدوري، وأنا لا أزال غارقاً في القراءة كي لا أثير مخاوفه:
- من حدّثك عن الحرب؟
فأجاب بثقة وصدق:
- رفاقي في المدرسة.
فطمأنته:
- لا تخف يا بطل... ما في حرب... رفاقك يكذبون... وهم يحاولون أن يخيفوك!
ولكنه بدا غير مقتنع، فبدّل الحديث، واللغة، وسألني بوجل، هذه المرة وبالفرنسية، لغة جنسيته الثانية التي يتقنها أفضل كثيراً، ويا للأسف، مما يتقن العربية:
- إذا في حرب... بدّي سافر عَ باريس.
فهدّأت من مخاوفه مجدداً:
- ما في حرب...
وفجأة بدّل الحديث، وسأل:
- هل عندك مسدّس؟
وبدافع من رفع معنوياته، أجبته بدون تردّد:
- أجل... عندي مسدّس.
فتشجّع وسأل:
- مسدّس واحد فقط؟
فأدركت قصده وأجبته:
- اثنان...
فابتسم وعلّق:
- مثل الكاوبوي.
ثم تمادى أكثر بالأسئلة:
- هل عندك رشّاش؟
فطمأنته:
- أجل! عندي رشّاش.
فاستطاب النبش في المكتوم من الأسرار:
- وهل عندك سيف؟
فجاريته:
- أجل عندي سيف وغمده مذهّب أيضاً!
فتابع:
- وهل عندك خنجر؟
فأجبته:
- أجل! عندي خنجر!
وهنا دفعه فضوله إلى احراجي واختبار مصداقيتي:
- أين تخبّئ هذه الأسلحة؟ دعني أراها.
وبدون أي احراج أجبته:
- انها مخبّأة في صندوق... مطمور تحت الأرض في المرآب!
وصمت برهة لاحظت خلالها في عينيه سؤالاً كبيراً يتردّد في أن يطرحه، ولكنه ما لبث أن صفعني به:
- هل قتلت أحداً؟
فطمأنته، وأنا أربّت على كتفه:
- أنا لا أقتل...
فسأل باستغراب:
- ولماذا اشتريتها اذن؟
فأجبته:
- أنا لم أشترها... كلّها كانت هدايا!
فحرّكه الطمع البريء:
- هدايا؟ أهدني مسدّساً... طالما أن عندك اثنين.
فتأمّلت وجهه وبراءته قبل أن أجيب بحزم:
- لن أهديك... ولا حتى سكّيناً تقشّر بها برتقالة... ماذا تريد أن تفعل بالمسدس؟
وهنا لاحظت أنه قد حرن، وأخذ يدق الأرض بإحدى قدميه احتجاجاً، ويرقّص جسده بدلع ثم أجاب:
- أريد أن أدافع عن نفسي...
فأجبته:
- الوطن يدافع عنك.
فباغتني:
- ومن يدافع عن الوطن؟
فأجبته:
- الجيش...
ولم يبدُ مقتنعاً، وعاد الى محاولته الأولى بخداعي:
- أنا أريد رشاشاً... لأدافع عن نفسي!
وهنا شعرت أنه يريد أن يستنفد طاقتي على التحمّل والمناكفة. هو في العاشرة من العمر... وبيني وبينه اثنتان وستون سنة، فارقاً زمنياً هو عمر الاستقلال... فأنهيت الحوار بقبلة على جبينه، ولفتة شفافة الى انني أقرأ، وآن له أن يكفّ عن احراجي... فانكفأ بخفة إلى عالمه، وغرقت أنا مجدداً في نصوص الكتاب المثير بين يدي، من بدايته الى نهايته. لأنه يطرح آراء وخلفيات وحقائق تاريخية مغايرة للمألوف... ويكشف كيف سيطرت سلالات معينة على الكوكب الأرضي ولا تزال تهيمن على مساره ومقدراته.
وقد كرّس مؤلّفه، الصحافي البريطاني «دايفيد أيكه» حياته للبحث عن الحقائق... ويرى أن العالم تحكمه اليوم سلالات متحدّرة من الزواحف بالمعنى الحرفي للكلمة!
كما أنه يعتبر «ان حياة السيطرة المباشرة والعلنية محدودة لأنها تستثير التحديات والثورات في وقت ما. أما السيطرة الخفيّة أو المقنّعة فتستمر إلى الأبد، لأن المرء لا يثور ضد ما لا يعلم بوجوده، والشخص الذي يظن نفسه حرّاً لا يشتكي من غياب الحرية».
ويقول ايكه في مكان آخر من مؤلّفه: «ان حقيقة ما يجري لهي من الغرابة بحيث ان معظم الناس لن يصدّقوها، وبالتالي انها الوضع المثالي لكي تستمر السيطرة من دون تحدّيات».

* * *
كنت أتمنى، لو أن هذا الحوار دار مع حفيدي الأكبر، فهو فتى في الثامنة عشرة من العمر... ولكنني أقولها وبحرقة، اذا كان حفيدي الأصغر يحمل جنسيتين، فحفيدي الأكبر لا يحمل سوى جنسية واحدة، هي الجنسية الأميركية، حيث ولد من أم أميركية ونشأ هناك وما زال يتابع تحصيله هناك، وأهمل والداه تسجيله في دوائر النفوس اللبنانية... وهو لا يتكلم العربية، ولا يفقه من معانيها شيئاً، ولا يعرف لبنان إلا بالاسم!
وها أنا أغرق في حال من الحرج الوجداني والوطني وأتساءل: أي أمل لنا باسترداد الحق الضائع، قبل أن نسترد الشباب الضائع، صاحب الحق والزند والكفّ، وله تحلو مشقة السيف ذي الحدّين؟!