جولة وموقف

صرخة المؤسسة في حضور الشهادة والبطولة
إعداد: د. إلهام نصر تابت

«أعان الله جيشًا يحارب الغباء والغلاء والوباء وقلة الحياء والوفاء. حمى الله الجيش وجنوده»... تختصر هذه الجملة التي ختم بها قائد الجيش العماد جوزاف عون جولته البقاعية مشاعر اللبنانيين الذين ينحنون أمام عطاءات الدم، ويقدرون ما يعانيه جيشهم الصامد في وجه الأزمات، الساهر على حدودهم وأمنهم، الساعي إلى التخفيف عنهم ما أمكنه ذلك، لكنّه في المقابل يتعرّض لافتراءات مغرضة من بعض الموتورين. 

 

«اهتموا بشؤونكم ودعونا نهتم بشؤوننا» قال العماد عون صارخًا أوجاع مؤسسته التي تدفع فدية الدم من أجل شعبها، وكلامه الذي كان في حضور الشهادة والبطولة، عهد محفور على جباه عسكريي جيشنا الشرفاء المتوجين بواجبهم حتى آخر رمق.

توجّه العماد عون إلى البقاع في زيارة تعزية إلى عائلات الشهداء الذين سقطوا خلال مداهمة في حورتعلا في ١٦ شباط الماضي، فتفقّد عائلاتهم في اللبوة وتعلبايا وأبلح، وشاركهم حزنهم. كما تفقّد قيادة لواء المشاة السادس في بعلبك وفرع مخابرات منطقة البقاع حيث التقى الضباط والعسكريين مثمنًا بطولتهم. 

 

ابن الوطن

«كلّفت خاطرك.».. عبارة يسمعها قائد الجيش العماد جوزاف عون خلال زيارته عائلات الشهداء الثلاثة الذين سقطوا في حورتعلا، فيرد بعفوية: «هيدا أقل واجب، الشهيد مش ابنكن بس»، إنّه ابننا، ابن الوطن... مشهد مؤثر امتزجت فيه الأبعاد الإنسانية بالأبعاد الوطنية، قائد الجيش وأهالي الشهداء يجمعهم ألم الخسارة كما تجمعهم قدسية الواجب الوطني. 

في كل بيت من البيوت الثلاثة قلوب تحترق بنار الخسارة، ولكن فيها أيضًا تسليم بإرادة الله، وفيها من العزة والفخر ما يُشكّل زادًا لأجيال. أهالي الشهداء ومن احتشد قربهم للترحيب بالعماد الآتي معزيًا ومتفقدًا، شكروه من القلب، وإذ أكدوا له أنّهم جيش يساند الجيش في حربه ضد عصابات المخدرات والسرقة والخطف وسواها من جرائم لطالما عانت منها المنطقة، اختصروا مشاعرهم بعبارة: «الله يحميك ويطوّل عمرك».

في منزل المعاون الشهيد حسن شريف يشكر الأهل الله قائلين «إنّه التفت إلينا واختار ابننا شهيدًا». بيت عامر بالوطنية فيه شباب من خيرة الذين خدموا الجيش وفق ما ينوّه العماد عون سائلًا إذا كان ثمة آخرون بينهم في أسلاك عسكرية أخرى، فيأتيه الجواب «نعم ، في الأمن العام والجمارك، هم الآن في وظائفهم». يسأل قائد الجيش عن إيليا، اصغر أولاد الشهيد، عمره لا يتجاوز السبعة أشهر، وهو يعاني وضعًا صحيًا خاصًا. يأتون إليه بالطفل، يحمله، وتطفو دمعة رافقت تعهده: «لن نتركه». ويضيف: «حسن استشهد كرمال إيليا، كرمال ولادنا اللي عم تهددن المخدرات». 

مسؤولية الشهيد تجاه عائلته وخصوصًا طفله الصغير لم تؤثر مقدار شعرة على التزامه واجبه، هذا ما يؤكده أخوه مشيرًا إلى أنّ العائلة حاولت لفت نظره إلى المخاطر المترتبة على وظيفته وإقناعه بطلب تشكيله إلى قطعة أخرى، لكنّه رفض البحث في الأمر رفضًا قاطعًا... هؤلاء هم جنودنا المؤمنون بمهمتهم المقدسة كما قال العماد عون.

