عام على إدارة أوباما: تحديات الساحتين الداخلية والخارجية

عام على إدارة أوباما: تحديات الساحتين الداخلية والخارجية
إعداد: د. غسان العزي
استاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية

وصل باراك حسين أوباما إلى البيت الأبيض في لحظة عصيبة من تاريخ الولايات المتحدة، لحظة بدأ يشك فيها الأميركيون بجدوى نموذجهم الاقتصادي والسياسي وحتى الاجتماعي، والذي طالما فاخروا به وسعوا إلى تصديره وأحيانًا فرضه على الآخرين، لحظة بدأ ينهار فيها «الحلم الأميركي American dream» و«طريقة العيش American way of life». منذ زمن طويل لم تشعر أميركا بهذا القدر من الضعف والهشاشة، «أمة يستبدُّ بها القلق والخوف من الإرهابيين والدول العاصية والمسلمين والمكسيكيين والشركات الأجنبية والتبادل - الحر والمهاجرين والمنظمات الدولية»[1] كما وصفها فريد زكريا. صدمة الرهانات العقارية (suprimes)، وانهيار وول ستريت، والركود الاقتصادي[2]، والتراجع الصناعي المطَّرد، والأزمة الاجتماعية المتفاقمة، وعودة العجز التجاري والخزيني بأرقامه الفلكية، والإخفاقات العسكرية والسياسية في العراق وأفغانستان والشرق الأوسط، والافتقاد إلى الصدقية لدى الحلفاء والخصوم على السواء... الخ. إشكاليات واجهت إدارة بوش الإبن التي كانت تحزم حقائبها لتترك مسؤولية وقف الانهيار على الإدارة الجديدة والشعب الأميركي الذي لم يعتد على مواجهة هذا الكم من المشاكل دفعة واحدة منذ حصول بلاده على الاستقلال وطوال مسار صعودها إلى تبوء مركز القوة الدولية الأعظم.

لقد انتهى العام 2008، أي قبل تسلم أوباما مقاليد السلطة، بنمو اقتصادي أميركي سلبي نسبته 6،2 في الماية للمرة الأولى منذ العام 1982. وقالت التوقُّعات المتعلِّقة بالعام 2009 إنه سيشهد تراجع الناتج الإجمالي القائم بنسبة تراوح بين 1،7 واثنين في الماية. أما البطالة التي تجاوزت نسبة الثمانية في الماية في بداية آذار/مارس 2009 فكان المتوقَّع لها أن تتخطَّى عتبة العشرة في الماية مع نهاية العام المذكور، في حين كان يُفترض أن يبلغ العجز الخزيني رسميًا 1750 مليار دولار وربما 2250 مليار العام 2009، ما يعكس العجز الفلكي لتوأم التجارة الخارجية والخزينة. هذا من دون الكلام على المشاكل البنيوية الكبرى (صحة، تربية، تقاعد...) التي تقف دون حلها عقبات سياسية ومالية صعبة.[3]

أما بالنسبة إلى الأزمة المالية التي انطلقت من وول ستريت لتضرب الاقتصاد العالمي برمته، فكان من الصعب لدى تولي أوباما السلطة القول كيف ومتى يمكن للنظام المالي أن يعود للعمل بشكل طبيعي، وللاستقرار أن يعود إلى الأسواق المالية، على الرغم من كل الإجراءات التي اتخذتها إدارة بوش في أيامها الأخيرة. في بداية العام 2009 لم يكد يمر أسبوع واحد من دون أخبار سيئة جديدة ومفاجئة من قبيل إفلاس شركات كبرى أو إعلان خسائر كبيرة وبأرقام قلما سمع بها المواطن العادي من ذي قبل. وفي وسط هذا المحيط الهادر من الأرقام الفلكية (رقم التريليون دولار صار متداولاً وبشكل شبه يومي) أمسى الجميع على قناعة بأن ما يحدث ليس أزمة عابرة وإن كانت عميقة وحادة بقدر ما هو قطيعة بنيوية في نظام لم يعد قادرًا على الاستمرار والديمومة. وعاد الكلام مجددًا على صفحات الصحف والمجلات العلمية المرموقة في العالم على «الانحطاط الأميركي» و»أفول الإمبراطورية» مدعومًا بالأرقام والوقائع الأكيدة هذه المرة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نشر الخبير المالي والمحاسبي الأميركي ديفيد وولكر، وهو خارج أي انتماء سياسي، ويقال إنه ذراع الكونغرس المسلَّح في ما يخص التحقيقات المالية، في آب/أغسطس 2007 تقريرًا جد متشائم حول مستقبل البلد مع سيناريوهات وصفها بـ «المرعبة»[4]. يستعيد وولكر تاريخ روما ليجد في انهيارها عناصر تشبه ما يحدث في الولايات المتحدة: جيش قوي شديد الوثوق بنفسه يستخدم قوته بعيدًا خارج الحدود الوطنية، انحطاط القيم الأخلاقية والشأن العام في الداخل، افتقاد القادة السياسيين حس المسؤولية في أمور المالية والخزينة... «إذا استمرينا كذلك فان قادتنا السياسيين سيضطرون إلى زيادة الضرائب بشكل دراماتيكي، وإلى خفضٍ، بشكل وحشي، للخدمات العامة التي هي من حق المواطنين في الدولة الفدرالية»[5].

