- En
- Fr
- عربي
علامات فارقة
23 عاماً على غياب عاصي الرحباني مايسترو التجربة الفنية الفذّة التي انزرعت في الوجدان اللبناني، ساطعة البهاء، عصيّة على التقليد، دائمة الحضور.
عندما تُذكر التجربة الرحبانية تُذكر بأركانها الثلاثة عاصي ومنصور وفيروز. غير أن العلاقة الثنائية بين عاصي وفيروز كانت على الأرجح موقداً تأججت فيه نار إبداع عاصي وفيروز معاً. هذا ما يفصح عنه مقرّبون رافقوا مسيرة الثلاثة ومنهم جوزف أبو ضاهر وعصام محفوظ وهذا ما أعاد تأكيده فيلم «كانت حكاية» الذي أنجزته ريما الرحباني تحية لوالدها في الذكرى الثالثة والعشرين لغيابه.
والحكاية أتت على لسان بطليها: عاصي عبر مقاطع من مقابلتين تلفزيونيتين (أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات). وفيروز في شهادة استثنائية لعاصي العبقري النبيل الراقي، الذي اختار دروب القسوة والمرارة موظفاً كل خلجة في نفسه لصناعة الجمال.
«كانت حكاية»
تحدث عاصي عن طفولته بين الكروم ومع الناس الطيبين، عن الفن والفولكلور وفيروز التي تجادل وتعترض وتبدي ملاحظات قيّمة.
وتحدثت فيروز عن عاصي الذي كانت حياته قصيرة إنما مليئة «شغل وتعب»، زرع الكثير من الجمال و«فلّ بكير»، الرجل الذي أحبت صوره و«مطارحه» فدخلت إليها ولم تعد تستطيع مغادرتها، فصارت عالمها.
رسمت صورة الفنان «الديكتاتور» القاسي على نفسه وعلى العاملين معه سعياً إلى الأجمل والأكمل، والخلاّق الذي يجترح حلاً إبداعياً لكل موقف.
تكلمت فيروز، شهدت لعاصي، لفنه وإنسانيته، وبما هي عليه من تواضع وصدق ووفاء، جعلت نفسها في فيء سنديانته الوارفة، وقالت: كنت أنفّذ كل ما يطلبه، كنت أؤمن به.
بين ما قالته شهرزاد الحكاية الحاملة مفاتيح الذاكرة، وما قاله عاصي، أغانٍ ومقاطع من مسرحيات، ولقطات تسرّب الكثير من عطر الحب والشغف الذي جمعهما، وما زال حياً يتوهّج مخترقاً مأساة انفصالهما ومأساة غيابه في عز عطائه.
عاصي: حياتي الفنية بسيطة!
البداية من «نحنا والقمر جيران» (النسخة المسجّلة بتوزيع جديد لزياد الرحباني) و«بتذكرك» (لزياد الرحباني)، مهّدتا للفيلم الذي بدأ مع «رح نحكي قصة ضيعة...».
يبدأ عاصي رواية القصة: ربينا في قرية بين الكروم، في الارض، ربطتنا صلات طيبة بالناس... والبيوت، «أرض الإنسان بيتو».
وينتقل إلى الحديث عن عمل الأخوين رحباني، فيقول: حاولنا أن نبني على الفولكلور فناً له ملامح عالمية، الفولكلور هو ما وصل إلينا من الشعب، عادات، كلام، ألحان، نضيف إليه أشياء ليست دخيلة على روحيته، الفنان يحلم بأن يبدع، «بياخد الفوكلور وبيبني عليه».
وعن الغناء وتطوره قال: إن ما يتطور هو أسلوب الإداء، الاوركسترا، أيّ أغنية أجمل القديمة أم الحديثة، الأغنية الحلوة، هي الأغنية الحلوة، قديمة كانت أم جديدة، مثل زهرتين... وعن أعمال الرحابنة وفيروز وتقييمه لها، يقول: لا نقدر أن نقول أي عمل هو الأكثر نجاحاً، كل فنان عندما يعمل تكون غايته تجاوز ما عمله من قبل. عندما يكون في قلب العمل لا يستطيع أن يحكم، التقييم يحصل في ما بعد. «هلق أنا بدوامة الأعمال، بفتكر انها سلسلة بتكمل بعضها»...
