رحيل

صاحب مملكة الخبز والورد ضاق به جسده جوزف حرب
إعداد: إلهام نصر تابت

القصيدة المتألقة سحرًا وحنينًا وغنائية

في إحدى قصائده (الأمنية) يقول:
أتحدر من شجر شرس، وصخور غامقة،
وينابيع كمهر برّي
من أين إذن جاء سنونو
الحقل وأصبح كفي؟
ومرّ ندى الأعشاب وصار دموعي؟
من أين أتت أديرة النّساك إليّ؟
وكان ضباب الوديان بخوري؟
وأصابع زيتون الليل شموعي؟
جوزف حرب المغادر في 9 شباط المنصرم عن ثلاثة وسبعين عامًا ومسيرة إبداع، شاعر فصّل بمقص الحبر للكلمات أرواحًا، وألبسها غلالات من شمس أو ياسمين...
بالخبز والورد والحبر والرؤى التي كثيرًا ما ضاقت بها الكلمات، بنى مملكته وسط «خراب العصور»، وقال: «الخبز والورد سوف ينطفئان في التراب معي، فكم هو واسع ضريحي، وضيق جسدي».

 

بلابل وأفراس ريح
لو نفضت اليوم «كمّ هذا الشاعر أو لمست طرف نعشه، لسقطت منه بلابل وأتربة كثيرة وحقول وعصافير وأعناق صخور وأفراس ريح وقصب على امتداد الينابيع...» (الشاعر محمد علي شمس الدين في النهار 11 شباط 2014).
جوزف حرب علامة من علامات القصيدة اللبنانية المشبعة رقّةً وحنينًا، المتألقة في صورها وغنائيتها، الغائصة في عمق الوجود الإنساني وصراعاته وحسراته وأحلامه، والمكتنزة بتنوّع مفرداتها وعفويتها وكثافتها.
أصدر ديوانه الأول العام 1986 (شجرة الأكاسيا) وبعد ذلك أتى ديوانه «مملكة الخبز والورد» الذي يعتبره كتاب كتبه (مقابلة مع «الجيش» نيسان 1999)، ومن ثم «الخصر والمزمار»، «السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية»، «شيخ الغمام وعكازه الريح»، «المحبرة» (وهو الديوان الأطول في الشعر العربي والمؤلف من 1750 صفحة)، و«رخام الماء».
كتب جوزف حرب بالفصحى وبالمحكيّة، وفي الستينيات من القرن الماضي صدر له «عذارى الهياكل» (نثر). كتاباته بالمحكية لا تقل شأنًا عن تلك الفصحى، وهو يعتبر أن الأولى تهذب الثانية مرّات كثيرة. فالمحكيّة «ذات طفولة من حيث النطق بها، وفيها نهر معرفي يرفد الفصحى بالكثير من المفردات والتعابير والصيغ، ويغنيها بما يدخل عليها من ذلك التأليف العفوي والإرتجالي اليومي».

 

في الإذاعة والتلفزيون
في منتصف الستينيات (1966) دخل الإذاعة اللبنانية حيث قدّم بصوته برنامج «مع الغروب»، وكانت تلك بداية عمله الإذاعي التي أعقبها كتابته عدّة مسلسلات تلفزيونية، منها: «أواخر الأيام»، «قالت العرب»، «قريش»، «أوراق الزمن المر»، و«رماد وملح». وبين 1998 و2002 ترأس «إتحاد الكتّاب اللبنانيين».
يرى كثيرون ممن تناولوا شعر جوزف حرب ومسيرته أن لقاءه بالسيدة فيروز كان المحطة الأهم في حياته، فمن خلال الأغاني التي كتبها لها دخل الوجدان الشعبي. وعندما كتب «مملكة الخبز والورد»، كان شعره قد وصل إلى الناس عبر صوت فيروز. «إذ كان كل نصّ يلامسه ذلك الصوت يتحول إلى ذهب خالص، فكيف إذا كان النص موشى بذهب أيلول، أو مغسولاً بصباحات بيروت، أو طالعًا من ثقوب الأبواب المقفلة على أحزانها؟»، كما يقول الشاعر شوقي بزيع.