لذلك بعث انتخاب الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة هذا القدر من الآمال بالتغيير، في الولايات المتحدة كما في خارجها، وهي آمال لا سابق لها أي على قدر المشاكل والخيبات. ونادرًا ما انصبَّت هذه الآمال والمراهنات على شخص واحد على الرغم من كل ما يملكه من كاريزما وثقافة وقدرة على مخاطبة الناس ودغدغة مشاعرهم المحبطة وإقناعهم بـ«أننا نستطيع» التغيير We Can Change. لقد انتخب الأميركيون أوباما، بعد معركة انتخابية هي من الأعنف والأكثر كلفة في التاريخ الأميركي، آملين أن يجد حلاً للازمة، ويقهر البطالة، وينعش الاقتصاد، وينقذ ضمانات الشيخوخة والتقاعد والمؤسسات المنهارة، ويؤمن لهم حدًا أدنى من الضمان الصحي والاجتماعي، ويضع حدًا للحرب في العراق وللعلاقات السيئة مع الخصوم والحلفاء، ويعيد إحياء أسطورة «الحلم الأميركي» وينقذ «طريقة العيش الأميركية»، وهي مطالب ينوء تحت عبئها حزب أو فريق أو شخص مهما تمتَّع بقدرات ومواصفات.

لقد جرت العادة أن توصف الانتخابات التي تجري كل أربع سنوات لانتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة بأنها الأهم في التاريخ السياسي الأميركي. وهكذا جرى وصف الانتخابات التيً جرت في 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2008، وقد يسجل التاريخ أنها بالفعل واحدة من أهم الانتخابات الرئاسية الأميركية، وربما الأهم من أي انتخابات جرت وتجري في دولة أخرى في العالم. ومن دون مبالغة، يمكن القول إنها الانتخابات التي قدَّمت شهادة تثبت أن حلم مارتن لوثر كينغ الذي جاءه في يوم من أيام عقد الستينيات من القرن المنصرم واغتيل بسببه يتحقَّق. ها هو رجل أسود من أبناء شعب آخر في أميركا غير الشعب الذي أسس أميركا وتوسَّع في القارة وأباد شعوبًا أصلية من ألوان أخرى، يعبر عتبات البيت الأبيض رئيسًا وليس ضيفًا ليدخل المكتب البيضوي الذي شهد توقيع قرارات كانت سببًا في تغيير أنماط حياة ملايين البشر بالموت أو بالإفقار أو بالرخاء والرفاهية[6]. صار واضحًا بشكل أو بآخر أن «العالم» صوّت لمصلحة أوباما، وبمعنى أدق لمصلحة أميركا كما يتمناها أوباما أن تكون. صوَّت لأميركا التي يتعيَّن عليها أن تنهي حربين ناشبتين في أفغانستان والعراق، وأن تستعيد إعجاب الشعوب بإنجازاتها. صوَّت لها لتتخلى عن غطرستها وممارسة العنف واستخدام الترهيب والتعذيب ولتعدل في التجارة الدولية. وصوّت العرب من أجل أميركا التي لن تكرههم ولا تكره المسلمين والإسلام ولا تحابي إسرائيل وتدعم إرهابها وإرهابييها. وصوَّت الشعب الروسي لأنه يريد أميركا التي لا تمانع في أن تكون روسيا قوية ومنصفة ومسالمة، وصوتت آسيا بوسطها وغربها لأوباما لأنها تريد قيادة في أميركا تعرف كيف تتعامل مع الملف الإيراني من دون استخدام العنف والعقوبات أو التهديد بها[7]. لم يسبق لرئيس أميركي أن بعث دخوله البيت الأبيض هذا القدر من الارتياح لدى خصوم بلاده كما لدى حلفائها كما دلت على ذلك برقيات التهنئة والتحليلات الصحافية والإعلانات السياسية واستطلاعات الرأي.

لكن بعد نشوة الانتصار، فإن السؤال الذي يطرح نفسه يدور حول قدرة أوباما على إحداث التغيير الذي وعد به خلال حملته الانتخابية المميَّزة وذلك في بلد تجري فيه الانتخابات النصفية للكونغرس كل عامين والانتخابات الرئاسية كل أربع سنوات، ناهيك عن انتخابات حكام الولايات وحيث تملك اللوبيات وجماعات الضغوط والمصالح قدرًا كبيرًا من النفوذ السياسي والاقتصادي والقدرة على التأثير في نتائج هذه الانتخابات. وبما أن السياسة الداخلية هي استمرار للسياسة الخارجية بوسائل مختلفة فإن النجاح أو الفشل في الداخل سيكون له تأثير واضح في النجاح والفشل في الخارج، وفي كلتا الحالتين فان الملفات الشائكة تتراكم على طاولة المكتب البيضوي الذي يجلس خلفه الرئيس الديمقراطي الأميركي الجديد.

فهل تنجح إدارة أوباما في إصلاح ما أفسده المحافظون الجدد في الداخل والخارج على السواء، وهل تبقى الولايات المتحدة في رأس النظام الدولي أم أن إدارة أوباما ستجد نفسها مضطرة إلى أن تكون إدارة انتقالية نحو نظام دولي جديد لا تقف الولايات المتحدة على رأسه بالضرورة فتشهد نهاية أحلام الأحادية القطبية التي دغدغت مشاعر المحافظين الجدد طوال ولايتي جورج بوش الإبن.

