تحية لها

طوت ١٣٠ عامًا: عميدة المعمِّرين تتذكّر وتتمنّى
إعداد: الرقيب كرستينا عباس

تصوير: العريف جاك البيطار

 

هي امرأة قوية، بكل ما للكلمة من معنى تمتلك قوة الجسد الذي ما زال صامدًا مع أنّها في العام الثلاثين بعد المئة. وقوة الإرادة التي بواسطتها ذلّلت الكثير من الصعاب خلال حياة هي بنمطها العادي قاسية. وقوة الذكاء الذي أتاح لها التغلّب على «العسكر» العثماني أيام سفر برلك... ميمونة أمين التي عايشت الحروب والتحولات الكثيرة ما زالت تتذكر وتروي... إنّها أكبر معمِّرة في العالم، ولعل هذه السطور ستكون مقدمة لدخولها موسوعة غينيس للأرقام القياسية.

 

حين كانت صبية أحبت رجلًا، عارض أهلها زواجهما فكان الحل بالخطيفة، لكن العروس هي التي أخذت المبادرة وخطفت العريس. معادلة القوة ظلّت دائمًا راجحة لمصلحتها، كانت تحمل زوجها على أكتافها كلما تعب في الطريق إلى بلدة الدبابية - عكار حيث ما زالت تسكن إلى اليوم. صاحبة العمر الطويل المولودة في فنيدق في العام 1890، شهدت من الحروب والأحداث الكبرى ما يلزم الإنسان أكثر من عمر لمعايشته. عرفت الفرح والحزن والمآسي، ولكن «الحياة تستمر» كما تقول. تعِبت كثيرًا في مختلف مراحل حياتها، وعلى الرغم من المشقات، كانت وما زالت تشكر ربها، فعبارة «الحمد لله» لا تفارق شفتيها.
في بلدةٍ تملؤها المساحات الخضراء، ربّت أمين عائلتها وعلّمتها المحافظة على مهنة الأجداد وحماية طبيعتهم. في الماضي، لم تكُن أراضي البلدة زراعية فمعظمها كان مغطًى بالأشجار البرية والصخور، وكان فيها 4 منازل فقط. تحافظ البلدة حتى اليوم على نسبة كبيرة من المساحات الخضراء، من ضمنها أراضٍ زراعية واسعة. منازلها من طبقتين على الأكثر وكلّها محاطة بالأشجار والمزروعات.

 

عميدة المعمِّرين
في العام 2015 توفيت اليابانية ميساوا أوكاوا التي اعتبرت يومها أكبر معمِّرة في العالم بحسب موسوعة غينيس للأرقام القياسية وكان عمرها 117 عامًا.
وفي 25 تشرين الأول 2019 توفيت الروسية تنزيلا بسمبييفا عن عمر يناهز 124 عامًا.
حاليًا تعتبر غينيس اليابانية كين تاناكا البالغة من العمر 117 عامًا أكبر معمرة في العالم.
اليوم بات على الموسوعة العالمية أن تعيد النظر لتجعل ميمونة أمين عميدة المعمِّرين في العالم.


ذكريات سفر برلك
في أيام «سفر برلك»، وصل العسكر العثماني إلى بلدتها وراح يسوق الشبان إلى الخدمة العسكرية والسخرة. ألبست والدها ثيابًا نسائية وحجابًا وخبّأته بالتبن. تتذكر أمين هذه الحادثة بتفاصيلها وتقول: «أخذوا من البلدة اثني عشر شابًا ونجا أبي منهم. لكنّهم أخذوا أحد الجملَين الاثنين اللذين كنا نملكهما».
لم تكسرها الحروب أبدًا. فالسيدة ميمونة كانت تخبئ الحنطة في رزمات تضعها في الأرض لمحاربة الجوع. في تلك الأيام الصعبة لم تنسَ أهل بلدتها، كانت تطبخ يوميًا وتأخذ الغداء لأهل البلدة المختبئين قرب النهر. تحمل «الدست» المليء بالطعام على رأسها، وتربط سلة خبز التنور على خصرها وتسير إلى النهر، ثم تعود إلى بيتها لتحمل من جديد الطعام إلى الجائعين إذ لم يكن بوسعها حمله للجميع دفعة واحدة.

