كلمتي

صوم للوطن
إعداد: العميد الركن صالح حاج سليمان
مدير التوجيه

لقد تطوّر الإعلام وتنوعت أساليبه وازدادت وسائله وتشعبت أغراضه، خصوصاً المرئي منه، بحيث ضاقت الأعين عن اللحاق به، وتعبت الآذان في الاطلاع على نتاجه، كائناً ما كان مستواه، وكائنة ما كانت فائدته.

وبلغ هذا الفيض أرضنا حتى ضاقت ضفافها بالتصريحات والمقابلات ودعوات التصعيد وأمنيات التهدئة، تحت عناوين خدمة الوطن وصون ترابه وتأكيد حضارته وبسط العدالة والبحبوحة في أرجائه. ويندرج ذلك، في معظمه، تحت عنوان السياسة، حتى وإن تعلق الأمر بالزراعة أو الصناعة أو الصحة أو البيئة، وذهبت حرية التعبير بذلك يميناً ويساراً فقيل ما يجب وما لا يجب أن يُقال، وطال الكلام واشتد السباق.

صحيح أن الكلام في السياسة أقل أذى وأكثر سلماً من طبول الحرب، إلا أنه، وفي الكثير منه، ينذر بتلك الحرب ويدعو اليها ويحرّض على حصولها ويرسم خطوطها ويذكّر بمآسيها ويذكي نارها. وما كانت السياسة لتفعل شيئاً من دون تأييد المؤيدين وحماس المتحمسين وتهوّر المتهورين. إذ إن أفراد الشعب، المساكين في معظمهم، لا يكتفون بالتصفيق لتلك السياسة، بل يذهبون بعيداً في الاندفاع والمناصرة في حالات يؤدي بعضها الى العنف والى نقطة اللارجوع.

وتتبادل الأطراف المساجلات المتواترة والحوارات الساخنة، وما إن يسكت طرف حتى يتناول طرف آخر سطور الكلام فتتوالى الردود وتزداد الحدة، لكن الذي يبقى في سكوت متواصل هم الناس، اللهم إلا من طفح كيل الأنين والأوجاع لديهم، ومن باتوا وأضحوا أسرى للوعود الخائبة ولليأس المجنون.

ونحن نعرف أن الإنسان في الدين، يصوم عن الطعام من وقت الى آخر شكراً لخالقه وصوناً للمخلوق الذي فيه التخمة، وتدريباً على الصبر وقوة الإرادة للنفس التي تحيا داخله، كما أنه يصوم أحياناً عن الطعام منقطعاً عن الدنيا منصرفاً لمناجاة السماء. يفعل الإنسان ذلك، حين يكون مواطناً فرداً لا يتعدى صوته حدود بيته، أو جدران مكتبه ومصنعه، أو في أبعد حال، مسافة إرسال هاتفه. أما حين يكون من الناطقين بالسياسة إسماً وفعلاً وممارسة فإن الأمر يختلف، إذ يكون الكلام مطلوباً على مدى الساعات والدقائق.

في مقابل ذلك، إذن، الأمل هو في دعوة من العمال والفلاحين والموظفين والتلامذة والمدرسين ومن سيدات البيوت ومن العاملات في الحقول ومن باقي الساكتين المهذبين الذين ينصتون حين يتكلم غيرهم، دعوة لأن يصوم فريقا السياسة، إن كانا اثنين، أو أن يصوم الفرقاء، إن كان العدد كبيراً، عن الكلام يوماً واحداً في الأسبوع، يستمعون خلاله الى هؤلاء مقابل ما يُسمعونهم إياه في الأيام الستة الأخرى.

في يوم الصوم هذا، فسحة نادرة لسماع أصوات المتألمين، وتلقّي آرائهم التي تنطلق من الجرح عصباً وشعوراً، ومن المشكلة عقدة وحلاً، ومن الحاجة رقماً وحجماً.

إن تغيير كلام السياسة مستحيل، وإن ضمّ الفرقاء في فريق واحد أشدّ استحالة، وإن الحد من مساحة الحرية مستغرب ومرفوض خصوصاً وإنها من السمات الأساسية لبلادنا. لكن، في الاستراحة الأسبوعية تلك تقليد جديد جميل ترتفع خلجات الناس فيه الى العلن، ويستريح دماغ الوطن ويمضغ ما علق به من كلام سابق، فينام خاوي الذاكرة طاوي المخيّلة. أما إن تعذر الصوم في اليوم المذكور، فلا بد عندئذٍ من ملازمته بالصوم عن الطعام، فتعب المعدة يمتد في الغالب الى اللسان، فيسكت ويُريح.