معالم وآثار

صخور نهر الكلب متحفًا
إعداد: د. ألكسندر أبي يونس

جيوش وأباطرة مرّوا من هنا...

يمرّ بالقرب من آثار نهر الكلب يوميًّا ألوف المواطنين اللبنانيين، ولا يخطر في بال الكثيرين منهم أنهم يمرّون عبر سلسلة أحداث عسكرية تاريخيّة تركت بصماتها نقوشًا وأنصابًا على صخور ذلك النهر، والتي تشكّل مختصرًا لتاريخ لبنان عبر العصور. هذا التاريخ كتب بلغات متعدّدة: الهيروغليفية، الآشورية، البابلية، اليونانية، الرومانية، اللاتينية، الفرنسية، الإنكليزية والعربية. فصخور نهر الكلب هي الشاهدة على مرور الجيوش القديمة في فينيقيا، وعلى مرور الجيوش الحديثة في لبنان، وعلى ضجيج الجنود والأسلحة. إنّها عبارة عن كتاب تاريخ عسكري أو متحف عسكري في الهواء الطلق.

 

من الألف الثالث قبل الميلاد
تشمل آثار نهر الكلب الواقعة على الطريق السريع بين بيروت وطرابلس، نحو 23 نقشًا ونصبًا يعود تاريخها إلى ما قبل الألف الثاني ق.م. تميزت هذه النقوش بطابعها العسكري، إذ أنها أرّخت معارك عسكرية كبرى حصلت في هذا المعبر الاستراتيجي، أو في إحدى المناطق القريبة منه.
فمن هي الجيوش التي مرّت عبر نهر الكلب أو نهر الذئب كما كان يعرف في القديم؟ وما هي النقوش التي خلّفتها وراءها؟

 

النقوش الفرعونية: إعلان انتصار وسلام
حفر الفرعون رعمسيس الثاني (1279 – 1213 ق.م.) ثلاثة نقوش على الضفة اليسرى لنهر الكلب، وذلك بعد انتصاره على الحثيين. فمصر كانت على خصومة مع الدولة الحثّية، وفي العام 21 من حكم هذا الفرعون، انتهت الخصومة وحلّ السلام بين الطرفين وأعلن ذلك عبر النقوش التي وصف فيها رعمسيس الثاني أيضًا فتوحاته العديدة.
لكن للأسف، أحد هذه النقوش – وهو عبارة عن صفحة كبيرة بالهيروغليفية، تظهر رعمسيس ممسكًا بشعر أسير أمام الآلهة «أمون - رع» – أزالته البعثة العسكرية الفرنسية التي أرسلها الإمبراطور نابليون الثالث بقيادة الجنرال دي بوفور، إلى بيروت وجبل لبنان على أثر حوادث 1860 – 1861. فالقائد الفرنسي، لم يكلّف نفسه عناء نحت صخرة جديدة بل أزال النقش الفرعوني ووضع مكانه رقمًا يخلّد ذكرى حملته.
إذًا كان رعمسيس الثاني، أول من بدأ بحفر النقوش على صخور نهر الكلب تخليدًا لذكرى انتصاراته العسكرية، وربما أيضًا لوضع علامات للحدود الشمالية لمملكته.

 

نقش أسرحدون ما زال صامدًا
اعتمد الآشوريون سياسة توسعية خلال الألف الأول قبل الميلاد، سمحت لهم بالوصول إلى الشواطىء الشرقية لحوض البحر الأبيض المتوسط. وتخليدًا لذكرى هذه الفتوحات، نحت الملوك الآشوريون خمسة نقوش على صخور نهر الكلب، لا يزال واحدًا من بينها واضح المعالم، وهو يشير إلى الملك أسرحدون (681 – 668 ق.م.)، وفتحه لمدينة ممفيس في مصر السفلى (671 ق.م. تقريبًا).
ومن الملوك والقادة الآشوريين الذين اجتازوا نهر الكلب: أشور نازربال (888 – 859 ق.م.)، وشلمنصر الثالث ( 859 – 824 ق.م.)، وتغلتفلصر الثالث (745 – 727 ق.م.)، وسرجون الثاني (722 – 705 ق.م.)، وسنحريب (705 – 681 ق.م.)، وأشور بانيبال (668 – 626 ق.م.).

