- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
تكتسب المؤسسة الدينية في اسرائيل قوتها من كون ان الدولة قامت منذ نشوئها في الأساس على فكرة الخلاص «المسيحاني» (نسبة للمسيح المنتظر) والعودة الى الاصولية اليهودية باعتبارها تمثل الشرعية المتمتعة بالقداسة. وتجدر الاشارة الى ان القيادات الدينية بمختلف اطيافها وتفرعاتها الطائفية والعرقية والسياسية، تتركز في العديد من المؤسسات الرسمية واهمها دار الحاخامية، ووزارة الشؤون الدينية سابقاً، والكيبوتس الديني، والجيش الاسرائيلي، وسواها من المؤسسات الاخرى. وبحكم هذا الانتشار لا ينحصر تأثير المؤسسة الدينية هذه في المجال الاجتماعي والعقائدي فحسب، بل يمتد الى المجال السياسي والامني، ليجعل منها واحدة من اكبر قوى الضغط والنفوذ في شتى المجالات تحت شعار الحفاظ على الدين اليهودي والحكم بالشريعة اليهودية التي تعتبر احد أهم عناصر القومية اليهودية.
لقد بدأ تنامي التيارات الدينية الاصولية اليهودية بشكل خاص منذ العام 1967، ومن ثم تصاعد هذا التنامي بصورة لولبية منذ صعود الليكود الى السلطة عام 1977 وتراجع قوة حزب العمل او تراجع قوة تيار الصهيونية الاشتراكية العلمانية، هذا ناهيك عن التغييرات الديموغرافية والاجتماعية التي شكلت الهجرة المتتالية ذات الاصول الغربية والشرقية، والتي فيها تيارات ثقافية ولغوية وحضارية متباينة تركت بصماتها القوية على المجتمع الاسرائيلي وابرزت هويته غير المتجانسة. وقد انتشر المد الديني المتطرف بشكل خاص بين ابناء الطوائف اليهودية ذات الاصول الشرقية الذين وجدوا انفسهم في وضعية دونية من الناحية الاجتماعية واحياناً مهمَّشين مقارنة بأقرانهم من ذوي الأصول الغربية، مما جعلهم يعملون بتعصب من اجل الاحتفاظ بهوية متميزة من خلال الدين، ومن خلال السعي الدؤوب لتبوء مراكز حساسة وذات تأثير في الدولة. وفي هذا السياق اوردت الصحف الاسرائيلية ان الآلاف من خريجي المعاهد الدينية يتدفقون منذ فترة طويلة من الزمن على الالتحاق بالجيش، ولكن مع الحفاظ على روابطهم الوثيقة بمعاهدهم وزعاماتهم الروحية التي ما تزال تمثل مصدر الالهام الاول لهم في سلوكهم وتصرفاتهم، بحيث تحولت الخدمة العسكرية لديهم الى وسيلة لخدمة المشروع الديني المسيحاني. وفي هذا المجال صدرت فتاوى حاخامية كثيرة تحذر من «المفاوضات السلمية» وتدعو الى رفض اي انسحاب اسرائيلي من الجولان، والى رفض اية اوامر عسكرية في هذا المعنى.
ولم يقتصر السعي الديني للتوغل داخل الجيش الاسرائيلي على تولي مناصب قيادية عليا او على الالتحاق بالدورات المختلفة لتخريج الضباط او صفوف الضباط، بل امتد ليشمل مرحلة ما قبل التجنيد الالزامي. وبادر الزعماء الدينيون الى تشجيع الشبان المتدينين الذين لم يحن بعد موعد تجنيدهم، على الاهتمام بالمسار العسكري وتفضيله على مسار الحياة المدنية، وذلك من خلال انشاء مجموعة من المعاهد، التي تقوم باعداد الشباب المتدينين للحياة العسكرية. اما الاسباب الحقيقية والدوافع الكامنة وراء هذه التوجهات فيمكن تلخيصها بما يلي:
1- ان المؤسسة العسكرية هي بوتقة المجتمع الحقيقية. وان دمج المتدينين فيها يكسبهم القدرة العالية على التأثير من دون التأثر المخل بالالتزامات الدينية.
2- ان المؤسسة العسكرية الاسرائيلية هي قاعدة انطلاق للتأثير في المجتمع المدني بكل مؤسساته. وبالتالي يمكن للمؤسسة الدينية ان توجد لنفسها مساحة اكبر واوسع في المجتمع المدني من خلال المؤسسة العسكرية.
3- ان حصول نسبة غير قليلة من المتدينين على تدريب عسكري متقدم في كافة المجالات يزيد من قوة وقدرة اليهود والمتدينين، ولا سيما المستوطنين، في امكانية الاعتماد على الذات في المجالات الدفاعية تجاه الاخطار الداخلية او الخارجية.