ويعتبر أن الجمهور لديه إحساس صحيح تجاه العمل الفني، والأعمال التي لم يكتب لها النجاح، «نكون قد أخطأنا فيها في مكان ما».
وعن الشعر الذي يحبه: لا أحب نوعاً واحداً من الشعر، أنا ضد تصنيف الأشياء بين قديم وحديث، أحب الشعر «اللي فيه جمال».
أحب الإخراج الخجول، قال عاصي، الإخراج الذي لا صرعات فيه. والتوزيع الموسيقي وظيفته إغناء «شخصية» الأغنية وإظهارها أكثر، لذلك يجب أن يكون سهلاً وبسيطاً كي لا يطغى على اللحن الأصلي. للآلات الموسيقية إمكانات لا تنتهي، تماماً مثل الحروف والكلمات، الأمر يعود إلى شخصية الإنسان الذي يستعملها ليطلع منها قصيدة أو «لا قصيدة»، الأمر نفسه بالنسبة إلى الآلات الموسيقية.
وعن فيروز والمسرح قال: فيروز ذكية، ذاكرتها قوية وتمرّنت سنوات طويلة، هذه مهنتها ومفروض أن تحفظ كل الأدوار، وقال إنها (فيروز) تجادل وتعترض وتشارك في ملاحظات قيّمة.
ورداً على سؤال يتعلق بصوت أم كلثوم وأغانيها قال عاصي، إن أم كلثوم عندما تغني تضفي طابعها على الألحان، وقسم مسيرتها الفنية الى مرحلتين، قديمة رافقها خلالها ملحنون ممتازون وكان صوتها يقول «أشياء اعجازية»، وحديثة فيها الكثير من النضوج والخبرة والتطور مع ألحان محمد عبد الوهاب. وقال: أم كلثوم خدمت الفن عمراً طويلاً ولا يجب أن يطرح سؤال حول ما خسره صوتها. مع التقدم في العمر الصوت يخسر في النوطات العالية، لكنه يكسب في القرار، صوت أم كلثوم مواسم، ولكل موسم جماله، لا نستطيع أن نقول أن الربيع أجمل من الصيف...
الإبداع ينبع من الفنان، وهو لا يستطيع أن يشرح إبداعه منطقياً، يقول عاصي، وبمنتهى التواضع يعلق على حياته الفنية: «حياتي الفنية بسيطة، ما كنت مفكر بالفن، كنت قول زجل ومولع بالشعر، حبيت الفن، صرنا نتعلم... فكرنا بس نعبر عن نفسنا ببساطة...».
فيروز:حبيت صور عاصي ومطارحو
«حبيت صور عاصي ومطارحو، دخلت عليا وما عاد فيي اطلع منا، صارت هيي عالمي. كانت حياتو قصيرة، بس ملياني شغل وتعب... ما كان يرتاح لا ليل ولا نهار... زيارتو عَ الدني كانت قصيرة زرع جمال، تركلنا جمال كتير وفلّ بكير... ترك مملكة من الجمال، عطاء كبير مهم كتير، بالمواضيع والألحان بكل شي.
الاشيا اللي مرقت عاديي قليلة، لكن ولو عاديي، كانت راقية وحلوة، الناس كانو يتركو المسرح حافظين الأغاني، الناس اليوم بيروحو ع المسرح بيتفرجو... بس ما معن زوادي للايام اللي جايي».
وعن قلقه وترقبه صدى عمله قالت:
عندما يقدم عملاً جديداً يريد أن يعرف النتيجة بسرعة من خلال ردة فعل الناس. أحياناً كان الجمهور يتأخر في التصفيق، كان «ينشغل بالو، ويسأل»، كان الجمهور يسمع، يتابع «يلحق الشغلة لآخرا»، التصفيق ليس دائماً علامة الرضى.
وتصفه: كان جريئاً في طرح افكاره، يؤمن بها، يسمع آراء الناس و «بالآخر يعمل اللي هوي بيشوفو»، «ما كان يحب المطارح والظهور، كان المديح يخجله، همه يوصل للناس».
وعن سعيه الدائم إلى الأفضل والأجمل قالت:
فكرة التغيير دائماً موجودة عنده، حتى خلال التسجيل في الاستديو كان أحياناً يطلبني «لأنو طلع معو شي جديد، يحفّظني وارجع سجل من جديد، وإذا تاني يوم كان في شي مش عاجبو نرجع... ما في شي نهائي عندو، ما كان يتعب من التفكير بالاشياء، يشيلا، يحطا، يسمعا، يشوفا... عندو صورة براسو بدو ياها مثل ما هي».
