رأي

طاعون قَيد التّشريج
إعداد: روني ألفا

الهاتِف الخَلَوي مَرَضٌ عُضال. لا ينفَع معه عِلاج كيميائي ولا عمليات استئصال أورام خَبيثَة. كلَّما يبدأ بالنّباح تشعُرُ أنَّك خَسِرتَ في الغَمّيضَة. لا مَكان تَهرب إليه من رَنَّةِ الَخَلَويّ. تَكاد توازي طاعَتُكَ له طاعَة الوالِدَين. إلى جانِبِكَ في السَّرير. أقرَبُ من وِسادَتِكَ إليك. على «التّشريج». على حافّةِ المِغطَس شريكُكَ في «حمّامِ الهَنا». الخَلَوي أوَّل شيء تلمسه بعد أن تستيقظ صباحاً.
تَسمَعُهُ يُزَلغِطُ كالنسوَة. يَعزِفُ على كلّ الآلات الموسيقيَّة. يَموءُ كالقِطّة ويَعوي كالجَرو. غالبًا ما يلحُّ عليك وأنتَ مُغَطّى بالصّابون. تَتَشَوَّقُ لِمَعرِفَة المُتَصِّل. بينَ القفزِ من المَغطَس للـ«آلو» وبينَ فَكّ الوِرك وَلَوي الكاحِل، يلتَهِمُكَ الفُضولُ لتكشفَ هويَّةَ المكالمة المُجهَضَة.
تَلعَنُ السّاعَةَ وأنتَ تَسمَع صَوتَ مُديرَةِ مبيعاتٍ مبتَدِئَة في شَرِكَة متخصّصة بِشَفط دُهون البَطن أو بإنباتِ الشَّعر في صلعَةٍ مزمِنَة. يأتيكَ الاتصالُ من مؤسَّسَة «نَحِّف زوائدك بِدقائِق مَعدودَة». تَريدُ الشركة بيعَكَ حنجورًا من شَعيرِ الحَميرِ المُنَحِّف.
تُراوِدُكَ أحيانًا رَغبَةٌ جامِحَةٌ بِعَدَم تلقّي اتّصال صَديقٍ أو قَريبٍ أو زَميلٍ سَمِج. لا لسببٍ إلّا لأنَّكَ «عايِفٌ للتَّكَنَة» وسارِدٌ بشيءٍ مِن القَلَق على مَجموع فَواتيرِكَ الشَّهريَّة. على شأنٍ عائليّ. يُصِرُّ السَّمِجُ على استهلاك الرنَّةِ الواحِدَة والعِشرين قبلَ أن يتملّكه اليأسُ من سَماعِ صَوتِك.
يَحدُثُ أحيانًا عندَما تُقَرِّرُ عَدَمَ تلقّي المُكالَمَة لأنَّكَ في السيّارَة مُطيعٌ لِتَعليماتِ السَّلامَةِ المروريَّة. يَحدُثُ أن يُحَيّيكَ المتَّصِلُ بإيماءَةٍ من يَدِه بَعدَ ثَوانٍ وهو في السيّارَةِ المُحاذِيَة على الأوتوستراد. يبدأ سَريعًا بالتلويح لكَ بكِلتا يَديه. تشعُرُ أنّه كان بودِّه أن يحيّيكَ بِإصبَعِهِ الأَوسَط سخطًا وَعتبًا عليك لأنَّكَ تَجرّأتَ وَقرَّرتَ أن تتجاهَل اتّصالَه.
أبرزُ آلَةٍ كاشِفَةٍ للكَذِب في القَرن الواحِد والعِشرين الهاتِف الخَلَوي. لا يمكنُ أن تَختَبئ معه من أحَد. يُعطي إشارَةً ترصدُ وجودَكَ إذا أرادَت حَرَمُكَ المَصونُ مثَلاً أن تَقتَفي آثارَكَ الطيِّبَة. زوَّدتها التكنولوجيا الحَديثَة مؤخّرًا وسيلة تَحديد تواجدكَ الجغرافي بدّقة متناهيَة. دقَّة جغرافيَّة تكشفُ تاريخَك.