 

في وجدان الناس عبر صوت فيروز
يعود لقاء جوزف حرب وفيروز إلى العام 1976 حين التقى الشاعر بزياد الرحباني في الإذاعة اللبنانية وتعرّف من خلاله إلى فيروز. «حبيتك تَ نسيت النوم» كانت الأغنية الأولى التي التقيا فيها وكان الأخوان رحباني قد طلبا من زياد تلحين ست أغاني لبرنامج يعرضانه في الأردن، فاشترط أن تكون كلها من شعر جوزف حرب (رامي زيدان، النهار 11 شباط 2014). غنّت له فيروز العديد من القصائد، منها: «لبيروت»، «لما عالباب» (وهذه الأغنية يروي مقربون من السيدة فيروز أن فيلمون وهبي أخذ به الطرب خلال تسجيلها فراح يرقص في الأستديو)، «ورقو الأصفر»، «أسامينا»، «إسوارة العروس»، «زعلي طَوّل»، «بليل وشتي»، «خليك بالبيت»، «رح نبقى سوا»، «فيكن تنسو»، «البواب»، و«يا قونة شعبية».
يقول جوزف حرب عن فيروز: «يجب أن تكون داخل كل منا ليكون على الأرض فردوس»، ويضيف في مقابلة مع «الجيش» (نيسان 1999): عندما ترتل فيروز أرى كنائس في خيالي وأمام عيني، من المستحيل أن تستطيع بناءها أي عبقرية معمارية... أما عندما تغني، فإن الأزمنة التي أعيشها والأمكنة التي أدخلها، لا يستطيع أن يقدمها إلي أي زمان أو أي مكان. أمكنة فيروز وأزمنتها، أجمل وأبهى من الأمكنة التي تتغنّى بها أو الألحان التي تنشدها».

 

أدوات لبناء الفردوس
مفردات قصيدته تأتي من الطبيعة ببساطتها وعنفها، وكأننا أمام رغبة من الشاعر في العودة بالكون إلى ما كان عليه في نضارته الأولى. عن هذه النقطة يقول: أحب العودة إلى بكارة الأشياء أو إلى عذريتها. والأشياء عندي في زمانها البريء، العفوي، العذري، أقرب إلى ما أرغب في التعبير عنه، منها وهي في أزمنتها الأخرى. أريد أن أبني الفردوس بأشياء لم تعرف في زمنها أي خطيئة، لم ترتكب أي جريمة...

أي تأثير كان للبيئة التي نشأ فيها في تكوينه وشعره؟
كان أبي دركيًا يقول، وعندما ولدت كان يخدم في الناقورة وكنا ننتقل معه إلى أي مكان ينتقل إليه بحكم عمله. وصدف أن الأماكن التي أدّى فيها خدمته كانت مختلفة من حيث طبيعتها. ولهذا السبب تكوّن لديّ قاموس متنوّع، غني، متناقض، حفر عميقًا في تكويني الشعري. وفي الخامسة عشر من عمري كانت قد استقرت في أعماقي كل صور الجبال والأودية، والبحر والوعر، والثلج والغيم... وتداخلت الفصول، وتناوب على دوراني الروحي الليل والنهار. لقد أصغيت عميقًا للرياح والأمواج. وتأملت طويلاً حركة الغيوم، وتساقط الثلوج والأمطار. ومن الشوكة إلى العصفور، ومن السنبلة إلى السنديانة، ومن الرعاة إلى الفلاحين، ومن صلوات أمي إلى شاعرية الدير، كل هذه وغيرها، بسطت ظلالها عليّ وذابت في دواتي... واستقرت واضحة في لغتي الشعرية.

 

هموم الناس وأوجاع الفقراء
كما فعلت الأمكنة فعلها في تكوينه الشعري، كذلك كان للزمن وللحساسية الشخصية فعلها الكبير. فهذا الشاعر المنهمك بإعادة «خلق الفردوس» مشى إلى هموم الناس وأوجاع الفقراء واتحد بها لتكون قصيدته ضمير الجماعة، فها هو يصرخ: «لديك ما يكفيك من خبز... ولكن ليس ما يكفي جميع الناس، إنهض وناضل (أغنية مارسيل خليفة)، لكنه في انغماسه في السياسة «لم يسقط في فخ الخطابية والمباشرة، ولم يحوّل قصيدته إلى منشور سياسي» كما يقول الشاعر زاهي وهبي، الذي يضيف: «لقد حافظ على الجماليات الضرورية كي يظل الشعر صافيًا عذبًا ولكن محملاً بكل الهموم الفردية والجماعية التي تميز شعره عن كثيرين من مناضليه»...
توفي جوزف حرب في المعمرية (قرب صيدا) حيث أقام خلال السنوات الأخيرة، مواجهًا المرض الذي أصابه بثبات وصمت، إلى أن أتت الساعة، أخذ معه الخبز والورد إلى التراب صارخًا، كم هو واسع ضريحي وضيق جسدي...