وعلى الرغم من ان قادة الجيش والدولة غير متحمسين كثيراً لاستيعاب الشبان «الحريديم»، اي المتعصبين دينياً، في صفوف الجيش النظامي، فقد أكّد مراراً بعض القادة العسكريين والزعماء السياسيين، ومنهم رئيس الاركان الاسبق الجنرال آمنون تساهاك، ان الجيش لن يستطيع توفير ظروف خدمة خاصة بهم تجعلهم في معزل عن غيرهم من الجنود غير المتدينـــين وبعــيــداً عن الفتيــات اللــواتي في الخـــدمة. الا انــه بعــد ســـــقــوط مئات القتلى والجرحى من الجنود الاسرائيليين في لبنان وفلسطين، راح الشارع الاسرائيلي يعبِّر عن امتعاضه من جراء تهرّب الآلاف من الشباب «الحريديم» سنوياً من الخدمة العسكرية وترك الآخرين يقومون وحدهم بهذه المهمة الشاقة. وقد اوضح رئيس الحكومة الاسرائيلية الراحل اسحق رابين في حينه ان «الجيش غير راغب في تجنيد ابناء المعاهد الدينية المتعصبة، لأنهم لا يستطيعون الانصياع للاوامر، وان تجنيدهم سيسيء للجيش اكثر مما سيحققه من فوائد».
في مقابل هذه المواقف التي اثارت اشكاليات كبيرة وخطيرة داخل الجيش الاسرائيلي وخارجه، توصل التيار الديني القومي الصهيوني الى صيغة حل وسط مع الحكومات الاسرائيلية المتتالية، تقوم على انشاء معاهد عسكرية متديّنة، تجمع ما بين الدروس الدينية والعسكرية، بحيث يتم تحويل خريجي هذه المعاهد الى الجيش لقضاء فترة خدمة قصيرة يعودون بعدها إما الى مواصلة دراساتهم الدينية او الانضمام الى الانشطة المختلفة في المجتمع. ومع تزايد المد الديني داخل المجتمع الاسرائيلي وتزايد مشاركة الاحزاب الدينية في الحياة السياسية وتنامي قوتها داخل الكنيست (البرلمان) وبروز امكانية حصول انسحابات اسرائيلية من مناطق عربية محتلة، ادرك المتدينون ان تأثيرهم على الاحداث لن يكون كاملاً من دون ان يكون لهم موطئ قدم في الجيش، ليس فقط على مستوى التواجد الرمزي في الوحدات المقاتلة، بل ايضاً على مستوى السعي للوصول الى مراتب قيادية عالية. وقد ذكر المراسل العسكري لمجلة سلاح الطيران حاجي ليفي، ان عدد المتدينين الذين تخرجوا عام 1997 من دورة اعداد طيارين مقاتلين، قد تساوى مع عدد الخريجين من ابناء الكيبوتسات، بعد ان كان هؤلاء يحتلون في السابق المرتبة الاولى بين تشكيلات الطيارين المقاتلين. كما ذكر مراسل صحيفة «هآرتس» يوآف ليمور ان العناصر المتدينة اقتحمت مدارس تخريج ضباط الصف مروراً بكلية تخريج الضباط وانتهاء بدورات تخريج قادة السرايا والكتائب. ويضيف ليمور ان العناصر المتدينة باتت موجودة داخل القيادات العليا في الجيش، بعد ان كانت الشخصية المتدينة الاكبر في الجيش هي شخصية الحاخام العسكري. وهذه التحولات اثارت الكثير من اللغط والمخاوف لأسباب عدة اهمها: عدم التزام المتدينين بالسلطة القانونية وميلهم الدائم لتجاوز القوانين على اساس عقائدي ديني، وميل هؤلاء الى العنف والعدوانية المفرطة وعدم احترام اوامر الحكومة، خاصة في ما يتعلق بالانسحاب من بعض الاراضي العربية المحتلة هنا أو هناك. وفي هذا السياق كتبت «هآرتس»: «إن صعود الحركة الدينية القومية والتعصبية يهدد طابع اسرائيل الصهيوني ان لم يكن وجودها المادي ايضاً».
يؤكد المتدينون في إسرائيل أن تأثيرهم على الأحداث لن يكون كاملاً من دون أن يكون لهم موطىء قدم في الجيش مع السعي للوصول الى مراتب قيادية عالية
صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية علّقت بالقول: «إن صعود الحركة الدينية القومية والتعصبية يهدد طابع إسرائيل الصهيوني إن لم يكن وجودها المادي أيضاً»