 

I - معضلات الساحة الداخلية

قد لا يكون من الإنصاف في شيء تحميل المحافظين الجدد وحدهم تبعة ما وصلت إليه الأوضاع في الداخل الأميركي. فالأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية في الولايات المتحدة تضرب جذورها في عقود طويلة خلت تعاقب خلالها الحزبان الديمقراطي والجمهوري على الحكم. لكن المحافظين الجدد يتحمَّلون المسؤولية لجهة أنهم صبُّوا جُلَّ اهتمامهم على إعادة بناء النظام الدولي وفق رؤيتهم الخاصة ولو على حساب المشاكل الداخلية المتراكمة. يكفي القول إنه على الرغم من هذه المشاكل الداخلية التي أضحت بنيوية متأصلة فإن ميزانية الدفاع وصلت إلى 558 مليار دولار، وهي بذلك أكبر من مجموع موازنات دفاع كل دول العالم الأخرى مجتمعة، كان يتم إنفاقها على التدخلات العسكرية الفاشلة في الخارج والاستمرار في بناء القدرات العسكرية في وقت كانت قطاعات عديدة صناعية وزراعية وتربوية وغيرها تشكو من انخفاض ميزانياتها ومن الاهتمام الكافي بتطويرها. لقد ورث جورج بوش عن إدارة كلينتون العام 2001 فائضًا في الموازنة بلغ 86،4 بليون دولار ليتركها العام 2008 وقد وصل الدين العام إلى 9،6 تريليون دولار. وهذا الرقم الذي يبدو خياليًا لا يشمل نفقات التأمين الصحي والتأمينات الاجتماعية. فهذه البرامج في عجز يبلغ حوالى 43 تريليون دولار بزيادة تبلغ 20 تريليون دولار على رقم السنة ألفين. بكلام آخر، ترك بوش الإدارة وهي تحتاج إلى 43 تريليون دولار لتغطية جميع التزاماتها نحو مواطنيها في مجالات الطبابة والتأمينات الاجتماعية. أما الحرب على العراق فقد كلفت حوالى الثلاثماية مليار سنويًا، ويرجِّح الخبراء أنها لن تنتهي حتى تكون نفقاتها قد تعدَّت تريليون دولار[8].

 

في الطريق إلى الإنحطاط

لم تبدأ القصة مع إدارة بوش الابن على الرغم من كل ما سبَّبته سياساتها من كوارث محلية ودولية، فمنذ ثمانينيات القرن الماضي بدأ الكلام، في الأوساط الأكاديمية والصحافية، عن الانحطاط الأميركي قبل أن يعمد بول كينيدي إلى فتح النقاش بطريقة علمية منهجية في كتابه حول «صعود وأفول الإمبراطوريات» الذي اعتمد على مقارنة تاريخية ما بين القوى المهيمنة التي تعاقبت منذ القرن السادس عشر (إسبانيا، هولندا، فرنسا، بريطانيا...) ليستنتج أن انحطاط القوى العظمى يبدأ عندما يصبح إنفاقها العسكري أكثر من قدرة اقتصادها على تحمله، فتصبح القوة عندئذ رهانًا بحد ذاته ويصبح «التوسُّع الإمبراطوري المفرط» (Imperial Overstreching) أكبر من قدرتها على الاضطلاع به وتحمل مسؤولياته. والمحرك الأساسي للهيمنة يقبع في هذه العلاقة المتوازنة ما بين الثروة والقوة العسكرية. وبالغريزة تلجأ القوى الاقتصادية التي تتعرَّض للانحطاط إلى زيادة نفقاتها العسكرية فترمي بنفسها في حلقة مفرغة من التراجع والانحطاط[9]. وفي رأي كينيدي تواجه الولايات المتحدة هذه المعضلة، ما يعني أنها دخلت في دائرة الانحطاط كما حصل لكل الإمبراطوريات السابقة في التاريخ.

هذا ما عبَّر عنه الباحث الأميركي دافيد كاليو الذي اعتبر أن رفض الأميركيين دفع ضرائب إضافية يعبِّر عن ميكانيزم تراجع بلد يعجز عن الجمع ما بين المجهود العسكري والولاء للدولة. والنتيجة أن قدرته على الاضطلاع بمهامه تضعف تدريجًا ويقع تحت عجز خزيني مفرط[10]. وكان عالم الاجتماع الفرنسي ميشال كروزييه قد أكد أن الولايات المتحدة بدأت تفقد نسبيًا ذلك التفوُّق الذي كانت تتمتَّع به على باقي دول العالم، وأنها تعيش تحت رحمة «لعنة داخلية» من أسبابها مبالغة الأميركيين في الإيمان بنموذجهم الحضاري وبالحلم الذي بدأ الضباب ينقشع عنه. والحلم هو سبب هذا الداء الذي يعانيه المجتمع الأميركي الذي لم يعد قادرًا على الإيمان بشيء[11]. أخطر من ذلك ما قاله إدوار ليتواك، مستشار الرئيس ريغان، من يقينه بأن الولايات المتحدة سوف تنضم في العقود القليلة المقبلة إلى صفوف العالم الثالث «من دون أي أمل بالعودة يومًا إلى العصر الذهبي للازدهار المفقود»[12]. والعام 2002 كتب إيمانويل تود عن «ما بعد الإمبراطورية»[13] الأميركية التي لا بد آفلة كونها باتت تعتمد على الاستيراد ولم تعد تنتج ما تحتاج إليه في الحياة اليومية، ولأنها أضحت مشكلة لباقي العالم بعد أن كانت تصدر الحلول.

