ضيف العدد

طالب العلم خادم له
إعداد: د. عمر عبد السلام تدمري

لاا أدري ما هو الدافع القوي الذي كان يتملّكني وأنا في نحو الخامسة عشر عاماً من عمري لأن أقوم بين يوم وآخر بالخروج من بيتنا، فأصعد سيراً الى "أبي سمراء" تارة، والى "القبّة" تارة أخرى، وأتخذ من لوحة "مدينة طرابلس" المثبتة عند حدودها نقطة انطلاق للانحدار نحو المدينة، وأنا أسابق نفسي مشياً الى أقصى نقطة في مدينة "الميناء" عند "الحمام المقلوب"، ثم أعود الى البيت.

وكنت أسير، أحياناً من بيتنا الى “بركة البداوي” شمالاً، أو الى “أبو حلقة” جنوباً. واستمر هذا دأبي بضع سنين.

وقبيل العشرينيات من عمري، طرأ تحوّل على برنامج سيري، إذ وجدتني أتجوّل في أرجاء المدينة فأطوف في شوارعها الحديثة في أواخر الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن المنصرم، وأراني أعدّ طبقات المباني التي كان أقصاها يرتفع الى سبع طبقات ثم أعدّ لوحات الأماكن التي تضاء بـ”النيون” أو “الفلورسنت” الملوّن. وكنت أشعر بسعادة بالغة حين أعيد التعداد والإحصاء بعد أسبوع أو بضعة أسابيع فأجدها زادت واحداً، بما يبشر أن مدينتي في طريقها الى التطوّر والحداثة والإتساع.

وذات يوم اصطحبت ورقة وقلماً، وقمت بجولتي المعتادة، وإذا بي أدوّن أسماء ومواقع الأماكن والمعالم العامة والمميزة. فكتبت أسماء المصارف، وأسماء المؤسسات الرسمية، والجمعيات، وفي يوم آخر سجلت أسماء المساجد، ثم الكنائس، ثم المدارس، والحمامات، والخانات، وتتبعت سبل المياه، وأحصيت - أخيراً - دور السينما، والمقاهي، حتى المطاعم، والمصابن، والمطاحن...

وازدادت الأوراق، وتداخلت الأسماء والمعلومات، فاشتريت دفتراً، وقسمته الى عناوين لكل موضوع. وعدت لأطوّف من جديد في شوارع المدينة وأسواقها وحاراتها وأزقّتها، ورحت أدوّن كل التفاصيل في الدفتر الذي وضعت له عنوان “طرابلس”.

هكذا بدأت بواكير اهتماماتي بمعالم مدينتي، واحتفظت بتلك المعلومات لنفسي، وكنت أعود للدفتر من وقت لآخر، أعدّل فيه معلومة، وأضيف أخرى، أو أمحو كلّما طرأ ما يستدعي ذلك من إزالة أحد المعالم، أو استحداث موقع جديد.

وكنت دائماً أسأل نفسي عن جدوى هذا كله! وأصل في بعض الأحيان الى الاستخفاف بما جمعت، والاستهانة بما دوّنت، وأن ذلك لا يعدو كونه مضيعة للوقت، وتسويداً للأوراق بما لا طائل تحته.

ومع ذلك احتفظت بالدفتر لبضع سنين.

وفي السنة الأولى من دراستي الجامعية في القاهرة كان ضمن برنامج دراستنا مادة تسمى “قاعة بحث”، وطلب مني أستاذ المادة وقتها أن أكتب بحثاً عن القاهرة من خلال كتاب “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار”، ويُعرف بكتاب “الخطط” للمقريزي، وهو مؤرّخ مصري قاهري معروف، أصله من بعلبك. فقصدت “دار الكتب المصرية” في حيّ “باب الخلق”، ودخلتها لأول مرة، فبهرني الازدحام الشديد في أروقتها وقاعاتها على ضخامتها واتساعها، واستعنت ببعض الباحثين ليدلّني كيف أحصل على الكتاب الذي أريده. وأخذت مكاناً لي في قاعة المطالعة، وبعد دقائق جاءني الموظف ووضع أمامي أربعة مجلدات من الحجم الكبير، مطبوعة طباعة حجر، ورحت أتصفّح فهارس الكتاب، وانتقلت الى قراءة مقدمة المؤلف، وقلّبت الصفحات... وسرعان ما اعترتني الدهشة والاستغراب للحظات. وصحوت من مفاجأة لم أكن أتوقعها.. فالكتاب بمضمونه، وأسلوبه، ومنهجه مشابه لدفتري بأوراقه المتواضعة. و”المقريزي” يطوف في كتابه، ويصف خطط مدينة القاهرة وآثارها، ويحصي أسواقها وشوارعها ومحلاتها ودروبها، ويؤرخ لمعالمها، ويذكر أسماء بُناتها، ويأتي على ذكر كل خطة على حدة، ويذكر ما فيها من جوامع، ومدارس، وأديرة، وقصور، وحمامات، وخانات، وسبل مياه.. وغير ذلك من مواقع قديمة، ويعرّف بأصحابها... ورأيتني أسرح بخيالي الى مدينتي طرابلس، مستحضراً ما جمعته في دفترها، وقلت بصوت سمعه من حولي في القاعة: “يا سبحان الله”، أية مصادفة هذه!!

أيقنت حينها أن ما كتبته في ريعان الصبا لم يكن بدعاً، وأن تجوالي وطوافي في أسواق طرابلس ودروبها لم يكن لهواً ولعباً، بل كان إرهاصاً واستشرافاً لما هو آت...

وتحوّل “دفتري الصغير” الى مجلدات عن طرابلس, ثم الى مجلدات عن لبنان، ومن ثم اتسعت دائرة التأليف والتحقيق الى نحو 150 كتاباً، في التاريخ، والحديث، والأدب، والآثار، ولكن هذا كله لم يغيّر من كوني طالباً للعِلم، خادماً له.