ثقافة وفنون

صلاح لبكي ومغامرته الشعرية
إعداد: وفيق غزيزي

أوّل ما يسترعي انتباهنا ونحن نهتم بشعره، أنه لم يحاول قط أن يستنّ لنفسه نهجاً محدداً في الشعر، ولا أن يسوق إلينا قمقماً من النظريات يحبسنا ويحبس نفسه فيه، ولا أن يأتينا بالعوامل والدوافع والمبررات، ولا أن يبهرنا باللمع الغامضة والماورائيات، بل كل ما هنالك بوح وفوح، ومناخات طلقة، وغناء ينبجس حاراً من الذات، من المناطق الحميمة فيها؛ فلا عبودية للفظة، ولا وثنية للبناء، ولا غوغاء أحاسيس، ولا رتوب ولا إبتذال، بل إلتصاق وثيق بين فكرة وأداء وانسجام أتم بين غوامض راسبة وكلمة وسيلة، بحيث يخيّل الينا أن اللفظة عنده فلذة مستلة من الصميم لتنزل مكانها في الصميم، فإذا تدبّرناها بتقليب الأنامل انهدرت وضاعت، هذا كله أمواج رشيقة، وألوان وأصداء تدغدغ العين والأذن، وتلامس النفس فتسبغ علينا الموسيقى في أوج بوحها. ومن الغبن أن يُزج في مدرسة الرمزيين المتعقلة، أو ينسب الى جماعة الرومانسيين، فهو عرف أن ينفرد بين بين، وأن لا يكون ذاك الغنائي المائع، ولا ذلك الكثيف الغموض. إنه الشاعر صلاح لبكي.

 

سيرته
ولد صلاح لبكي في السادس من آب سنة 1906 في ساوباولو، عاصمة البرازيل الصناعية. ونشأ في كنف عائلة راقية معروفة أدبياً وسياسياً. والده نعوم لبكي صحفي إستقلالي أنشأ في البرازيل جريدة «الرقيب» ثم «المناظر» اللتين حمل فيهما حملات عنيفة على الطغيان العثماني، سنة 1923 ترأس المجلس النيابي اللبناني.
العام 1908 عاد نعوم لبكي الى لبنان وعائلته، واستأنف فيه نشاطه الصحافي والسياسي كان صلاح قد بلغ من العمر سنتين وثلاثة أشهر لما عاد الى لبنان وترعرع في بسكنتا وهناك بدأ دراسته في مدرسة المونسينيور حبيقة مدة قصيرة إنتقل بعدها الى بيروت وتسجّل في معهد الحكمة مع أخيه غطاس حيث أمضى سنة كاملة، وفي الصيف درس في مدرسة الآباء الكبوشيين في بعبدات. ولما بلغ عامه الرابع عشر أكمل دراسته التكميلية والثانوية في معهد عينطورة.
ما تسنى لصلاح أن يحيا مطمئناً في مطلع عمره لأن العسكر العثماني كان يطارد والده، ويفاجئ المنزل العائلي يومياً ويروّع صلاح وأشقاءه. سنة 1926 نال صلاح شهادته المدرسية النهائية، فانتقل الى معهد الحقوق الفرنسي في بيروت وتخرّج سنة 1930 محامياً، تدرّج في مكتب رئيس الجمهورية لاحقاً كميل نمر شمعون.
بدأ حياته العملية بتدريس اللغة العربية لغة وآداباً في معهد الحكمة والعزيزية. ثم عمل مساعداً قضائياً في قصر العدل قبل أن ينصرف الى ممارسة المحاماة والصحافة. كانت بدايته الصحافية في أبرز المجلات الأدبية اللبنانية في زمانه: «المعرض» للنائب ميشال زكور والشاعر ميشال أبي شهلا ثم «الجمهور» و«المكشوف» للأديب فؤاد حبيش، فبدأ نجمه يلمع في حقل الأدب شعراً ونثراً.
أحب فرنسا في روائع أدبائها ومفكريها، وتتلمذ على أعلام الرومانسية ولا سيما لامارتين وڤيكتور هوغو وألفريد ده موسيه قبل أن يتعرّف على شارل بودلير، وتشبّع من أفكار الثورة الفرنسية ولكنه مع هذا طمح الى تحرير وطنه من الإنتداب الفرنسي. توفي صلاح لبكي في 20 تموز 1954.

