من القلب

طلعنا على الضوّ
إعداد: إلهام نصر تابت

على بساطتها, كانت عبارة ذلك العسكري الأكثر تعبيرًا وتأثيرًا في طوف الكلام والمشاعر: «طلعنا من تحت التراب» قال عندما سئل عن شعوره. بين التراب والعسكري ما بينهما من عهود وروابط وحكايات يومية، وكلها في الجهة المعاكسة لتراب الأسر.
تراب البلاد جزء أساسي من القَسم الذي يؤدّيه العسكري.
وتراب البلاد هو العطر الذي يتضمخ به العسكري متدربًا، ومقاتلًا، وشهيدًا.
أما أن يكون التراب حبسًا يقيم فيه أسيرًا، فتلك حالة يستبسل العسكري كي لا يسقط فيها.
حصل ما حصل، ففي المعارك والحروب يحصل أن يقع جنود في الأسر.
أقاموا في غربتهم سنة وأربعة أشهر.
أقام أهلهم في خيم الانتظار والقلق. صارعوا الخوف، لكنه أمعن في تعذيبهم وأكل من عيونهم وقلوبهم ومجمل أجسادهم. طافوا الساحات والشوارع، حملوا صور الأحباء والصبر والانتظار.
راجعوا، اجتمعوا، التقوا، استمعوا... حملوا الأمل راية وتمسكوا به. لكن الخيبة كانت تأتي في كل مرّة لتعيد الدمع إلى العيون.
الملف صعب، بالغ الصعوبة.
أقاموا في غربتهم وأسرهم سنة وأربعة أشهر.
رفاقهم في الجرود والساحات والشوارع. يقارعون الخطر. أطياف المخطوفين لم تغب عن عيون الرفاق. فهؤلاء لم تفارق معظمهم صورة أخوة لهم يواجهون أسوأ ما يمكن أن يواجهه جندي. في ليل الجرود الصماء، كانت أطياف الشهداء والأسرى شريكة في صنع البطولات ومقارعة التحديات.
بعد سنة وأربعة أشهر، عادوا: 16 عسكريًا إلى أحضان أمهات وآباء وزوجات وأخوة، إلى فرح أولاد كبروا سنوات في غضون أشهر. وعاد السابع عشر، شهيدًا تنحني لشهادته ولوعة أهله الهامات.
دموع كثيرة طافت العيون، من الصعب في لحظات كهذه إعطاء هوية واضحة لكل فئة من الدموع. كان الفرح والحزن متجاورين إلى درجة التلاصق والتلاحم. ثمة جنود آخرون استشهدوا... وثمة المزيد من الانتظار المفتوح على القلق، وأيضًا على الأمل.
تعودنا أن تأتينا المشاكل دفعة واحدة، عسى الحلول تأتي أيضًا دفعة واحدة، ولو كان التمني إسراف في الأمل.
عسى أن تكون عودة العائدين محطة يولد فيها أمل يغلب القلق ويضع حدًا للانتظار. انتظار أسرى وأهل ورفاق، وانتظار وطن أقام كثيرًا في مستنقع مياهه الآسنة ليست آتية من الخارج فقط... عسى أن نكون في طريق جديد لنقول مع ذلك العسكري: «طلعنا على الضو، طلعنا على الحرية...».