وتذهب إلى أبعد في توصيف شخصية عاصي وقسوته على نفسه والعاملين معه عندما يتعلق الأمر بالعمل:
كان ديكتاتوراً، قاسياً، متطلباً، ليس من السهل إرضاؤه في اللفظ، الصوت... عنده معايير، وكل الحركات على المسرح خاضعة لما في باله، حركة اليدين، الرأس، اللفتة، كل شاردة وواردة يجب أن تحظى برضاه، لا يسمح بالارتجال والاضافات... «ناسو بدو ياهن بالصورة اللي بيحبا».
في العرض الأول للمسرحيات، يكون بالمرصاد، يراقب يسجل «شو بدو يشيل شو بدو يحط، مع إنو يكون هوي مخلّص العمل».
وتروي عن مرة سمعت خلالها صوت أنفاسه بينما هي تغني موالاً قد حفّظها إياه للتو:
«مرة ببعلبك كان عندي موال (تخمين راحت حلوة الحلوين)، كان حدي ع المسرح عم يرافقني عَ البزق». كنت أسمع أنفاسه، أخافني، ربما كان هو خائفاً ألا أكون قد حفظت الموّال جيداً، «ما بعرف، ما سألتو».
وتضيف:
«كان إلو سلطة رهيبة، ويخافو منو كتير، من قسوتو».
وعن عمله: «الشغل اللي انشغل» كان يدخل القلب مباشرة بصدقه وإحساسه، فيه من البساطة والجمال والحقيقة... «والدليل إذا منشوف الإشيا اللي صدرت عن عاصي، بتضل لاحقتك وعايشه معك...».
وتعود لتروي من جديد:
كنا نقدم «هالة والملك»، انقطعت الكهرباء، كان ذلك شيئاً جديداً في تلك الأيام. الناس تضايقوا. «طلع عاصي وحاكاهم، ما بعرف شو قلّن»، لكنه طلب أن يحضروا إلى المسرح شمعدانين، وقال لي: «منقول مقطع للناس... طلعت، طلع عاصي دق عَ البزق، وغنيت». عادت الكهرباء. «الناس ما بقا بدن يكملو المسرحية بدن ضل غني»، لم يقبل عاصي، تابعنا العرض، دائماً كانت عنده حلول مفيدة وحلوة.
«بيس» مرة وحده وبس!
بمنتهى العفوية والتواضع تحجب نفسها خلف عبقرية عاصي معلنة إيمانها به، وتنفيذها ما يراه مناسباً من دون جدال:
كان يمنعني أن أعود إلى المسرح عندما تنتهي الحفلة مهما طالب الجمهور بعودتي. أنا لم أكن أسأل، كنت أؤمن بكل ما يقوله. «بالآخر تخمين قد ما الناس قالولو»، قبِل أن أعود لتحية الجمهور وإنما لمرة واحدة، «بيس مرة واحدة وبس»، كان يعتبر ما قدمته كافياً، «البيس ما إلو لزوم». ربما كان على حق، أنا لم أكن أجادله في شيء، كنت مؤمنة بكل ما يقوله، ومعجبة بآرائه وأفكاره، على الرغم من أنه كان قاسياً، ولا يقبل النقاش، لكنه «مهم كثير، في نُبل بتصرفو، ونقل لي هيدا الشي».
فيروز التي تقول في آخر الفيلم ان عاصي ليس بحاجة لأن تحكي عنه، «شغلو حكي عنو، وبيحكي عنو لآخر الزمان». تترك للأيام أن تقول ما لم يقل: «الوقت بيقول كل الاشيا، بيحدد، الحقيقة مع الوقت».
ومع «بتقول الخبرية هو وهي...» تنهي ريما الرحباني المشهد بينما يظهر عاصي خلف فيروز فرحاً منشرحاً وهي تؤدي الأغنية.
