الجيش والمجتمع

ضباط يحاضرون في فن القيادة

استراتيجية، تموضع، استهداف، تكتيك، تخطيط، عمليات... مفردات عسكرية بالأساس لكنها تستخدم في عالم الأعمال والشركات، وهي من المفاهيم الأساسية في مناهج الجامعات والمدارس المتخصصة بإدارة الأعمال وما يتصل بها. ففي هذا المجال كما في مجالات أخرى كثيرة، يستفيد المجتمع المدني من خبرات طورها المجتمع العسكري، كما يستفيد الأخير من المعارف والتقنيات التي طورها الأول.

نقطة الإنطلاق
برعاية قائد الجيش العماد جان قهوجي ممثلاً بالعميد الركن حسن أيوب مدير التوجيه، نظّمت كلية إدارة الأعمال والعلوم التجارية في جامعة الروح القدس- الكسليك ندوة بعنوان «ضباط القيادة يحاضرون في فنّ القيادة» (When the Army Talks Business)، في قاعة البابا يوحنا بولس الثاني في حرم الجامعة الرئيس. حضر الندوة حشد من الفعاليات السياسية والعسكرية والدينية والسفراء والملحقين العسكريين الأجانب في لبنان ورجال الأعمال، بالإضافة إلى أعضاء مجلس الجامعة والأساتذة وطلاب الدراسات العليا وعدد من ممثلي الشركات المحلية والدولية.

الفكرة والتطبيق
فكرة الندوة انطلقت من الجهد الذي يبذله الجيش اللبناني لتعزيز تواصله مع المجتمع المدني. عمليًا، طرح المستشار التسويقي في شركة «كليمنتين» الإعلانية السيّد جورج نجم، والإعلامية شانتال داغر فكرة مفادها الآتي: بما أنّ الجيش ليس فقط بنيةً جسديّة وأعمالاً قتالية، بل هو فكر استراتيجي يخطّط ويدرس الإمكانات والاحتمالات قبل الإقدام على أي مهمّة، فلمَ لا نضيء على المفاهيم العسكريّة الأساسية في عالم الأعمال (Business)؟
تبلورت الفكرة في إطار التقارب والتقاطع بين عالمَي الجيش والأعمال... فالقادة العسكريّون العظام الذين ساهموا في صنع التاريخ، تركوا إلى جانب إنجازاتهم الحربية والقتالية، بصماتهم في عالم الأعمال، ليس من خلال المفردات فحسب، ولكن أيضًا من خلال التفكير والمنطق والوسائل والطرق والأفعال.

وقائع الحدث
بعد النشيد الوطني افتتاحًا، وقف الجميع دقيقة صمتٍ إجلالاً لأرواح شهداء الجيش اللبناني. بعدها رحّب رئيس الجامعة الأب هادي محفوظ بالحضور وبالضباط القادة المحاضرين، مشدّدًا على أهمية التعاون مع الجيش، حامي الوطن والمواطن.
من جهته تساءل عميد كلية إدارة الأعمال والعلوم التجارية الدكتور نعمة عازوري «ما الذي يمكن أن يجمع بين ميادين القتال وميادين إدارة الأعمال؟»، مشيرًا إلى انه «غالبًا ما يشكل الإنضباط والتضحية والعمل الجماعي المنظم، المستخلصات الكلاسيكيّة في هذا الإتجاه، يُضاف إليها القيادة التفاعلية في ظروف بالغة التعقيد والمخاطر ومتعددة الإحتمالات». وأضاف: «إنّ المهارة التفاوضية والإدارية في ظروف معقّدة ومع أشخاص من مختلف الطبائع، قد تكون إحدى أهم سمات القائد المسؤول عن أرواح من يتأثرون في قيادته. ولعل هذا هو محك القائد الميداني، وإن لم تكن هذه الميزات تشكّل قيمة مضافة للقادة يمكن التعويل عليها في مضمار الإدارة».
الإعلامية شانتال داغر عرضت المواضيع التي تطرق إليها الضباط المحاضرون: «كيف يتم تعامل القائد مع المحنة إذا استجدّت؟ كيف يتّخذ قراراته؟ وما هي الخبرات والتجارب العملانيـة التي سيتشارك فيها مع الحضور؟»...
وأضافت: «هذا اللقاء هو محاولة لتسليط الضوء على أوجه التلاقي بين السلوك العسكري وسلوك الشركات، وتبادل المهارات الإدارية - العسكرية مع نخبة من طلاب إدارة الأعمال في لبنان». كما أشارت إلى أن «من أولويات العماد قهوجي قائد الجيش، تعريف الطلاب على الوجه الحقيقي للجيش اللبناني. وفي سبيل تلك الغاية قامت الأفواج الخاصة بعدة عروض عسكرية في الجامعات والمدارس إسهامًا منها في تأمين التواصل بين الجيش والمجتمع المدني».
من جهة أخرى، استذكرت داغر في كلمتها الشهداء الأبرار واللواء الركن الشهيد فرنسوا الحاج، مشدّدةً على دور الجيش الجامع والموحّد بين المناطق والطوائف والمذاهب، «همّه الوحيد الولاء للوطن في ضوء الشفافية والنزاهة، مما أكسبه ثقة اللبنانيين على مختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم».

