إقتصاد ومال

صناعة السينما في لبنان
إعداد: تريز منصور

الإبداع موجود لكن من يؤمّن تمويل أفلام ذات قيمة فنيّة؟


يرتكز الاقتصاد المعرفي على عنصرَي الإبداع والابتكار، وتعتبر صناعة السينما من ركائز هذا الاقتصاد الذي يُعَوّل عليه كثيرًا في عصرنا. ففضلًا عن كونها من الفنون ذات التأثير الكبير في الوعي الجماهيري، يمكن لصناعة السينما أن تكون قطاعًا رافدًا للاقتصاد. ولبنان غني بمواهبه الفنية التي كان لها دور كبير في نشوء الصناعة السينمائية الرائدة في مصر.
يتضمن الأرشيف السينمائي اللبناني أفلامًا صنعها مخرجون شغوفون يمتلكون الموهبة والاحتراف. ونال عدد منها جوائز وتقديرات عالمية مهمّة، لكن على الرغم من ذلك فإن صناعة السينما في لبنان ما زالت تصطدم بعقبات كبيرة.


يعتبر الخبير الاقتصادي الدكتور غازي وزني في حديث لمجلة «الجيش» أنّ صناعة السينما هي ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاد الجديد أو اقتصاد المعرفة، على اعتبارها الواجهة السياحية الأبرز. ومع أنها مرّت بفترة ازدهار فقد تراجعت بشكل كبير منذ اندلاع الحرب اللبنانية، وهي اليوم لا تشكّل سوى 0،2 في المئة من قطاع الصناعة اللبنانية (تشكّل الصناعة نحو 12 في المئة من الناتج المحلي). وهذه النسبة وإن كانت منخفضة فقد تحقّقت بفضل بعض الأفلام التي أُنتجت خلال العقد الحالي ولاقت إقبالاً على شباك التذاكر.
ويلفت الدكتور وزني إلى أنه لم يعد لدى المستثمرين اللبنانيين القدرة على الاستثمار في هذا المجال، في حين نمت صناعة السينما في بعض الدول العربية كسوريا ومصر ودبي وتونس...بفضل الدعم الذي تلقاه من الدولة، على عكس الواقع في لبنان. فدعم مصرف لبنان لاقتصاد المعرفة يشمل إنتاج البرامج والمسلسلات التلفزيونية، من دون أن تكون للسينما حصة في هذا الدعم.
ويشدّد وزني على ضرورة تشجيع هذه الصناعة العابرة للحدود والحاملة رسائل بلغات متعدّدة، والتي تمكّن لبنان من استعادة دوره الثقافي والريادي الذي فقده خلال العقدين الماضيين، خصوصًا أنها تنعكس إيجابًا على حركة المؤتمرات والسياحة. أما الدعم وفق وزني فيمكن أن تؤمّنه الموازنة العامة ومصرف لبنان، أو الحوافز الضرائبية التي تقدّم للمستثمرين.

 

صناعة مكلفة
من ناحيته يعتبر الناقد السينمائي جورج كعدي (أستاذ في الجامعة اللبنانية وجامعة الكفاءت) أنّ السينما هي صناعة إبداع فني يختلف عن غيره من الفنون الأخرى، فهي صناعة مكلفة. إذ إن الأفلام المعدّة للاستثمار والعرض ومقاربة الجمهور تحتاج إلى مبالغ إنتاجية ليست بسيطة. مع ذلك ثمّة إنتاجات سينمائية اختبارية إنتاجها غير مكلف كتلك التي تصوّر بواسطة الهاتف الخليوي مثلًا، كما أنه من الممكن على الصعيد المحلي إنتاج فيلم بمبالغ متواضعة. فالأمر رهن بقدرة المخرج على تقديم فيلم بأقل كلفة ممكنة، وطريقة ناجحة ومتقنة وإبداعية، خصوصًا إذا كانت أحداث القصة تدور ضمن غرف مغلقة وأماكن محدّدة.
ويضيف كعدي: «أعتقد أنه لغاية اليوم لم يُنتج فيلم لبناني تخطّت كلفته المليوني دولار، حتى في الفيلمين الأخيرين «قضيّة 23» لزياد دويري و«كفرناحوم» لنادين لبكي، رغم حرصهما على السخاء إنتاجيًا. وهنا لا بدّ من الاشارة إلى أنّ كلفة الإنتاج مرتبطة بعدة عوامل منها تنفيذ الميكساج وغيره من العمليات في الاستديوهات الخارجية (أوروبا وأميركا)، ما يتطلّب زيادة في الموازنة.
ويتابع كعدي قائلًا: «إنّ 90 في المئة تقريبًا من الإنتاجات السينمائية الأميركية هي إنتاجات ضخمة، فبقدر ما يكون الإنتاج ضخمًا بقدر ما يُحقّق المزيد من الإيرادات على شباك التذاكر وفق المفهوم السائد في الصناعة السينمائية الأميركية. أما السينما الأوروبية، فهي أداة للالتزام والنضال، بمعنى آخر، إنّها سينما تُنتج أفلامًا ذات مضمون إنساني واجتماعي وفني وسياسي»...

