عِبر من الحياة

صراع الأقوياء
إعداد: العميد دانيال الحداد
مديرية التوجيه

أطلّ الربيع ذات عام موشّياً الطبيعة بسحر ألوانه وصفاء أجوائه، حاملاً إليها الخضرة والماء والنور والدفء، فخرجت الكائنات الحيّة من أوكارها تستجمّ تحت أشعة الشمس، وتتمتّع بالنعم والخيرات التي انهالت عليها بعد طول معاناة مع الشتاء، وانطلق شحرور الغاب يطوف التلال والسفوح ويقفز من شجرة إلى شجرة ومن غصنٍ إلى غصنٍ بفرحٍ عظيم، كيف لا، وهو الأكثر تميّزاً بين الطيور بطرائفه وأناقته وتغاريده العذبة الجميلة.
وقد صودف في هجير أحد النهارات، بعد اكتفائه من التهام بعض الثمار اليانعة، وشعوره بالإرهاق من التحليق، أن غطّ على أديم الأرض في استراحةٍ طويلة، علّه يستعيد فيها قواه ويجدّد نشاطه المألوف، غير مدركٍ أنَّ ثعباناً خبيثاً ماكراً، كان يترصّده ويتعقّب أثره للإيقاع به والفتك به شرّ فتكة.
وهكذا انسلّ الثعبان بخفّة ورشاقة بين الزهور والأعشاب حتى بلغ موضع الشحرور، ثمّ انقضّ عليه كلمع البرق والتفّ حول جسمه الصغير، تمهيداً لقتله وابتلاعه. وبصوت متهدّج من هول المفاجأة، صاح الطائر المسكين: ويحك أيها الثعبان، ماذا جنيت لك، وبأيِّ إثمٍ تهدر دمي وتمحو ذكري إلى الأبد؟
أمِن العدل في شيء أن أنال منك هذا العقاب، وأنا الطائر المسالم الذي يحبّ جميع الكائنات، وينعش قلوبها صبح مساء، بنغمات صوته الرقراقة؟
الثعبان: أيّها الغبي الجاحد، لقد حظيت بنعمةٍ طالما سعى إليها كلّ مخلوق ضعيف، فبعد قليل ستصبح جزءاً من كياني الأبدي، جزءاً من لحمي وعظمي ودمي وأعصابي، وحتى عقلي وروحي، فيستحيل ضعفك قوةً جبّارةً تهابها الكائنات جميعاً، وتقدم لها الذبائح السمينة خوفاً من بطشها وغدرها.
الشحرور: لقد تعلمت من شريعة الأجداد والآباء، أن أتبع سبيل الحقّ، فخير لي ألف مرّة أن أموت ضعيفاً من أجل السلام، لا أن أحيا قوياً في أحشائك المظلمة وروحك اللعينة.
الثعبان: ما الحقّ الذي تنشده إلّا في نفثات أنفاسي الطاهرة وحراب أنيابي المقدّسة، فحقّي أصنعه بقوّتي، وبهذه القوّة تصان دياري وينعم بني قومي بالحرية والأمان.
الشحرور: أنت تصنع السلام لجماعتك فحسب، لكنّ السلام الحقيقي، إمّا أن يكون شاملاً أو لا يكون، ألسنا جميعاً مخلوقات إلهٍ واحد، وبيده من دون غيره قدر الموت والحياة، فإن استطعت أن تسحق جسمي الواهن، لن تستطيع أن تنال من روحي، وهي نسمةٌ من رياحه السماويّة الخالدة.
في حمأة النزاع الأخير، وقد أصبح نصف الشحرور في فم الثعبان والنصف الآخر خارجه، إذا بصقر الجبل يهوي من أقاصي السماء كنيزكٍ مشتعل، بعد أن لمح بعينيه الثاقبتين مكان فريسته الثمينة، فانقضّ على الثعبان يفقأ عينيه ويمزّق رأسه بمخالبه المدبّبة، غير مكترث لسواه من الفرائس المتواضعة، فما كان من الشحرور الذي هبطت عليه نعمةٌ من السماء على حين غرّة، إلّا أن تملّص من قبضة الثعبان، وفرّ إلى أعماق الغاب، مردّداً ألحان النجاة ومباركاً صراع الأقوياء!