أثر لا يُمحى
المستشار التسويقي في شركة «كليمنتين» السيّد جورج نجم تحدّث ذاكرًا أسماء قادة عسكريين دخلوا التاريخ عبر إنجازات عسكرية وانتصارات. «ولكن ما لا يعرفه الكثيرون، أنّ هؤلاء القادة قد قاموا على مرّ السنين بإدخال ما لديهم من وسائل وطرق وتقنيات وتكتيكات وحتى قاموسهم اللغوي، إلى عالم الأعمال وإدارة الشركات».
ثم قدّم قائمة أمثلة في هذا المجال، «تصوّر العلاقة الوطيدة والتبادل الوثيق بين عالمي الشركات والجيوش».
فمثلاً كلمة «تموضع» في عالم الأعمال هي مصطلح يشير إلى التقنيات والوسائل التي تُتّبَع لوضع منتج في السوق، ولكنه في الأساس، من ابتكار القادة العسكريين الذين كانوا يموضعون القوى في الميدان للإنتصار على العدو.
مثل آخر، «الهدف» الذي يستعمل في عالم الأعمال لحثّ الزبـون على الإستهـلاك، تمامًا كما يحدّد ضابط المدفعية هدفًا لضربه أو تدميره. ومصطلح «استراتيجيّة» في التسويق والتجارة والمال، أصله عسكري استعمل في الحروب.
كما قدّم نجم بالإضافة إلى الأمثلة اللغوية، قائمة بالتقنيات والمفردات العسكرية التي دخلت عالم الشركات والسوق والأعمال.
ثم قدّم لمحةً عن توزيع المداخلات التي قُسمت إلى أربعة محاور معالجةً عناوين تتوازى مع العناوين نفسها في عالم الشركات:
- المحور الأول: إدارة العمليات.
- المحور الثاني: الشجاعة والتحفيز.
- المحور الثالث: إعادة التنظيم الهيكلي في أوقات الصعوبات.
- المحور الرابع: التصرف في أوقات الأزمات.
 