 

السينما اللبنانية: مغامرات فردية
السينما اللبنانية، وفق كعدي ضعيفة، وبعبارة أصحّ ليس لدينا سينما، إنّما لدينا مغامرات سينمائية. وهو يقول: منذ نشأتها في زمن الرواد أمثال المخرجين جورج نصر وجورج قاعي وعلي العريس وميشال هارون، كانت سينما تجارب ومغامرات فردية. فقد غامر هؤلاء الروّاد برصيدهم الشخصي ليصنعوا أفلامهم. وكان ذلك نتيجة شغفهم بالسينما. المخرج جورج قاعي مثلاً، باع أثاث منزله لينتج أحد أفلامه.
بعدها جاءت المرحلة الوسطى أو مرحلة السينما التجارية الشعبية، وهي سينما مغامرات شباب و action تأثّرت بالسينما المصرية العريقة حيث المغني هو بطل الفيلم.
ويمكن القول إنّ السينما اللبنانية اليوم هي سينما تجارب غير مستمرة، وتفتقد إلى جهات راعية للإنتاج، فمعظم منتجي الأفلام السينمائية اللبنانية هم أوروربيون وأميركيون، وعملية البحث عن منتجين تستغرق أحيانًا سنوات طويلة. وبالتالي فهي عملية نضال يومي شاق، وعملية عرض وطلب، وعلى المخرج أن يقنع الجهات الداعمة بفيلمه ليحصل على الإنتاج. في المقابل، نرى أن الدولة في مصر تدعم السينما منذ فترة طويلة، تمامًا كما هو الحال في سوريا وتونس والمغرب والجزائر...

 

المرحلة الذهبية
ويتابع كعدي قائلًا: مرحلة الحرب تعتبر المرحلة الذهبية والأهمّ في تاريخ السينما اللبنانية، التي تناولت الحرب ونهايتها وتداعياتها، وكل ما نتج عنها حتى اليوم من أفلام مهمة.
الحرب شيء قبيح ومضرّ للبشرية، ولكن ربما ضّارة نافعة، فمن إيجابيات الحرب اللبنانية أنها أسهمت في خلق سينما لبنانية يُدافع عنها فنيًّا، إذ عبّر عدد كبير من المخرجين الموهوبين، عن ذواتهم، ورؤاهم، ومواقفهم السياسية من الحرب وتداعياتها في أفلام ذات قيمة فنية.
إن الأفلام التي تبقى رغم مرور الزمن هي تلك المتميزة بجديتها وقيمتها الفنية وبإلتزامها قضيّة ما. نذكر في هذا السياق مثلًا، «حروب صغيرة» للمخرج مارون بغدادي، و«ويست بيروت» لزياد الدويري، و«آن الآوان» لجان كلود قدسي، «الإعصار» لسمير حبشي، «بيروت اللقاء» لبرهان علوية، وسواه من الأفلام لمخرجين مثل خليل جريج، وحاحي توما، ورفيق حجار ونادين لبكي...

 

مبدعون ولكن...
إذا أردنا النظر إلى الموضوع من الزاوية الاقتصادية، فإنّ هذه الأفلام لم تدعم الناتج المحلي اللبناني لأنها لم تنجح شعبيًا على شباك التذاكر، فالجمهور يقصد السينما بهدف التسلية والضحك ويهرب من الأفلام الجديّة ذات القضايا الجوهرية. ولهذا نرى أن الأفلام الخفيفة التي عُرضت في الصالات اللبنانية خلال الآونة الأخيرة، تلقى إقبالًا كثيفًا، على الرغم من أنها لا تعتبر أفلامًا سينمائية حقيقية لناحية التصوير والأداء والمؤثّرات، وتبدو كأنها مجرد حلقات تلفزيونية...
إنّ عدد مشاهدي الأفلام الجديّة لا يتجاوز الخمسة آلاف مشاهد، في حين أنّ الأفلام الخفيفة تستقطب ما يزيد عن 400 ألف مشاهد. وهذا الواقع لا يدعم السينما، بل يعطي صورة سلبية عنها، في حين يجد البعض أنّ تعوّد الجمهور اللبناني على ارتياد صالات السينما لمشاهدة أفلامٍ لبنانية، هو بحدّ ذاته بادرة إيجابية.
وفي ما يتعلق بتوافر القدرات البشرية المبدعة القادرة على تنمية السينما اللبنانية، يؤكد كعدي أنّ الجامعات اللبنانية تخرّج كوادر مبدعة في مجال الإخراج السينمائي والتلفزيوني، ولكن هؤلاء ينتظرون توافر تمويل لإنتاج أعمالهم. وبالتالي فالحال في قطاع السينما يشبه سواه في القطاعات المنتجة جميعها وتنقصه رعاية الدولة. هذه الرعاية يمكن أن تكون من خلال إنشاء صندوق دعم أسوة بالدول العربية، تتمّ تغذيته من عائدات البطاقات لإنتاج عدد من الأفلام سنويًّا. إنّه مطلب مزمن لم يلقَ أذانًا مصغية لغاية اليوم...