تأملات

طاولة الشطرنج
إعداد: ريتا أبو مراد

في أحد أيام طفولتي كنت جالسةً أتأمّل العم جورج يلعب الشطرنج برفقة العم خالد، ولا أحد يعلم كم من الحروب قد مرّت عليهما...
الشطرنج؟! اللعبة المفضّلة والهواية اليومية لحكام العالم أجمع... المهم، نطق العم جورج بجملة، التصقت بذاكرتي. قال بأسى لصديق عمره: «شو هالبلد، وين ما حبلت بتخلّف بلبنان...», فردّ العم خالد ممازحًا: «إلعب يا رجل! الحكي ما بينفع، ركّز على اللعبة وإلّا طار الملك منّك!». ما زلت حتى الآن لا أفهم قوانين الشطرنج، ولماذا ينبغي أن يموت الجندي لكي يحيا الملك! ولا أعلم إذا كان هذان الرجلان على قيد الحياة الآن، إلّا انني متأكدة أن طاولة الشطرنج ما زالت تراوح مكانها!
هل نفضنا فعلاً غبار الاستعمار عن أقدامنا كما أخبرونا؟ هل حققنا الاستقلال التاريخي، وعن أي استقلالٍ نتكلّم؟!
نعم... لقد مرّ على استقلالنا سبعون عامًا، وأثبتنا بجدارةٍ أننا لا نعرف معناه... وكأنّ الاستقلال المزيّف الذي رفضناه العام 1941 قد استقبلناه بشكل آخر في 1943، وادّعينا انه استقلالٌ حقيقي. وكأن الاستعمار الذي طردناه من الباب سابقًا، قد أدخلنا أخاه بفرحٍ من النافذة مجدّدًا.


قراراتنا؟ سيادتنا؟ قوميتنا؟ أمننا؟
كلها أسئلةٌ مرهونة بلعبةٍ دولية كبيرةٍ أتقنها لاعبوها. واذا كان تعريف الدولة المستعمرة هو: دولة غير قادرة على أخذ قراراتها بنفسها، وعاجزة عن التحكّم بمصيرها ومصير شعبها... فهنيئًا لنا، نحن اذًا دولة ٌ مستعمرة بجدارة، مع ميداليةٍ ذهبية أعطيت لنا من الماراثون الدولي!
حتى أصغر القرارات، كتشكيل حكومة مثلاً، بات متعلقًا باتفاقات اقليمية-دولية تبرم وتوقّع على الطاولة الدولية، أو ربما تحتها. وأنا لا ألوم السياسة أبدًا، بل ألوم الساسة، وألوم أيضًا من أنجب الساسة ووضعهم على الساحة...
نسأل أنفسنا: كيف أصبح واقعنا على هذه الحال؟ وأين تُرسم السياسة اللبنانية؟ مما لا شك فيه، أن السياسية اللبنانية مرتبطة طبعًا بالمؤثرات الخارجية. والمشهد كالتالي: عندما تتوافق القوى الخارجية العظمى وتتناسب مصالحها المتقاربة-المتباعدة، يعيش وطننا في أمانٍ وسلام، وتتعانق قوانا السياسية كأن شيئًا لم يكن. وفي المقابل عندما تتضارب مصالح هذه الأمم، تهب ريح الخطر في ارضنا ويمتعض الشعب وتتناحر القوى السياسية اللبنانية... وعلى هذه الحال، نحن سائرون!
كأن الحرب الباردة الأميركية-الروسية لم تنتهِ بعد، إنما هي مستمرة على ارض شرق أوسطية جديدة عاصمتها ومصدر مقرراتها ومكان ولادتها كما قال العم جورج: بيروت.
والحرب، أكانت باردة أم ساخنة أم فاتــرة، تبقــى حربًــا... وفي الحــرب لا شــيء محــرّم ولا شــيء ممنــوع.
قد يسأل البعض: هل هي نظرةٌ إلى النصف الفارغ؟ وماذا عن التاريخ؟ فالتاريخ ولد لنتعّلم منه!
هذا ليس يأسًا سياسيًا دراماتيكيًا، إنما هو واقعٌ حاليٌ جليّ قبيح، مهما حاولنا تجميله وزخرفته بشعاراتٍ وهميةٍ وطنية ملّت آذاننا من سماعها. وكم من الوصايات والانتدابات مرّت علينا ولم نأخذ دروسًا منها الّا كتب التاريخ.
فإن أخذنا الانتداب الفرنسي على سبيل المثال، وعلى الرغم من بعض تصرفاته القمعية التي لا تختلف كثيرًا عن ما نتعرّض له اليوم في وطننا «المستقل»، إلا أننا نرى من خلاله بداية ملامح ما يسمى بدولة. فقد شهد لبنان آنذاك ولأول مرة، ولادة دستور تحكم البلاد بموجبه، إضافة إلى وضع أسس للقوانين، ورسم مخططات لبناء دولة المؤسسات، كذلك فتح الباب أمام الإنجازات الثقافية... كل هذه العوامل كانت نقطة البداية لتأسيس مفهوم الدولة.
وإذا كان المبرر للإنتداب آنذاك هو تحسين وضع لبنان السياسي، وتنظيم فوضاه، وتطوير قدراته، فهذا لا يعطي الحق لانتدابٍ أبدي، وإلّا أكل القوي الضعيف، وهذا بعيدٌ كل البعد عن مفاهيم العدالة الإنسانية.
إلا أن ما حصل بعد انسحاب الانتداب كان حتمًا أسوأ، وعندما حاول اللبنانيون حكم أنفسهم بأنفسهم، فشلوا، نظرًا الى التعثر الكبير الذي رافق نشوء الدولة إضافة إلى المؤثرات الخارجية الإقليمية... وعلى الرغم من ذلك عاش لبنان فترة ازدهار لا بأس بها... إذ أصبحت بيروت المركز التجاري والمالي الأهم في المنطقة، واكتسب النقد اللبناني مناعةً وقوة، وارتفعت احتياطات لبنان من الذهب، وتأسس المصرف المركزي، فاكتسب لبنان صفة الدولة الحديثة. نعم، لقد أثبتنا خلال هذه الحقبة أننا فعلاً قادرون على بناء دولةٍ ناجحة منتظمة بأنفسنا، لكن وبسبب تداعيات القضية الفلسطينية، أصبحنا في موقع لا نحسد عليه، وبات فتيل النزاع أينما كان، يشتعل من لبنان.
عندما أبحث عن حلّ لهذه المعضلة، أرى مَثل سويسرا حاضرًا أمامي... سويسرا عاشت سابقًا ثلاثة قرون من الحروب الأهلية تحت سيطرة الألمان، والإيطاليين والفرنسيين، وكل ما قامت به للخروج من أزمتها كان الحياد.
نحن لا نحتاج إلى وصايةٍ خارجية لنتقدّم، أو إلى حرب أهلية لكي نتعلّم... نحن فقط، كدولةٍ صغيرة جغرافيًا، نحتاج إلى الحياد السياسي، الحياد وليس الإنعزال!