العمليات والقرار
استهلّ المحاضرات مدير العمليات في الجيش اللبناني العميد الركن مارون الحتي الذي قدّم مداخلته باللغة الفرنسية، مسلّطاً الضوء على ماهية العمليات العسكرية وكيفية إدارتها والشؤون اللوجستية، وكيفية تقدير الموقف من أجل اتخاذ القرار المناسب. وعرض لمحة تاريخيّة عن كيفية تنظيم هيكليّة الجيوش، متحدثًا عن مختلف الأساليب التي يعتمدها الجيش في معالجة الحالات الشائكة وكيفية تنسيق الجهود والموارد.
وقد شدّد العميد الركن الحتي على أهمية وضع خطة لإدارة أي عملية، موضحًا أن وضع الاستراتيجية العسكرية - الوطنية يتم وفق تراتبيّة بدءاً من السلطة السياسيّة، مروراً بالمجلس الأعلى للدفاع، ومجلس الأمن المركزي، ووزير الدفاع، ثم إلى قيادة الجيش، وأركان الجيش للعمليات ومديرية العمليات، لتُعطى من بعدها أوامر يتمّ تنفيذها من قبل القوى المنتشرة على الأرض.
بعدها تطرّق إلى مراحل التخطيط، وكيفية تقدير الموقف، وعملية تنظيم العمليات وفق مبادئ الحرب التي تُختصر بحرية الحركة وتركيز الموارد واقتصاد القوى. ثم أعطى فكرةً عن صفات المخطِّط الذي يجب أن يكون متفهمًا، صلبًا، متواضعًا، وعالمًا بأرض المعركة أو مكان تنفيذ العملية.
من جهته، قدّم السيّد نجم مقاربةً بيّن من خلالها أنّ إدارة العمليات العسكرية تشكّل المنطلق الأساسي لكلّ تفكير وتنظيم وإدارة في الشركات العالمية، إذ لا يمكن تخيّل مجموعة نفطية عالمية مثلاً، وهي تعمل وتنافس غيرها وتبيع وتنتج من دون إدارة دقيقة لعملياتها.

الشجاعة والتحفيز...
قائد فوج المغاوير العميد الركن شامل روكز، ركّز في مداخلته على مفهومَي الشجاعة والتحفيز. بدأ بلمحة عن الفوج ومهماته، ثم عرّف بالشجاعة التي تعني عسكريًا «تخطّي الخوف في مواجهة مقاتل شرس أو حاجز صعب». بعدها انتقل إلى التعريف بمميّزات الجندي الشجاع وأهم خصائص القائد الشجاع مشدّدًا على ضرورة تفعيل مقومات الشجاعة: الأخلاق، والكفاءة والفعالية، والإنسانية والعاطفة، والإلتزام. واختتم مداخلته بالتحدّث عن عدد من العمليات التي نفّذها فوج المغاوير وبفيلم وثائقي عن الفوج.
الشجاعة والتحـفيز صفـتان تشكّـلان أساسًا لوصف رجــل أعمــال بالمــديــر الناجح، كــما يوضـح نجـم، ويـقــدّم أمثلـة عن شركــات بُنــِيَت على قرار شجاع مثل APPLE وYAHOO وGOOGLE.
ففي الشركات كما في الجيوش، يخرج الشجعان عن الصف ويتميّزون بحب المغامرة والمخاطرة.

إعادة التنظيم خلال المحنة
العميد الركن جورج نادر قائد الفوج المجوقل، تناول موضوع إعادة التنظيم والهيكلة في أوقات الصعاب والمحنة، مستشهدًا بخبرة معركة نهر البارد حيث كان عليه إعادة تنظيم الفوج بعد إصابة قائده. استهلّ مداخلته بلمحة عن الفوج المجوقل ومهماته وتنظيمه مقدّمًا مقارنةً بين وظائف أركان الفوج وآلية اتخاذ القرار، وهيكلية شركة مدنية. بعدها شرح مقياس الجهوزية العملانية للفوج خلال المعركة ومراحل تنظيمه خلال المحنة بدءًا من المرحلة التحضيرية، الى إعادة تنظيم القتال، ورفع إرادة القتال لدى العسكريين ومن ثمّ متابعة القتال. وختامًا عُرض فيلم قصير عن كيفية سحب جثّة شهيد في معركة نهر البارد تحت القصف والخطر.
العسكريون هم من اختبروا الصعاب قبل وجود مجتمع الأعمال والشركات، يقول نجم. فالصعاب التي تتحمّلها الجيوش وتختبرها من الناحيتين الجسدية والمعنوية، هي أعظم بأشواط من تلك التي تواجهها مجتمعات رجال الأعمال ومدراء الشركات. ويقدّم مثالاً عن هذه النقطة بالتحديد، كيف قام كارلوس غصن بإعادة تنظيم شركة Nissan ومن بعدها شركة Renault حين كانتا تمرّان في محنة عصيبة.