جوزف أبي ضاهر: عاصي كتب ولحن كل شيء لفيروز
رافق الشاعر جوزف أبي ضاهر مسيرة الأخوين رحباني سنوات طويلة، وكانت له معهما حوارات ولقاءات عديدة خلال مراحل مختلفة (له كتاب عن الاخوين رحباني). وإذ نسأله عن شخصية عاصي كما عرفه، يركز أولاً على هاجس الاتقان والدقة في العمل. لم يكن يتعب من التفتيش والإعادة وصولاً إلى الأجمل. ويروي في هذا المجال حادثة حصلت بحضوره في استديو بعلبك في السبعينيات:
كانت فيروز تسجل اغنية وعاصي يستمع، بعد أن انتهوا من التسجيل، أحسّ أن صوت «الفيولون» يجب أن يكون أكثر وضوحاً في مكان ما، قال: سنعيد التسجيل، فريد أبو الخير (صاحب الاستديو) قال له: الإعادة مكلفة والناس لن يشعروا بالفارق، أصر عاصي وقال مهما كانت مكلفة سنعيد، وإذا لم يشعر الناس بالفارق فأنا أشعر به.
ويروي أبي ضاهر أن اختيار كلمة ما أو سواها كان يقتضي من الأخوين رحباني أحياناً بحثاً مطولاً، بحيث تتم غربلة عشرات الكلمات قبل استخدام الأجمل. عمر الزين كان مرجعاً يستشيرونه في مجال مخارج الحروف والكلمات لتصل الألفاظ واضحة.
ويضيف:
كان عاصي يستمع إلى آراء الآخرين وبينهم شعراء كبار مثل جورج شحادة وسعيد عقل، لكنه هو من يقرر أخيراً. حتى الأشخاص العاديين يستمع إلى آرائهم، ويقول: نحن نكتب لكل الناس، يجب أن نصل إليهم جميعاً. وحول هذه النقطة تحديداً، أي أهمية وصول العمل إلى الناس واحساسهم به، يروي أبي ضاهر، أن عبد الوهاب كان آتياً إلى بيروت بعد تلحينه أغنية «أيظن» لنجاة الصغيرة، وسأله نجيب حنكش عن نجاح هذه الأغنية، فقال: سمعت حمّالاً في المطار يرددها، إذاً لقد نجحت.
وعن علاقة عاصي بفيروز وتأثير هذه العلاقة على إنتاجه الفني قال:
كان يحبها جداً، كتب لها كل شيء، لحن لها كل شيء، وكان قاسياً عليها في العمل، يحب العمل كاملاً، أي غلطة «بيطلع صوتو».
وفي محاولة للإضاءة أكثر على شخصية عاصي الرحباني الفذّة قال:
كان إنساناً مرحاً جداً، ظريفاً خارج العمل، لكنه مسكون بحزن داخلي، أحياناً يسكت ويبدو مأخوذاً، شخصيته فريدة، بتنوعها وبشمولية المعرفة التي إمتلكها في عدة مجالات إضافة إلى الموسيقى والشعر والفن عموماً. كان يعرف في الطب على قدر ما يعرف الأطباء، وكذلك في الدين والفلسفة. وكان متواضعاً وكريماً. كريم النفس في كل شيء. أذكر أنني مرة طلبت منه أن يعطيني بيت شعر لأنشره في سياق حديث عن عمل جديد أجريته معه. منصور قال لا يجوز أن ننشر شيئاً قبل أن نقدمه، قال عاصي: «عطيه بيتين»، وهذا ما حصل، أعطاني مطلع أغنية «بيقولو زغيّر بلدي».
في حديث إلى جوزف أبي ضاهر يقول عاصي الرحباني، الفولكلور ليس كله راقياً، نحن أخذنا منه الراقي، نظفناه، ويعقب أبي ضاهر على ذلك قائلاً: اشتغل الأخوان رحباني على اللحن والكلمة، كان الجمال هاجسهما. ويروي حادثة حصلت في بعلبك:
بعد إحدى الحفلات في بعلبك، جلسوا قرب رجل يدق المهباج ويغني، أخذ عاصي فنجان قهوة وقال للرجل غنّي، ولما انتهى، مدّ يده إلى جيبه واعطى الرجل «كمشة مصاري». وقالوا له ثمن فنجان القهوة «مش هالقد»، رد قائلاً: «اللحن حقو هالقد».