إذا أقفلتَ الخَلويَّ أعلَمَك جِهازُكَ باسم المتصِّل وبوقتِ الإتصال. ما أن تعيدَ تشغيلَه مِن جديد يُشغِلُ بالَك. إذا وَضَعتَه في الخِدمَة ألزَمَكَ بالرَدّ تَحتَ طائِلَة قِلَّة التَّهذيب. إذا ضَبَطتَه على خِدمَة «الخَطّ المَشغول» يتَّهِمونَكَ بالكذِب مثل بينوكيو مَهما كانَ مِنخاراكَ صَغيرَين.
أمّا الحبُّ فَغَيَّرَ أسلوبَهُ. كانَ يَعشَقُ الكِتابَةَ على صفحات الوَرَقِ. صارَ يُفَضِّلُ «الرَّسائِلَ النَصيَّة»...صارَ الغَزَلُ على الـ «SMS» والـ«what’s up» والتويتر والـ«VIBER» مَستَحَبًّا أكثَر من الغَزَل على دَفاتِر الأشعار بالقربِ مِن عين الماءِ في ساحَةِ الضَّيعَة.
«الحَورُ العَتيق» الّذي كَتبَت عليهِ فيروز اسمَ حبيبِها صارَ مثل «رَملِ الطّريق». صارَت الدُّنيا «تُشَتّي» على كِلَيهِما لأنَّ عُشّاقَ اليَوم يُقبِّلونَ شاشات الهَواتِف الذكيّة ببلاهَةٍ. ربَّما يتَعلَّمونَ بَعدَ سَنوات إنجابَ الأَطفال عبرَ ممارَسَةِ الواجبات الزوجيَّة مع الـ«Apple Store» وقَد يَتِمّ عَقدُ القِرانِ بينَ المَساطيل في أيّ مَعبَد من مَعابِد iPhone أو Samsung وَسنَسَمعُ صَوتًا إلكترونيًّا يَقولُ «بالمَجدِ والكَرامَة كلِّلهُما».
كلُّ أفراد العائِلَة في لبنان خَلَويّون. التَرويَقَة خَلويَّة. الغَداءُ خَلَويٌ. العَشاءُ خَلَويٌ. نَسافِرُ عبرَ الخَلَوي. نَعودُ عبرَ الخَلَوي. نَتَواعَد. نتَخاصَم. نَدفَع. نَقبُض. نَعتَذِر. نُرَحِّب. نَقبَل. نَرفُض. نُحِبّ. نَكرَه. نُزَعبِر. نؤجّل. نُسَرِّع قَريبًا ونخترِع عائلات تُكَنّى على اسمِه. آل «خَلَوي» في لبنان والمَهجَر. لِم لا؟
ينادي الأَولاد العامِلَة المنزليَّة عبرَ الخلَوي. العاملة المنزليَّة تسمَعهم بفضلِ الجيل الثالِث من G٤. عنَدَما تجتمِع العائِلَة يوم الجمعَة أو الأَحد في المَنزِل الأبَوي لِتَرتاحَ من صَخَبِ أيامِ الأُسبوع، تَرى الجَميع يتبادَلونَ عبرَ أجهِزَتِهم رُسومًا متَحَرِّكَة اسمُها «إيموجي» وعلامات هيروغليفيَّة وإشارات ضَوئيَّة تعكِسُ الرِّضا والخَوفَ والاستِحسانَ والحَرَد والسّرور والحبّ والصّداقَة...
لا يَسمَعونَ.لا يُسمَع إليهِم. لا يَتكَلّمونَ. يُتَكَلَّمُ إليهِم. لا يَنظرونَ. يُنظَر إليهم. إنَّهُ الخَلَويُّ...طاعونُ العَصرِ الجَليديِّ الحَديث!