«فليكن دمه فداءً عن الجيش، ونحن نشكر وقفتكم العزيزة إلى جانبنا». تلك كانت آخر عبارة سمعها العماد عون في بيت الشهيد شريف قبل أن ينتقل ليتابع جولته، وليسمع عبارات مماثلة.

«الرب أعطى والرب أخذ» يقول والد الرقيب الشهيد بول الجردي، الذي أضاف منتصرًا على وجعه: «ابني قبضاي». يجيبه العماد عون: «من يستشهد غير القبضاي؟ ما منحب نخسر شعرة من عسكري»، لكن هذا قدرنا، قدرنا التضحية من أجل وطننا وأهلنا في البقاع وفي لبنان. دماء شهدائنا غالية ولن نسمح بأن تُهدر، سنتابع حربنا ضد المجرمين، لن نتراجع».

الأجواء نفسها كانت في منزل الرقيب الشهيد جورج أبو شعيا، فوالد الشهيد عسكري متقاعد خدم المؤسسة سنوات طويلة، وسار ثلاثة من أبنائه على الدرب نفسها، الشهيد وضابطان، بينما اختار شقيق رابع سلكًا عسكريًا آخر. «لحم أكتافنا من الدولة» قال الأب، مغالبًا وجعه، مقدرًا تضحيات المؤسسة العسكرية، وهو خير من خبر هذه التضحيات.

في المنازل الثلاثة شدد قائد الجيش على نبل المهمة التي ينفذها العسكريون في مواجهة عصابات المخدرات، مؤكدًا التزام الشهداء ورفاقهم أقصى درجات الحرص على أرواح الأبرياء. وقال في هذا السياق «نحن جيش يحترم القوانين والمواثيق الدولية». كما لفت إلى أن شهادتهم لن تثني الجيش عن أداء واجبه، بل ستكون دافعًا له في حربه على المخدرات انطلاقًا من مسؤوليته تجاه أهالي البقاع تحديدًا، وذلك على قاعدة محاسبة المجرمين وفق القانون وليس الانتقام منهم. وقال: «شهداؤنا لا يموتون بل يحيون في ضمائرنا ووجداننا».

 

مع الأبطال

في لواء المشاة السادس كما في فرع مخابرات منطقة البقاع، كان اللقاء بين قائد الجيش ورجاله متوَّجًا بالفخر والعنفوان وبالإصرار على أداء الواجب وفاءً للقسم الممهور بدماء الرفاق. صافحهم، شدّ على أياديهم وعانق أحدهم بحرارة، هو يعرف جيدًا هذا البطل الذي أصيب في مهمة سابقة وها هو يُصر على المشاركة في المداهمة الأخيرة، مكررًا مواجهة الخطر من جديد كما فعل كثيرون من عسكريينا. 

هنّأهم على الإنجازات التي يقومون بها لحفظ الأمن وملاحقة تجّار المخدرات، سواء عبر المهمات العملانية أو المتابعة الأمنية للمطلوبين وصولًا إلى توقيفهم. وأكد أنّ الأمن الذي تعيش فيه منطقة البقاع هو في جزء كبير منه ثمرة تضحيات عناصر اللواء السادس وفرع مخابرات منطقة البقاع، وأنّ لسكان المنطقة الحق في حياة آمنة بعيدًا من عصابات المخدرات والسرقة والخطف. وتوجّه إلى العسكريين بالقول: «قلبي يكبر بكم مع كل زيارة أقوم بها، فأنا أقف أمام رجال أقوياء يضحون من أجل أهلهم وشعبهم ووطنهم، وما صمود الشعب إلا بفضل تضحياتكم وإنجازاتكم. أهالي البقاع يشدون على أياديكم، يشكرونكم، ويقولون لكم إنّهم إلى جانبكم». 