 

النقوش البابلية والكلدانية
انتهى عهد الآشوريين على يد قوة عسكرية بابلية – كلدانية بقيادة نابو فلاصر (625 – 605 ق.م.) الذي اعتبر نفسه وريث أشور، فادّعى السيادة على فينيقيا.
وفي العام 605 ق.م. وقعت معركة كركميش بين فرعون مصر ونبوخذ نصّر، فانتصر فيها هذا الأخير، واعترفت المدن الفينيقية بالأمر الواقع لكنها احتفظت باستقلالها الداخلي مقابل دفع جزية إلى الكلدانيين.
خلّد الملك البابلي نبوخذ نصّر (605 – 562 ق.م.) هذا الإنتصار بنقش مسماريّ على ضفة نهر الكلب الشمالية. كما ترك الكلدانيون أيضًا نقشًا تخليدًا لذكرى حصارهم لصور (585 - 572 ق.م.).

 

كركلا وقسطنطين
على صخور نهر الكلب عدّة نقوش يونانيّة ولاتينيّة، وهي مؤرّخة ما بين القرنين الثاني والرابع بعد الميلاد. من بين تلك النقوش، واحد لاتيني يعود إلى عهد الإمبراطور الروماني كركلا (ماركوس أوريليوس انطونيوس)، يذكر فيه الأعمال التي أجراها فيلق من الجيش الروماني، الكتيبة الغاليّة الثالثة، على الطريق الساحلي، وآخر يعود للإمبراطور قسطنطين (334 تقريبًا)، وهو بمثابة علامة على الطريق الساحلي بين إنطاكيا وعكا.
وهناك نصب باللغة اليونانية يشير إلى أعمال تأهيل الدرب في العام 382 بهمّة بروكلس والي فينيقيا.
من ناحية أخرى، اجتاز مضيق نهر الكلب (من المحتمل أن نهر الكلب كان واسع الأطراف عند مصبّه، فكانت السفن التجارية والعسكرية ترسو عنده) قادة كبار، لكنّهم لم يتركوا أي شيء، كالإسكندر الكبير، والصليبيين، وصلاح الدين الأيوبي.

 

جسور نهر الكلب
يرتفع على إحدى صخور نهر الكلب نصب يذكّر بإنشاء أو ترميم الجسر القديم لأغراض عسكرية على الأرجح، وهناك عدة آراء حول العهد الذي أنشىء فيه الجسر، لكن الأكيد أن الأمير بشير الشهابي الثاني هو الذي أعاد بناءه (1809). وفي العام 1880 بنى المتصرف رستم باشا جسرًا ليربط كسروان بالمتن، لكن المتصرف واصا باشا استبدله في العام 1888 بآخر رمّمه المتصرّف نعوم باشا في العام 1901.
ومع البدء ببناء خط الترامواي الحديدي على طول الساحل اللبناني في أواخر القرن التاسع عشر، بني على نهر الكلب جسر صخريّ أقيمت عليه سكة الحديد، لكن أعمال توسيع الأوتوستراد في العام 1995 أخذت في طريقها الجسر والسكة.

 

في التاريخ الحديث والمعاصر
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في تشرين الأول 1918، أمر القائد الإنكليزي ألّنبي، بوضع نصب على نهر الكلب تخليدًا لذكرى انتصاره على العثمانيين الذي حققه فيلق الصحراء البريطاني في دمشق وحمص وحلب. لكن في العام 1930، صحّح الفرنسيون خطأ الإنكليز، فأمروا برفع نصب ثان أضاف أسماء الفرق الأخرى التي شاركت في تلك المعركة، وهي: الأوسترالية، النيوزيلنديّة، الهندية، الفرنسية - المغربية (Spahis السباهيين)، وقوات الجيش العربي بقيادة الملك حسين، شريف مكة.
كما وضع الفرنسيون ايضًا نصبًا يذكّر بسيطرة الجيوش البريطانية والفرنسية على بيروت وطرابلس في تشرين الأول 1918 وطرد العثمانيين منهما.
وهناك نصب يذكّر بسقوط دمشق في يد جيوش المشرق الفرنسية بقيادة الجنرال غورو في 25 تموز 1920، وآخر يخلّد ذكرى قتلى الجيوش الفرنسية.
وعند جلاء آخر الجنود الأجانب عن لبنان في 31 كانون الأول 1946، أضاف الرئيس بشارة الخوري ما كان يعتقده آخر نقش آنذاك حول هذا الموضوع، فكانت لوحة الجلاء الشهيرة. لكن بعد ذلك أتت اللوحة التي خلّدت ذكرى اندحار العدو الاسرائيلي في لبنان وانسحابه في 25 أيار 2000. فهل من نصب ونقوش أخرى ستوضع لاحقًا؟

 

المراجع:
- لامنس، هنري: تسريح الأبصار في ما يحتوي لبنان من الآثار، دار نظير عبود، 1995.
- حتي، فيليب: تاريخ لبنان، دار الثقافة، بيروت.
- Maïla-Afeiche Anne-Marie: Le site de Nahr el-Kalb- Hors-Série V; ministère de la culture libanaise; direction générale des antiquités; Beyrouth 2009.