قضايا إقتصادية

عامل الخوف والإرتياب في الإجرام الإسرائيلي
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشوْون الإسرائيلية

لقد مضى على الصراع بين اليهود والعرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً أكثر من مئة عام، كانت نتيجته حتى الآن تشريد الشعب الفلسطيني واحتلال أرضه وأراضٍ عربية أخرى وسقوط عشرات الألوف من الضحايا والمعوّقين.
وفي أثناء هذا الصراع تلقّى اليهود عموماً وإسرائيل خصوصاً الدعم المفتوح من معظم الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، بحيث تحوّل الكيان الصهيوني الغاصب الى دولة عسكرية عظمى تزعم لنفسها بأنها تساوي نصف الشرق الأوسط، حسبما قال رئيس حكومة العدو الأسبق اسحاق شامير، وأن نفوذها وقدرتها يغطيان مساحات شاسعة تصل حتى حدود الباكستان شرقاً والمغرب العربي غرباً.
وعلى الرغم من كل ذلك يدّعي الإسرائيليون باستمرار بأنهم بمنزلة الضحية الأبدية المهددة بالتصفية ويستشهدون على ذلك بوقائع وأحداث تاريخية مثل أسطورة «المسادا» قبل الميلاد واضطهادهم في أوروبا بتهمة صلب السيد المسيح وخروجهم من الأندلس وتعرّضهم لمحاولة التصفية من قبل النازية. وبغض النظر عن الأسباب الموضوعية لهذه الأحداث، التي كان لليهود فيها دور غير بسيط، فإنها استغلت أبشع إستغلال لتكريس فكرة ملاحقة اليهود واضطهادهم من قبل الأغيار «غوييم». وفي مختلف الأدبيات التي تتناول السلوك اليهودي بالتحليل نجد إجماعاً على أنهم يعانون جنون الإرتياب والشك بالآخر أو ما يسمى «البارانويا اليهودية» التي ترفع شعار «كل العالم ضدنا». علماً بأن شعوباً كثيرة في العالم تعرّضت في فترات تاريخية معينة لاضطهادات هدّدت بقاءها كما حصل للسكان الأصليين في أميركا واستراليا، وكما حصل للأفارقة لدى اختطافهم واستعبادهم في الولايات المتحدة، وكما حدث لليابانيين في هيروشيما وناكازاكي، وما سوى ذلك، إلا أن كل هذه الفظائع والأهوال لم تتحول الى عنصر ثقافي ثابت ودائم في العقل الجماعي لهذه المجموعات البشرية، مثلما حصل مع اليهود الذين استغلوا موضوع «الكارثة» النازية لإقناع اليهود بالهجرة الى إسرائيل وإقناع العالم بضرورة وجود وطن خاص لهم على حساب حقوق شعوب أخرى. وهنا استغلت الحركة الصهيونية ظاهرة الخوف الإرتيابي أو البارانويا لدى اليهود وطوّرتها لإفهام اليهود والعالم بوجود لاسامية عدائية، للترويج لمشروعها الإستيطاني في فلسطين.
والبارانويا اليهودية هي بمثابة مرض نفسي يقوم على اتهام الآخر «الغريب»، أو غير اليهودي، بأنه يضمر نوايا عدوانية، ضد اليهود بالذات بسبب تميّزهم وتفوّقهم على باقي الأمم. وتنتج هذه البارانويا، أو الخوف المرضي، آلية نفسية غير واعية تقوم على إسقاط عدوانية المصاب بها على الآخر. وهي تهدف، في الحالة الإسرائيلية، الى إخفاء عدوانية الإسرائيليين من جهة ورفع ثقتهم بأنفسهم واعتزازهم بانتمائهم القومي والديني، وبالتالي تبرير جرائمهم المتواصلة منذ بداية أربعينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا.