 

لمن يسأل

وأضاف: «لمن يسأل كيف يحافظ الجيش على قوته، أقول إنّ الجواب في الجنود أصحاب الصلابة والعنفوان، وطالما أنّ في المؤسسة أبطالًا مثلكم فلا خوف على لبنان». وفي شأن المخدارت قال: «المخدرات أخطر من الإرهاب لأنها تدخل إلى كل بيت وتُفكّك العائلات والمجتمع، والتصدي لها مهمة مقدسة، لذا لن نتوانى عن محاربتها ولو سقط لنا شهداء، فدماؤهم لن تذهب هدرًا وهي تزيدنا إصرارًا على ملاحقة المجرمين. مشكلتنا ليست مع أبناء العشائر أو المنطقة، بل مع الخارجين عن القانون ومقترفي جرائم السرقة والخطف والإتجار بالمخدرات. وهؤلاء أمامهم خياران: إما أن يسلّموا أنفسهم لتجري متابعة أوضاعهم وفق القانون، أو يتحملوا تبعات أفعالهم. لن ندعهم يرتاحون قبل أن يرتاح البلد من سمومهم».

وأضاف: «البعض يراهن على إضعاف الجيش. أقول لهم إنّ الجيش أقوى من ذي قبل، ولدينا الآلاف من طلبات التطوع فضلًا عن عودة قسم كبير من الفارين. من يقف أمام رجال الجيش الأبطال يطمئن إلى أنّ مؤسستنا بألف خير، وهي تبقى العين الساهرة على كل الأراضي اللبنانية رغم شدة الأزمة، وتُتابع أداء واجبها في توقيف المخلين بالأمن ومكافحة الإرهاب وضبط الحدود ومنع التهريب والهجرة غير الشرعية من الجرود إلى البحر ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب».

وتطرّق إلى حماية الجيش للحدود الجنوبية بالقول: «أهنئ عناصر الوحدات العسكرية في الجنوب إذ يتصدون لخروقات العدو الإسرائيلي مثلما جرى في عيتا الشعب وقبلها مرجعيون، حيث وقفوا في وجه دبابات العدو متسلحين بقوة الحق والإيمان بأرضهم وبقدسية المهمة، جندي متسلح ببندقية يتصدى لدبابة العدو ويجبره على التراجع».

 

سأخرق القانون

وقال في ما خص أوضاع المؤسسة العسكرية: «في حين يقدم الجيش التضحيات الجسام ويتحمل مسؤولياته بمهنية واحتراف رغم التحديات، يستمر بعض الموتورين والمسؤولين المعنيين وغير المعنيين في اختلاق الشائعات وفبركة الملفات وتشويه صورة المؤسسة واتهامنا بالفساد وخرق القانون. وإذا كان خرق القانون يتيح لي قبول مساعدات من اللبنانيين المحبين للمؤسسة في الداخل والخارج، وتأمين الدواء والتغذية والتنقلات للعسكريين، والاستشفاء والمساعدات المدرسية لعائلاتهم، ويعينهم على الصمود ويخفّف عنهم الصعوبات المعيشية، ويسمح للجيش بتنفيذ مهماته، فسأخرق القانون. همّهم المصالح الشخصية وهمّكم مصلحة الوطن وحماية السلم الأهلي والدفاع عن قَسَمِكم. أنتم تسعون وراء مصلحة الوطن وهم يسعون وراء مصالحهم. أقول لهم إنّ الجيش متماسك وقوي، لن نكترث لاتهاماتكم ولن تشوشوا على تنفيذنا لمهمتنا التي هي أشرف وأقدس من افتراءاتكم. اهتموا بشؤونكم ودعونا نهتم بشؤوننا. سيبقى الجيش أكبر من ملفاتكم وشائعاتكم. الأجدر بكم أن تبذلوا جهودكم لمساعدة المؤسسة العسكرية ودعمها بدلاً من استهدافها. أعان الله جيشًا يحارب الغباء والغلاء والوباء وقلة الحياء والوفاء. حمى الله الجيش وجنوده».

حقًا أعان الله جيشنا... ودمتم للبنان سياجه وعنفوانه وأمله.