 

الشاعر والصحفي المتمرد
لمع إسم صلاح لبكي كمحامٍ وصحافي. وقد لمع ايضاً كشاعر منذ أن بدأ بنشر بواكيره العربية وأكثرها من وحي عروس أحلامه عائدة كساب إبنة فريد كساب والأديبة سلمى صائغ وأم وحيده نعوم التي تزوجها سنة 1933، وبعضها من وحي الطبيعة. وقد قضى مرحلة شبابه في مسقط رأس العائلة بعبدات وفاخر بالانتساب الى تراثها العريق فقال في وصفها «وقريتي زاوية محكمة البناء في صرح الأمة ويد سمحاء في عطاء المجد. في البعيد البعيد قُوّاد منها وجنود دافعوا عن حياض العزّ في لبنان، وأدباء وفنانون وعلماء أغنت آثارهم تراث الحضارة فيه». صدرت مجموعته الشعرية الأولى «أرجوحة القمر» العام 1938 حاملة ندى الربيع وشذاه قدّمها الى أصدقائه ببعض الأبيات منها:
«غنّيت أشعاري ولم أنتسب
الى إله الشعر في حالِ
ولم أكن غير امرئ مدنف
كثير بتحنان وتسالي
وسوف يمحو الدهر شعري كما
يمحو دموع المغرم السالي
وربّ شعر نام عنه القضا
مرَّ بجيل بعد أجيال».
شعره هذا يقول جميل جبر «وقد حمّله زفرة مرَّة من صميمه ورثى فيه أحلامه وآماله على طريقة الرومانسيين، كان له صداه البليغ لدى الظامئين الى الأدب الحي». في غمرة الحرب العالمية الثانية لاذ صلاح لبكي بالشعر كما يلوذ المنفي بأحلامه، فأصدر العام 1943 ديوانه الثاني «مواعيد» الذي انطوى على مأساة جيل يسعى يائساً وراء جديد في عصره يرضيه ويستقر. وبعد الحرب أصدر «من أعماق الجبل».
العام 1946 كتب في جريدة «البشير» باسم مستعار هو «درويش» ولسوء حظه أدت إفتتاحياته العنيفة الى توقيف «البشير» نهائياً. ثم انتقل الى جريدة «العمل» إلاّ أن سياسة حزب الكتائب قيّدته فكتب باعتدال تاركاً لقلمه الخيال الحر في تدبيج إفتتاحيات جريدة «الحديث». وفي شتاء 1951 إجتمع كل من صلاح لبكي وميشال أسمر وأحمد مكي وغسان تويني وجميل جبر في مكاتب جريدة «النهار» وقرّروا تأسيس جمعية تضم أبرز أدباء لبنان تحت إسم «أهل القلم» وانتخب شاعرنا رئيساً لها.
عاش صلاح لبكي شاعراً، وتصرّف كشاعر حتى في حياته السياسية والعملية، فكانت مثاليته مصدر خيبته التي بطنت بعض قصائده، وكان السأم أليفه بعد أن هوت به الى الحضيض «أرجوحة القمر» فأدرك أنه عاجز عن القبض على السراب.

 

مؤلفاته
• في الشعر: أرجوحة القمر، مواعيد، سأم، غرباء وحنين.
• في النثر: من أعماق الجبل ولبنان الشاعر.
• في الترجمة: بودلير بقلمه.