 

حياة قاسية بكل المقاييس
كبرت السيدة ميمونة في عائلة قروية كانت تعيش من الزراعة ورعي الماشية والصيد، تمامًا كما أعالت هي أيضًا عائلتها. كانت العائلة كما أهل البلدة ينقلون المياه من النهر على ظهور الحيوانات إذ لم تكن المياه متوافرة في البلدة ولم تكن هناك قنوات لجرّها. في الصيف، كان الأهالي يسكنون في أكواخ بالقرب من النهر. عاشت حياة قروية فيها الكثير من المشقات، تقول: «كانت أرجلنا تغرق في الثلج ولا نكترث، نسحبها ونتابع المسير، على الرغم من أنّنا لم نكن نرتدي النِعال».
عمِلت أمين في الزراعة ورعي الماشية. طوال 50 سنة، كانت تقطف مواسم الزيتون في الكورة، وتقيم هناك طوال الوقت فلا تعود إلى البيت إلا بعد انتهاء الموسم. عملت أيضًا في زراعة التبغ في بلدة قناة الشمالية، ولكن ليس لمدة طويلة. هنا يتدخل أحد أحفادها في الحديث ليشير إلى أنّها كانت تذهب إلى فنيدق لتنجز الأعمال الزراعية ثم تعود لتنهي أعمال المنزل قبل أن يكون النهار قد انتهى. ويضيف: «عندما كنا نعمل معًا، لم أكن أستطيع اللحاق بها بسبب سرعتها وقوّتها. دائمًا تسبقنا».
على الرغم من عملها في الزراعة خارج البلدة، كانت تعود فتحرس الماشية وترعاها ولا تتذمر. في موسم الفستق، كانت تبدأ التقاطه منذ الصباح الباكر حتى الساعة الثالثة بعد الظهر.

 

من خيرات الطبيعة
يقول المثل «العقل السليم في الجسم السليم»، وهو ما ينطبق على السيدة ميمونة. فهي اليوم، ورغم أنّها لا ترى ولا تسمع جيدًا، لا تعاني أي أمراض مزمنة كالسكري والضغط أو سواها. وعقلها سليم فهي ما زالت محافظة على وعيها وذاكرتها. تتذكر أحفادها جميعهم وتميّزهم عن بعضهم، كما تتذكر الأحداث التي مرّت عليها بتفاصيلها الدقيقة. لم تأكل في حياتها أي مادة معلّبة أو مشتراة من السوق، طعامها كله من خيرات الطبيعة ومن منتجات المواشي.
حاليًا، يتولى أحفادها إطعامها. وهم يسكنون في البلدة ويتّبعون العادات الغذائية نفسها ويعملون في المجال الزراعي أيضًا، أما أولادها فقد تُوفّوا جميعًا.

 

اللـه يوفقكن
كان للسيدة ميمونة في ختام حديثها مع مجلة «الجيش» تمنٍ خاص، إذ قالت: «حفيدي خضر العسكري هو من يهتم بي، أرجو منكم أن تقرّبوا مكان خدمته. فهو يسكن بالقرب مني ويعيلني ويساعدني في التنقل. إن قرّبتوه اللـه يوفّقكن وإن ما قرّبتوه كمان اللـه يوفّقكن، بس قربولي ياه!»، وهنا اختلطت ضحكتها بدموع عزيزة.
غادرنا البيت يرافقنا صوتها: «اللـه معكن توصلوا بالسلامة».

 

أبناء وأحفاد
رُزقت السيدة ميمونة بخمسة أولاد: 4 فتيات وصبي، ومات آخرون فور ولادتهم. أحفادها وأحفادهم كُثُر: «ما فيي عدّن» تقول. وتضيف: ابني وحده أنجب 4 صبيان و6 فتيات، ولديه العديد من الأحفاد، ولأخواته أولاد وأحفاد كثيرون.