كلمات

صحوة بسيطة... ومتأخرة
إعداد: الركن الياس فرحات
العميد

وأخيراً صحا سبعة وعشرون طياراً حربياً إسرائيلياً ووقّعوا عريضة الى قيادتهم يرفضون فيها تنفيذ مهمات في الأراضي الفلسطينية, هي في الغالب مهمات قتل مدنيين. وللتذكير نقول ان مهمات القتل هذه تطاول دائماً سكاناً مدنيين بحجة مطاردة العدو الوهمي الافتراضي الذي يسقطه الاسرائيليون حيث يريدون, وهو: الإرهاب. فإذا دمروا منزلاً قالوا: هذا يملكه ارهابي, أو يتحصن داخله ارهابي. واذا قتلوا جمهرة من الناس قالوا: بينهم ارهابي. واذا أحرقوا بستاناً قالوا: بين اشجاره ارهابي. ولو سلّمنا جدلاً ان هناك ارهابياً هنا أو هناك, فليس بقتل الناس وتدمير البيوت واجتياح المدن والمخيمات يمكن النيل من هذا الارهابي. والارهابي بنظر اسرائيل, كما هو معروف, هو كل فلسطيني يعلن انه فلسطيني, وأن له الحق بالحياة الحرة الكريمة مثل جميع البشر.
من هنا, كل فلسطيني ينادي بحريته واستقلاله وحقوقه كإنسان هو ارهابي. وكل عربي يندد بالاحتلال ويناصر المقاومين هو ارهابي. وكلّ حر في العالم يؤيـد المقاومـة وينبـذ الطغيان ويستنكر قتل المدنيين هو متعاون مع الارهاب. على هذا الاساس تقيس اسرائيل اوضاعها, وتحدد مهمات طياريها, الذين يكلّفـون بقتل المدنيـين, وتفجير المنازل في نقل مباشر على شاشات التلفزيـون, غير آبهـين بضمائـر العالم ولا بالرأي العام الدولي ولا بالقانـون الدولي ولا بشرائع حقوق الانسان.

وأخيراً صحا الطيارون السبعة والعشرون ورفضوا تنفيذ مهمات القتل تلك. يحق لنا ان ننطلق من هذا الرفض لنطرح عدداً من التساؤلات: ألا يعني هذا الرفض ان عدداً من الطيارين الاسرائيليين ادرك انه يقوم بمهمات قتل, ويمارس العمل الارهابي؟ ألا يعني ذلك اقراراً واضحاً من الطيارين الاسرائيليين بأن سلاح الجو الاسرائيلي هو تنظيم ارهابي؟ ألا يستدعي ذلك وضع القوات الجوية الاسرائيلية على لائحة المنظمات الارهابية في العالم, كون عدد من مسؤوليها أقرّ بممارسته للارهاب قبل ان يصحو ويتمرد على اوامر قيادته؟ ألا يستدعي ذلك ايضاً تجميد الحسابات المصرفية للتنظيم الارهابي الاساسي, الذي هو اسرائيل, في كل مصارف العالم؟ قد يبدو هذا الكلام غريباً, لكن الحقيقة في هذه الايام تبدو ايضاً غريبة, وقد يقول قائل ان هؤلاء هم حفنة من القياديين ولا يمثلون القوات الجوية الاسرائيلية ولا المجتمع الاسرائيلي, وهنالك المئات بل الآلاف من الطيارين الذين ينفّذون اوامر قيادتهم بقصف الاهداف المدنية, وقتل المدنيين تحت عنوان مكافحة الارهاب, وهنا تكمن الطامة الكبرى وهي المشكلة الثقافية والحضارية والاخلاقية في اسرائيل.

اذا كان الطيار الاسرائيلي انساناً مميزاً بدرجة عالية من الكفاءة العلمية والذهنية, واللياقة البدنية والامكانيات الجسدية, وخصوصاً امكانيات الحواس الخمس, اذا كان الطيار الاسرائيلي قد حاز على كل هذه المؤهلات, واقدم بعدها على اغتيال مدنيين وتدمير منازل, فهذا يعني ان ما تلقّنه هذا الطيار هو مبادئ العنصرية والتعصب والاجرام, وهنا يُعاد طرح السؤال: أليس هناك ازمة اخلاق في السياسة الاسرائيلية وفي سياسات داعميها؟ ولماذا, اذا قام مناضل فلسطيني بعملية استشهادية مستخدماً وسائل بدائية, ومقدّماً نفسه وروحه فداء لوطنه, تسارع الاوساط الصهيونية الى اعتبار ذلك ارهاباً, فيما لا احد يأتي على ذكر الطيار الاسرائيلي المتعلم والمثقف والمميز عندما يقتل المدنيين؟ أليس هذا ارهاباً فكرياً واعلامياً وتمييزاً واضحاً بين انسان وآخر؟
المشكلة ان المقاوم الفلسطيني يعيش تحت الاحتلال وفي ظروف القهر والإهانة والإذلال اليومي, ناهيك عن الحصار وجرف المنازل والطرد من الاراضي ومصادرة الاموال واستقدام المهاجرين وبناء المستوطنات على ارضه والغارات المتكررة على حيه وقريته ومدينته, مما يدفعه الى اليأس والقيام بعمليات استشهادية, فيما الطيار الاسرائيلي يولد بظروف ممتازة ويتلقى تعليماً راقياً ويتمتع بالحرية ويخضع لتدريب متواصل ويعيش في اجواء ثقافية مريحة, وبعد ذلك تراه يقوم بعمل ارهابي حقيقي.
في ذلك كله بدأ البعض يصحو. انها صحوة بسيطة جديرة بالاهتمام, وإن تكن متأخرة اكثر من خمسين عاماً.