 

ثقافة لبكي ومفهوم الشعر
إستهل شاعرنا حياته الأدبية بالرومانسية الفرنسية التي انتشرت في لبنان فتأثر بهذه الحركة وهو في المرحلة الثانوية في معهد عينطورة، وحفظ الكثير من روائع أعلامها. وقبل ذلك أتقن العربية في أصولها وآدابها في المدارس الوطنية، ثم استهوته الحركة الرمزية ورائدها في الشرق العربي صديقه أديب مظهر، فأكب على مطالعة شعر بودلير ومالارمه وآرثور رامبو فضلاً عن كتابات بول فاليري وسانت أكسوبري واندريه مالرو وأندريه جيد.
أما في الآداب العربية فكان «للعباسيين والأندلسيين ولا سيما المتنبي وأبي تمام وأبي نواس وإبن خلدون وإبن زيدون ثم خليل مطران وجبران خليل جبران ويوسف غصوب حظوة كبيرة لديه». كما تأثر بالإنجيل والقرآن واعترافات القديس أوغسطينوس ولاهوتيات توما الإكويني. وكان متعشقاً للفنون الجميلة، ولا سيما الموسيقى الشرقية والأوبرا والرسم والنحت والرقص الإيقاعي.
وفي رأي شاعرنا فإن حكاية الشعر هي حكاية الخيال، حكاية القلب، حكاية الصورة، والعاطفة، وحكاية المحبة، حكاية أعمق ما في الإنسان، وأقدس ما فيه وأرفع ما فيه، حكاية صلاة ترتفع من أعمق أعماقه. حكاية الشعر حكاية عقل يغفو وحاضر يموت على نغم يرف هناك عند سدرة المنتهى، حكاية إتساع الحياة في مواكب من الصور والأخيلة والأحلام.
ويقول: «هنالك حالة شعرية، هي الحالة التي تتعطّل معها، الى حد ما، القوى المدركة الفرعية الحاسبة، المتفلسفة، المبرهنة، المستنتجة، المختبرة، حالة إنعتاق النفس من كل مشاغل الدنيا، وتكاثف الحياة الروحية الى أقصى حد، والإستسلام للأحلام والتأمل في الصور التي يبتدعها الخيال».
ومن وجهة نظره ليس العنصر الشعري في بيت من الشعر وكأنما هو إناء أنيق ليكتسب منه شكله وأناقته؛ البيت يوحي بالعنصر الشعري إيحاء.
والكلمات التي يجمعها الشاعر بمنتهى العناية ليست إلا رموزاً يضعها تحت أعيننا ليحرّك فينا بتفاعل محض نفسي، بعض التمثلات.
ومن هنا يصح القول إن القصيدة التي نقرأها ونطرب لها ونعيشها ليست قصيدة الشاعر الذي نظم، إنما هي قصيدتنا نحن.
إن الجمال برأي لبكي بالنسبة الى الشعر صفة والشعر موصوف.

 

من أقواله
سأم:
«كنت يوماً في سأم من كل شيء، ثائراً على نفسي، نظرت فإذا حبي كله قد فشل والعدل قد ضاع... ثم عدت الى ذاتي أنطوي عليها فرأيت ذاتي أبعد شيء عني.. وقمت من فراشي وقد مسّني ما أثارني وتناولت كتاباً كساه الغبار ففتحته فإذا هو الإنجيل وقرأت فيه: (تعالوا اليّ أيها المتعبون والثقيلو الأحمال وأنا أريحكم)». وبعد لحظة من الصمت ظننتها النهاية عادت نفسي تلخص هكذا: «ذلك المهد، ذلك الهيكل، تلك الصحراء، رأس الجبل، العلية تلك، ليل البستان، المحاكمة الصاخبة، الجلجلة، يسوع هو موضوع ملحمتي، لقد وجدت الطريق».


• المادة والروح:
«المدنية التي تقوم على المادة وحدها هي مدنية جوفاء: لا زاوية فيها للروح وللحب المتصلين بينبوع النور الأزلي. أليس المسيح روحاً محيياً، وحباً شاملاً، ونوراً أزلياً؟ فبالروح يحيا الإنسان لا بالجسم، وبالحب لا بالمادة تخف آلام البشر، وبالنور يهتدي الحائر لا بالظلام. فرسالة لبنان روح ومحبة ونور».