ويصعب تعداد كل الأطروحات القائلة بانحطاط القوة الأميركية الأعظم وانهيارها المقبل. وبالطبع لا تتحدث هذه التوقُّعات عن هزيمة عسكرية كبرى أو اجتياح للأراضي الأميركية ولكن عن انفجارها على الذات implosion نتيجة أزمة اقتصادية واجتماعية وانهيار النظام القيمي الذي شكَّل مصدر فخر للأميركيين طوال القرن العشرين.

ازدهرت أطروحات الانحطاط الأميركي في ذلك الوقت بسبب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية على الرغم من تبوُّء مركز ريادة النظام الدولي. فالقوة الأعظم كانت قد وصلت إلى أدنى مستويات نشاطها الاقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية. ففي النصف الثاني من ثمانينيات القرن المنصرم لم تتعدَّ نسبة متوسط التقدم السنوي للناتج الوطني القائم 1،6 في الماية، ووصل العجز الخزيني إلى ستة في الماية من هذا الناتج العام 1990، وقيمة الدين الفدرالي إلى ستين في الماية من هذا الناتج بين العامين 1980 و1990 أي أنه تضاعف أربع مرات في عقد واحد، ووصل عدد العاطلين عن العمل بداية العام 1992 إلى نحو عشرة ملايين أميركي[14]. كذلك انتقلت الولايات المتحدة من مركز الدائن الأكبر في العالم بين العامين 1945 و1950 إلى مرتبة البلد الأكثر مديونية في العالم العام 1980. وكانت تملك خمسين في الماية من الاحتياطي النقدي العالمي العام 1945 مقابل تسعة في الماية فقط انطلاقًا من العام 1980، والأمر نفسه ينطبق على حصتها من الثروة العالمية[15]. وقد عبَّر الاقتصادي الأميركي والاس بنترسون عن الأزمة بالقول إن اقتصاد بلاده يعاني «اكتئابًا صامتًا»[16] منذ العام 1973 حين عرفت الإنتاجية انخفاضًا مفاجئًا وحافظت على مستواها المنخفض منذ ذلك الوقت.

 

هذا الوضع الاقتصادي المتردي دفع المرشح الديمقراطي بيل كلينتون إلى جعل المسألة الاقتصادية حصان طروادة حملته الانتخابية.

على الصعيد الاجتماعي تعاني الولايات المتحدة أزمة تشكِّل مكوِّناتها العديدة أوضاع التعليم والتربية ونظام التأمين الصحي والاجتماعي، والإفقار المستمر للطبقات الشعبية والمتوسطة، وتفاقم مشكلة تعاطي المخدرات. هناك في الدولة الأعظم حوالى الثلاثين مليون أمي، والتعليم فيها يقع في المرتبة الرابعة عشرة من أصل الدول الست عشرة الصناعية المتقدمة في العالم[17]. وبسبب العجز الخزيني، وعدم تدخل الدولة الفدرالية المباشر والفعلي في أمور التربية والتعليم، وبسبب طرق التمويل السائدة واتساع الهوة الثقافية بين الطبقات والفئات الاجتماعية، لم يعد قطاع التربية والتعليم يشكِّل البوتقة التي تصهر داخلها جماعات المجتمع المختلفة. أما النظام الصحي فيتميَّز بكلفته المرتفعة جدًا وعدم قدرته على تغطية كل الأميركيين. وتأخذ اللامساواة أمام الطب طابعًا مأسويًا بسبب اقتصاد السوق الطبي الذي يخضع لقواعد الربح والمردودية والعرض والطلب، وبسبب محدودية تدخل الدولة حتى في مجال ضبط الأسعار[18]. وكان هناك أكثر من 35 مليون أميركي (أضحى عددهم 46 مليونًا العام 2008) لا يملكون تأمينًا صحيًّا ملائمًا في وقت يتكلَّف فيه المواطن الأميركي عمومًا على صحته ضعف المعدل الوسطي العام لما يتكلَّفه مواطنو الدول الصناعية المتقدمة، من دون أن يعني ذلك أن وضعه الصحي أفضل من وضعهم، بل العكس هو الصحيح كما تدل أرقام مؤشرات معدل الحياة في أميركا وهذه الدول[19].

هذا وعرفت الولايات المتحدة اتساعًا ملحوظًا للهوة الفاصلة بين الطبقات الميسورة والشعبية، فبين العامين 1980 و1990 ارتفعت مداخيل عشرين في الماية من العائلات الغنيَّة بنسبة ثلاثين في الماية، بينما تعرَّضت موارد عشرين في الماية من العائلات الأفقر إلى تدهور نسبته أربعين في الماية. وتحدَّثت الإحصاءات الرسمية عن وجود 36 مليون أميركي يعيشون تحت خط الفقر معظمهم من السود والمتحدِّرين من أصول إسبانية[20].