ويختم أبي ضاهر بالقول:
بدأت الأغنية اللبنانية مشوارها بخجل مطلع الأربعينيات في ظل سيطرة الأغنية المصرية، إلى أن جاء الأخوان رحباني وبكلام جميل ولحن متطور قدما أغنية لبنانية تواكب العصر، كأنهما كانا «شايفين 50 سنة لقدام». كانا سابقين لعصرهما، لقد زار مدير الإذاعة المصرية بيروت في الخمسينيات وعندما تعرف إلى الأغنية الرحبانية قال: «أنتم سبقتمونا في إختيار الكلام الأجمل والأفضل، ومستقبل الأغنية اللبنانية أهم من مستقبل أي أغنية عربية».
الأخوان رحباني لم يتركا مجالاً إلا وتناولاه، المناسبات المواسم، الفرح، الحزن... والأغنية الرحبانية، هي أيضاً أغنية الحنين التي حركت مشاعر المغتربين اللبنانيين، فارتبطوا بلبنان عبر صوت فيروز والكلمة الجميلة.
كانا عارفين في كل ما يختص بعملهما، يجهدان للوصول إلى الكمال ويدفعان بسخاء. أعمالهما اليوم حاضرة كأنها للتو ولدت.
عصام محفوظ: المايسترو المارشال
شهادة أخرى في عاصي الرحباني نقتطعها من مقال عصام محفوظ: عاصي الرحباني «سيد الدراوشة» (كتابه ماذا يبقى منهم للتاريخ، دار رياض الريس، بيروت 2000).
يرى محفوظ أن «الفن الرحباني تجسّد بشكل خاص في صوت فيروز»، ويقول إن اللمسة الأخيرة للصياغة كانت من اختصاص عاصي، وصارت بعد مرضه لمنصور، أما السبب في ذلك فيرده إلى كون عاصي هو الأكبر وبالتالي فقد تسلم دفة القيادة، مشيراً إلى أن حساسية الأخوين «تجاه الأشياء وتجاه العالم كانت واحدة، وقد ساهمت في تلازمهما، وساهم تلازمهما توحيداً وتطويراً في وحدتهما».
ويتحدث عن «هيمنة واضحة لعاصي على المجموعة، وهذه الهيمنة كانت تتحول في لحظات التنفيذ إلى شبه ديكتاتورية مطلقة تبدو أحياناً قاسية، لكنها القسوة الضرورية للانضباط». ويضيف محفوظ:
كان (عاصي) يهمس في أذني ضاحكاً: لهذا حملوني العصا. والمقصود عصا المايسترو، وقد تكون أيضاً عصا الماريشالية... وهذا ما جعل الثنائي يستمر ويتطور، ومنح عاصي فسحة نفسية لقولبة المجموعة... وقد يكون عاصي بالغ في تحمله هذه المسؤولية حتى صار لا يثق بأحد سواه في لحظات الصياغة الأخيرة، سواء في مجال الأداء الموسيقي أم الأداء التمثيلي، بل أيضاً في الإخراج التلفزيوني والسينمائي.
وعن علاقته بفيروز يقول:
«... نعرف نحن الذين كنا قريبين من البيت الرحباني أن فيروز هي عاصي وأن عاصي هو فيروز... كانت له تلك الصخرة من المرمر، كسر أسنان مطرقته في صقلها وجعلها كتمثال داوود لمايكل انجلو. كان يعرف كل ذرة في نبرات صوتها، وفي أوتار حنجرتها، وفي سعة رئتيها وفي قدرة احتمالها، وما لم يستطع أن يطوعه من صوتها لموهبته، سخر موهبته للتكيف معه. كانت بزقه وعوده وكلماته ولحنه وصوته وفكره. كان عاصي لا يحب فيروز فقط، بل كان يعبدها...».
لقطات
وزّعت ريما الرحباني أغانٍ ومقاطع من إسكتشات بين كل لقطة وأخرى لعاصي أو فيروز، وأبرزت لقطات جميلة لم تكن متداولة في الإعلام. وبينما يبدو عاصي في قمة التأثر خلال تأدية فيروز بعض الأغاني، تبدو هي منشرحة وفرحة عندما تنهي ما تؤديه وتستدير لتصبح في مواجهته. وفي لقطة مميزة يبدو عاصي وهو يومئ لها بمغادرة المسرح، وكانت حركته جواباً على تساؤل برز على وجهها بينما الجمهور يهتف ويطالب بها مجدداً.