وفي هذا السياق يأتي الخطاب التبريري الصهيوني للجرائم التي ارتكبت في الماضي والحاضر كما حصل في فلسطين وقطاع غزة والضفة الغربية ولبنان وحتى بحق الأسرى المصريين والسوريين في حروب 1956 و1967 وسواها. ولقد إستغل الإسرائيليون البارانويا عن سابق تصوّر وتصميم لتشكّل جزءاً من تخطيط سياسي وعسكري، بحيث أصبحت الكارثة النازية مبرراً للهجرة اليهودية الجماعية الى فلسطين وتهجير سكانها، وأصبح أي تصريح أو عمل دفاعي عربي مبرراً لسياسة التوسّع والإحتلال، وأصبحت المقاومة مجرد إرهاب وأعمال تخريبية. وهذا يفسّر مرة أخرى سبب تمسّك الإسرائيليين بدور الضحية ونسب الصفات الشيطانية الى أي طرف ينادي بالحرية والسيادة وحق تقرير المصير، كما ويفسر إلحاح المسؤولين الإسرائيليين على مطالبة المسؤولين الفلسطينيين والعرب باستنكار أي عمل مقاوم لتحرير أرض واستعادة سيادة. وكل من يمسّ أو يحاول أن يمسّ أي إسرائيلي أو يهودي بسوء يتمّ تجريده فوراً من الصفات الإنسانية. فالعرب ضمن هذه المعادلة هم مجرد حيوانات تمشي على قدمين بحسب تعبير رئيس حكومة العدو الأسبق مناحيم بيغن أو مجرد صراصير ونمل وحشرات يجب استخدام المبيدات للقضاء عليها بحسب أقوال زعيم حزب شاس الديني الشرقي الحاخام عوفديا يوسف. أمّا الإسرائيليون فهم شعب الله المختار الذين ينصّبون أنفسهم قيّمين على الأخلاق الإنسانية وينسبون لأنفسهم الحق بالتطاول على مقدسات الأديان والشعوب الأخرى، كما فعلت القناة الإسرائيلية العاشرة مؤخراً بشأن السيد المسيح وأمه القديسة مريم.
في هذا المجال نذكّر بما حصل في مؤتمر دربان في جنوب أفريقيا العام 2001 حيث ظهر رفض شعوب العالم للصهيونية والإحتلال الإسرائيلي، فما كان من الصهاينة إلا أن أخرجوا قضية الكارثة النازية للتغطية على باطلهم، مما دعا سكرتير الأمم المتحدة في حينه كوفي أنان الى دعوتهم الى «الكف عن إستعمال الكارثة كمبرر لاستمرار سياسة الإحتلال وقتل الفلسطينيين». وعندما عزم المؤتمر نفسه على الإعلان عن رفض شعوب العالم جميع الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، احتجت إسرائيل وسائر اللوبيات الصهيونية على ذكر كارثة اليهود في جملة الكوارث الأخرى المرتكبة في العالم. وفي هذا المجال وجه الرابي طوبا سبنسر نداء لليهود يدعوهم فيه الى الإنتباه الى تشوّه القيم الإنسانية العامة لديهم نتيجة نرجسيتهم وتمترسهم بدور الضحية ومما قاله: «جراحنا تجعلنا غاضبين ولا مبالين للآخرين وصولاً الى أننا نؤذيهم من دون وخز ضمير». وأضاف: «نحن اليهود متعلّقون بفكرة أننا ضحية ولا نعرف ماذا نفعل عندما لا نكون كذلك. إسرائيل تملك أحد أقوى الجيوش في العالم وتتمتّع بدعم أقوى أمة في الكون، ومع هذا يبقى الخوف والشك بأن كل هذا سيختفي كنفخة دخان». ويختم بالقول: «اللاسامية هي تشويه ونحن قد تشرّبنا هذا التشويه، وهو يؤثّر على قدرتنا على رؤية الأشياء بوضوح. هذا التشويه يمسّ قدرتنا على رؤية أنفسنا ويمسّ الطريقة التي نتعامل بها مع اليهودية وإسرائيل».
وهذا كما نلاحظ مجرد نوع من النقد الذاتي لأحد رجال الدين في لحظة من لحظات الصفاء الذهني والروحي، وهو نقد بنّاء وإيجابي وحقيقي، فهل من مسؤول سياسي إسرائيلي يسمع؟!