أما عن ظاهرة الغيتوهات في المدن الأميركية فقد بدأت في أواخر الستينيات من القرن المنصرم واستمرت متفاقمة إلى اليوم، وأحد أسبابها تفكيك الصناعات الصغرى والنزعة للانتقال من المدن والأرياف للسكن في الضواحي التي تحوَّلت إلى غيتوهات فعلية وتجمعات بشرية خارجة عن سلطة القانون ومعزولة عن باقي البلد. وهذه النماذج العالم - ثالثية الواقعة في قلب المدن الأميركية تمثِّل تحديًا فعليًا للمجتمع الأميركي برمته. والعنصرية والجريمة والإيدز والصراعات الإثنية والعرقية وفقدان الأمن... كلها مشاكل تعصف بالمجتمع الأميركي الذي أضحى يستهلك ستين في الماية من المخدرات الممنوعة التي يعرفها السوق العالمي، الأمر الذي يكِّلف من 110 إلى 140 مليار دولار سنويًا، ويُترجم إلى تكاليف وأعباء صحيَّة تفوق المئتي مليار دولار سنويًا[21].

ويتعرَّض نظام تعدُّد القيم الذي يشكِّل مصدر فخر للأميركيين للاهتزاز إلى درجة جعلت بعض المراقبين الأميركيين يعيدون النظر في مقولة «بوتقة الانصهار melting-pot» في اتجاه تبنِّي صورة جديدة أسموها «وعاء السلطة salad bowl». إن مكوِّنات هذا الوعاء، وإن تكن ممتزجة بعضها ببعض، إلا أن الواحدة تتميَّز عن الأخرى بطعم ونكهة مختلفين، بمعنى آخر أن التعددية العرقية التي يتجه نحوها المجتمع الأميركي ستتميَّز بحدود وفواصل بين مركَّباتها. هذه الرؤية الجديدة للتركيبة الأميركية تعكس حماسة متراجعة حيال التعددية الثقافية. والأخطر من ذلك أنها بدأت تخترق صفوف الانتلجنتسيا وأصحاب القرار[22]. ومن أسباب ذلك اتساع الفجوات الفاصلة ما بين السود والإسبانيين والآسيويين والبيض داخل المجتمع الأميركي وتفاقم المشكلات اليومية بين هذه الأعراق المختلفة التي راح أفرادها يعبرون علنًا عن شعور عرقي وخصوصية إثنية واختلاف عن الآخرين[23]. وقد عبر صموئيل هانتنغتون عن مشكلة الهوية الأميركية في أحد أهم كتبه: «من نحن؟»  الذي يحذِّر فيه من صدام ثقافات في المجتمع الأميركي الذي يرفض المواطنون من أصول إسبانية وأميركية - لاتينية الاندماج فيه، بل من حرب أهلية ثانية بسبب «صدام الثقافات» هذا[24].

كل هذه المشاكل الداخلية المتفاقمة نجدها في خطب ووعود باراك أوباما الانتخابية. أكثر من ذلك فقد أفرد المرشح الديمقراطي لمشكلة العنصرية في بلاده خطابًا خاصًا، في 20 آذار/مارس 2008 كان من الأبرز لناحية السجال الذي فتحه والأصداء العالمية التي لقيها[25].

 

أزمة مالية واقتصادية غير مسبوقة

لقد انتظر الأميركيون أوباما كما ينتظر المؤمنون المخلِّص. وبعد عام على تولِّيه السلطة يمكن القول إن الاقتصاد الأميركي ما يزال في غرفة الإنعاش، وإن دافع الضرائب الأميركي الذي أنقذ بضرائبه الشركات والمصارف الكبرى التي كانت على شفير الإفلاس لم يشعر بأن وضعه الاقتصادي خرج من دائرة الخطر إذ أن البطالة ما تزال في سيرها التصاعدي (10،5 في الماية)، كذلك الفقر. وقد توجَّه أوباما بانتقادات علنية لطرق الإدارة المالية في وول ستريت والشركات التي طالبها بوقف منح مديريها علاوات مرتفعة لا سيما أن منهم من ساهم في تفاقم الأزمة، لكنه لم يلقَ ردًا إيجابيًا بل سيلاً من الانتقادات. وفي الكونغرس، يجد منتقدو أوباما من الديمقراطيين قبل الجمهوريين أن برامج إطلاق العجلة الاقتصادية غير كافية في حين أن الجمهوريين يخشون من أن تقوم هذه البرامج على حساب المزيد من الضرائب والتي تضعف القدرة على الاستثمار والاستهلاك. وبالنسبة إلى «نيل باروفسكي»، المفتش الأميركي العام المولج بمراقبة استخدام مبلغ السبعماية مليار دولار التي تم تخصيصها في تشرين الأول/أكتوبر 2008 للإنقاذ المالي والذي تقدَّم بتقرير إلى الكونغرس في 21 تشرين الأول/أكتوبر 2009، فإن «الإجراءات الأساسية الكبرى التي قامت بها وزارة الخزانة اضطلعت بدور رئيس في منع انهيار النظام المالي» ما يعني أن الإدارة ربحت معركة في هذا المجال وليس الحرب. فالمفتش العام يذكر بأن الاقتصاد الأميركي ما يزال مريضًا جدًا، هذا في حين أن الأصوات تعلو لتستنكر عدم استغلال الأزمة لإحداث تغييرات عميقة في النظام المالي الأميركي[26].