إدارة الأزمات
تحطّم الطائرة الأثيوبية في 25 كانون الثاني 2010، خبرة قدّمها العقيد الركن عبد الكريم هاشم قائد فوج مغاوير البحر، لشرح كيفيّة إدارة المهمة الاستثنائية التي نفّذها الفوج خلال هذا الحادث.  بداية، قدّم العقيد الركن هاشم لمحة عن تنظيم الفوج ومهماته بصورة عامة، ثم انتقل الى عرض أسس إدارة الحادث، مشيراً الى انّ المهمة تمت على مرحلتين: البحث عن الطائرة ومن ثمّ انتشال الضحايا والصندوقَين الأسودَين. بدأ العمل بوضع الخطة، فالتحضيرات، فإيجاز، فالإنتقال إلى البقعة المحددة، فالتنسيق مع Ocean Alert، فالكشف (Scanning)، والتنسيق وإفادة القيادة بالمستجدات (Feed back). كما تحدّث العقيد الركن هاشم عن الصعوبات والضغوطات التي واجهها عناصر الفوج خلال التنفيذ، مستخلصًا بعض التوصيات. واختتم محاضرته بفيلم يُظهر طريقة تنفيذ عملية انتشال الطائرة الأثيوبية وركّابها منذ لحظة تلقّي الأوامر وحتى انتهاء المهمة.
التسرّب النفطي الكبير من إحدى منصات الشركة النفطية البريطانية BP في خليج المكسيك... غرق الناقلة النفطية «أوريكا» التابعة لعملاق الطاقة البريطانية TOTAL... التسونامي الذي اجتاح شــواطئ الأرخبيل الياباني، وإلحـاقـه ضررًا فادحًـا بعمـليات الشركات اليابانية الكبرى وإنتاجها مثل NISSAN وCANON وSONY وغيرها... أمثلــة ارتكز عليها السيّد جورج نجم في مقارنته بين الخبرة العسكرية والخبــرة المدنيـة في إدارة الأزمات، ليخلص إلى نتيجة مفادها أنّه من أجل مواجهة الكوارث والخروج منها بسلامة، ينبغي على الشركات أن تتحلّى بالإيمان والعزم والدقّة، وتلك سمات عسكرية بامتياز.

أسئلة وأوسمة
بعد عدد من الأسئلة الإستيضاحية، قدّم الأب الدكتور هـادي محفـوظ دروعاً تقديرية لكل من قائد الجيش ممثلاً بالعميد الركن حسن أيوب، والضباط القادة الذين حاضروا في هذا اللقاء. من ثمّ انتقل الحضور إلى مائدة العشاء، حيث تسلّم كل من الضباط ربطة عنق بلون البزّة العسكريّة قدّمها لهم السيّد سامي صعب مدير شركة «كليمنتين»، عربون شكر وتقدير.

رجل أعمال بربطة عنق عسكرية
تمّ التحضير لهذا الحدث من خلال حملة إعلانيّة شاملة تضمّنت فيلمًا ترويجيًا عُرض على جميع شاشات التلفزيون وفي صالات السينما، ولوحات إعلانية على الطرقات وإعلانات في المطبوعات (مجلات وجرائد...) إضافة إلى حملة على الـ Facebook والـ Youtube.
سامي صعب (كليمنتين)، مبدع فكرة الإعلان ومنفّذها، يشرح أنّ الفكرة الإعلانية كانت نتيجة لكل ما قيل عن الحدث: جمع العالمَين المدني والعسكري ودحض الأفكار المغلوطة التي تصوّر الجيش عضلات وقدرات جسديّة، وتصوّر رجال الأعمال فكراً ومنطقاً. فالصفتان تتكاملان في القائد الناجح وفي مدير الأعمال الناجح.
في الشكل، جسّدنا الفكرة من خلال رجل يحضر نفسه للذهاب إلى اجتماع عمل، يلبس بزّته ويضع ربطة عنق عسكريّة؛ البذة المدنية وربطة العنق العسكرية رمز العلاقة التكاملية بين الجيش وشركات الأعمال.
شارك في إنجاح الفكرة وترويجها أشخاص تطوّعوا لخدمة هذا الحدث: الإخراج لجوانا نمر، مدير التصوير والإضاءة بشير حاج، تصوير ميشال أسطا، إنتاج Talos production، ومعدّات Platform.