 

إصلاح القطاع الصحي

أما بالنسبة إلى إصلاح القطاع الصحي، وهو حجر الزاوية في برنامج أوباما الإصلاحي، فإن هذا الأخير اضطر إلى خوض معركة شرسة لتمريره في الكونغرس على الرغم من امتلاك الديمقراطيين غالبية مقاعده. لماذا؟ لا ننسى أن أوباما نجح بفضل 52 في الماية من أصوات الأميركيين ما يعني أن أقل من نصفهم بقليل صوَّت ضده. ثم أن 85 في الماية منهم يمتلك بوليصة تأمين لدى شركات خاصة، والفقراء تغطيهم «ميديكير Medicare»، ولكن ما بين الاثنين هناك 46 مليون أميركي لا يمتلكون أي تغطية صحيَّة. ما أراده أوباما هو أن يتمكَّن القطاع العام من عرض بوالص تأمين تنافس القطاع الخاص فتجبره على تخفيض الأسعار، الأمر الذي يسمح للمزيد من الأميركيين، وربما كلهم، بالاستحواذ على تغطية صحية. عارض الجمهوريون بشراسة هذا المشروع الذي انقسم حوله الديمقراطيون. فاليساريون والليبراليون من هؤلاء أيَّدوه، ورفضه من يطلق عليهم «الكلاب الزرق» الناطقون باسم الناخبين الديمقراطيين المحافظين عمومًا الذين يأبون أن يدفع الميسورون تكلفة ضمان الفقراء. واضطر أوباما إلى أن يفاوض الرافضين ويناقش معهم تعديلات على القانون المقدَّم إلى الكونغرس والذي إذا ما تمَّ رفضه فإن عهده يكون قد تعرَّض لضربة قاتلة عاد وأصر على مشروعه الذي ارتبط بكل صدقيته السياسية وقدرته على المكوث في البيت الأبيض. وفي التاسع من أيلول/سبتمبر 2009 أعلن أمام الكونغرس بأنه ليس الرئيس الأول الذي يتعرَّض لمثل هذه المسألة الشائكة لكنه مُصِرٌ على أن يكون الأخير بمعنى أنه لن يتراجع قيد أنملة[27]. وقال المحلل الفرنسي دنيس لاكورن إنه إذا نجح أوباما في فرض إصلاح النظام الصحي تقوم من خلاله الدولة الفدرالية ببيع بوالص تأمين صحي قادرة على منافسة تلك التي تعرضها الشركات الخاصة فتجبرها على تخفيض أسعارها فإنه بذلك يضع عهده على الطريق القويم، أما إذا فشل كما فعل بيل كلينتون الذي كسر أسنانه في مواجهة هذا الملف الحساس فإنه يحكم على نفسه مسبقًا بالفشل: عودة الجمهوريين بقوة إلى الكونغرس في خريف العام [28]2010. لقد كان على أوباما أن يقنع الديمقراطيين قبل غيرهم فهم أصحاب القرار التشريعي، وفشله كان يعني أنه لا يحظى بتأييد حزبه وهذا يعني نهاية الحكم الديمقراطي قبل أن يبدأ. أما الجمهوريون فقد استنفروا الإعلام ضد ما وصفوه بالتعرض لحرية اختيار المواطن الأميركي وهي من الحريات المقدَّسة ونظَّموا التظاهرات التي هتفت ضد «ماو تسي تونغ الأميركي» الجديد[29].

لكن الضغوط التي مارسها أوباما في كل الاتجاهات مكَّنته في النهاية من تمرير مشروعه الصحي. ففي مساء السابع من تشرين الثاني/نوفمبر 2009 وبعد نقاش حاد استمر اثنتي عشرة ساعة صوَّت مجلس النواب بغالبية بسيطة على المشروع الذي يقع في 1990 صفحة وتصل قيمته إلى أكثر من تريليون دولار خلال السنين العشرة المقبلة، ويُفترض أن يوفِّر التغطية الصحية لجميع المواطنين الأميركيين تقريبًا، والذي ستمس مواده بحياة المواطنين الأميركيين بطريقة مماثلة لنظام الضمان الاجتماعي الذي أقر خلال ولاية فرانكلين روزفلت العام [30]1935.

لكن على الرغم من ذلك يمكن القول إنه ربح معركة وليس الحرب لأن على الكونغرس أن يصوِّت في كل عام لصالح الاعتمادات المالية المخصَّصة للتأمين الصحي العام، وإذا عاد الجمهوريون إلى السلطة فقد لا يفعلوا فيتم عندئذ وأد أكبر المشاريع الإصلاحية للرئيس أوباما.

 

اصلاح عمل الاستخبارات

بعد 11 أيلول/سبتمبر طلبت الوكالة من إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش منحها صلاحيات استثنائية تمكِّنها من تعقّب واعتقال واستجواب المشتبه بهم الذين قد يشكلّون خطرًا على الأمن والمصالح الأميركية، وذلك مع ضمان عدم محاسبة رجال الوكالة على ذلك مستقبلاً. وهو ما تُرجم عمليًا في إطار ما يُعرف بقانون «إصلاح عمل الاستخبارات ومنع الإرهاب» الذي صدر في كانون الأول/ديسمبر 2004 أعاد هيكلة شكل وطريقة عمل أجهزة ووحدات الاستخبارات الأميركية التي يصل عددها إلى حوالى 17 وحدة، ومنح القائمين عليها صلاحيات غير مسبوقة[31].

جاء معظم هذه الصلاحيات على حساب العديد من القوانين والتشريعات الأميركية الأصيلة، ومثّل انتهاكًا صارخًا للمبادئ والقيم المتعلقة بقضايا احترام حقوق الإنسان، وهو ما أثار تحفظات الكثيرين حول مدى قانونية الوسائل التي استخدمتها وكالة الاستخبارات المركزية طوال السنوات الثماني الماضية في استجواب المتهمين والمشتبه بهم من أجل انتزاع الاعترافات منهم خصوصّا أولئك الذين احتجزوا فى معسكر غوانتانامو الذي شهد انتهاكات غير إنسانية يعاقب عليها القانون الأميركي. وكان منطقيًا أن يكون أول قرار يتخذه الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما هو إغلاق معتقل غوانتانامو في غضون عام واحد ما فرض ضغوطًا قوية على إدارته للبحث عن بدائل للتعاطي مع ملفات المعتقلين المتبقين هناك، ناهيك عن إقناع الشعب الأميركي بنجاعة أسلوبه الجديد في مكافحة الإرهاب

بيد أن وزير العدل الأميركي إريك هولدر أعلن بأنه سيكون من الصعب إيفاء الوعد بإغلاق هذا المعتقل في شباط/فبراير 2010. لكن في مواجهة الرئيس الذي تعرَّض للانتقاد بسبب ما بدا أنه تراجع عن هذا الوعد لاسيما بعدما تعذَّر إيجاد دُولٍ توافق على استضافة المعتقلين، وافق الكونغرس على تحويل المعتقلين الأجانب إلى الولايات المتحدة لكن شرط أن تتمَّ محاكمتهم من قبل المحاكم الأميركية، الأمر الذي يطرح مشكلة في القانون الدولي

وقد بدأ أوباما عملية مراجعة كاملة وتصحيح لطريقة عمل وكالة الاستخبارات المركزية وذلك في إطار إعادة تقييمه لمسألة «الحرب على الإرهاب» واستندت هذه المراجعة إلى ثلاثة محاور رئيسة[32].

• أولها إعادة بناء الوكالة وفق فلسفة مغايرة تمامًا لتلك التي دشَّنها سلفه جورج دبليو بوش. وهي فلسفة تنطلق من أن حماية الأمن القومي الأميركي لا تأتي من خلال استخدام التعذيب واللجوء إلى الأساليب غير المشروعة لانتزاع الاعترافات من المشتبه بهم، وإنما من خلال احترام معايير العدالة الإجرائية والقانونية وضمان عدم انتهاك حقوق الإنسان، وذلك من أجل سحب الذرائع التي قد يستخدمها المتطرفون لتسخين المواجهة مع الولايات المتحدة وتجنيد أعضاء جدد.

• المحور الثاني، أن يتم إحداث قدر من التوازن بين صلاحيات وكالات الاستخبارات المختلفة وسلطاتها من جهة، والجهات القانونية التي يمكنها مراقبة أنشطة هذه الوكالات من جهة أخرى، ما قد يعطي فرصة لمحاسبة القائمين على هذه الأنشطة في وقت لاحق. وهو ما يمكن تحقيقه من خلال آليتين: أولاهما إعطاء وزارة العدل سلطة مراجعة بعض أنشطة هذه الوكالات، وهو ما تمَّ من خلال تفويض أوباما المدعي العام الأميركي (وزير العدل) إريك هولدر بفتح تحقيق في بعض الحالات التي جرت فيها انتهاكات واضحة لحقوق الإنسان داخل معسكر غوانتانامو، وثانيتهما، استحداث وحدة خاصة للتحقيق مع قيادات تنظيم «القاعدة» وغيرهم من المتطرِّفين يشرف عليها مجلس الأمن القومي الأميركي مباشرة. وهو ما يعني ضمنًا تقليص نفوذ الاستخبارات المركزية في مجال التحقيق مع المتهمين في قضايا الإرهاب.

• المحور الثالث، أن يتم تغيير طريقة عمل وكالات الاستخبارات الأميركية بحيث تضمن أكبر قدر من الكفاءة المهنية مع أقل درجة من المركزية والتعقيد الإداري. وهو ما لم يكن ليتم من دون أمرين، أولهما تغيير نمط القيادة فى رأس الهرم الاستخباراتي وهو «سي آي إي» بحيث لا يتم الاعتماد على شخص عسكري على نحو ما جرت العادة وإنما بإحداث تحول نوعي من خلال اختيار شخصية مدنية، وهو ما تحقق ً مع تعيين ليون بانيتا، صاحب الخلفية القانونية والإدارية مديرًا لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. وثانيهما، إعادة النظر في القانون الذي أصدره الكونغرس الأميركي العام 2004 بحيث يتم تقليل حجم الأعباء الملقاة على عاتق مدير الاستخبارات المركزية وتفويض بعض صلاحياته إلى نائب له.

قطعًا ليست مهمة سهلة أن يخوض أوباما صراعًا شرسًا مع مجتمع الاستخبارات الأميركي، وهو الذي واجه عاصفة قوية من الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء عند اختياره بانيتا مديرًا لوكالة الاستخبارات المركزية، ليس فحسب لأن هذا الأخير لم يأتِ من قلب «الماكينة» الاستخباراتية، وبالتالي ليس مضمونًا ولاؤه لها ولمصالح رجالها في أي مواجهة قد تحدث مع البيت الأبيض، وإنما أيضًا بسبب خلفيته السياسية والقانونية التي قد تثير قلق المتورِّطين في الانتهاكات القانونية التي جرت باسم الوكالة طوال السنوات الماضية. وأول ما قام به هو إغلاق وحدة سرية أُطلق عليها «وحدة اغتيال قيادات القاعدة» كانت وكالة الاستخبارات المركزية قد أنشأتها العام 2004 من دون علم الكونغرس.

وكان منطقياً أن يواجَه أوباما بهجوم مضاد ليس فحسب من قِبل رجال الاستخبارات المركزية، وإنما أيضًا من الدوائر السياسية المرتبطة بها، بخاصة تلك التي تنتمي إلى الإدارة الأميركية السابقة ومن يدور في فلك المحافظين الجدد. وتزعَّم هذا الهجوم ديك تشيني، نائب الرئيس السابق، الذي ذهب بعيدًا في توجيه الانتقادات لأوباما واصفًا إياه بـ «اليساري الضعيف»، ومدافعًا عن انتهاكات «سي أي إي» في معسكر غوانتانامو. وقد وجَّه سبعة من المديرين السابقين لوكالة الاستخبارات المركزية خطابًا إلى الرئيس أوباما يطالبونه بوقف التحقيق في انتهاكات الوكالة وذلك بدعوى تقويضه لأنشطة الوكالة وتأثيره السلبي على صورة الولايات المتحدة في مواجهة الإرهابيين[33].

يدرك أوباما جيدًا أن معركته مع «السي أي آي» هي بمنزلة الدخول في «عش الدبابير»، بيد أنه يراهن على قدرته على تقليص صلاحياتها وزيادة الرقابة عليها. لكنه يواجه معضلات قد تقوّض جهوده في هذا الصدد منها قدرته على الصمود في مواجهة خصومه السياسيين المرتبطين بوكالة الاستخبارات، فضلاً عن اللوبي القوي الذي يقبع خلفها ممثلاً في شركات العمليات الخاصة والمتعاقدين الذين يستفيدون من تقديم خدماتهم للوكالة. وهؤلاء سيسعون قطعًا للضغط على أوباما بالطرق شتى لمنعه من تقليص أنشطة أجهزة الاستخبارات الأميركية وصلاحياتها بوجه عام. ثم إن احتمال تعرض الولايات المتحدة لهجمات إرهابية جديدة سواء داخل أراضيها أو عبر البحار، قد يعطي خصوم أوباما حجة قوية لإجهاض خططه الإصلاحية، وحينئذ لن يخسر معركته مع لوبي الاستخبارات فحسب، وإنما مستقبله السياسي أيضًا[34].

 

المسألة البيئية

بالنسبة إلى المسألة البيئية وعد أوباما بأن تكون مكافحة الاحترار المناخي إحدى أولوياته. وأعلن في تشرين الثاني/نوفمبر 2008: « قليل من التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة كما العالم هي أكثر إلحاحية من مكافحة التغيرات المناخية. لا يمكن مناقشة العلم والوقائع واضحة أمامنا». وهذا جديد في الولايات المتحدة التي لم توقِّع على بروتوكول كيوتو. ومكافحة التغير المناخي ليست أمرًا جديدًا بل يعود إلى بداية حملته الانتخابية عندما وعد ببذل كل الجهد المالي اللازم لذلك. وعندما انتخب عيَّن ستيفن شو الحائز جائزة نوبل للسلام في الفيزياء العام 1997 وزيرًا للطاقة وهو من أبرز المدافعين عن ابتداع طاقة بديلة متجدِّدة بديلاً عن الطاقة الأحفورية. وبذلك برهن أوباما أنه يفكِّر بطريقة جدية في المحافظة على البيئة. لكن مشروعه المتعلق بالمناخ والهادف إلى تقليص الانبعاثات الغازية واجه هو الآخر معارضة الكونغرس ما اضطر البيت الأبيض إلى إعادة صياغة مشروع القانون في اتجاه تخفيض طموحاته كي يستطيع اجتياز السلطة التشريعية بنجاح. ولا تستطيع إدارة أوباما أن تكون أقل قدرة من الصين وأوروبا اللتين وضعتا تشريعات قاسية من أجل حماية البيئة وقررتا خفض الانبعاثات بنسبة تدور حول العشرين في الماية بالمقارنة مع العام 1990 وربما تذهب إلى الثلاثين في الماية إذا وافقت الدول الصناعية الأخرى على أن تفعل بالمثل. لذلك قرر أوباما أن يعلن أمام قمة كوبنهاغن في 18 كانون الأول/ديسمبر 2009 قرار بلاده تخفيض مثل هذه الانبعاثات بنسبة 17 في الماية في غضون العام 2020، ثم ثلاثين في الماية في غضون 2025، وصولاً إلى 42 في الماية العام 2030. وهذا الهدف يتفق مع القانون الذي أقره مجلس النواب الأميركي في حزيران/يونيو 2009. وبالمقارنة مع العام 1990 الذي تتخذه الأمم المتحدة كمرجع فإن القرار الأميركي يعني تخفيضًا لا يزيد عن الأربعة في الماية وهذا جل ما يستطيع أوباما انتزاعه من الكونغرس[35].

ويقول المؤرخ فرانسوا دوربير إن الرئيس أوباما ما يزال مهتمًا بالبيئة كما كان عليه عندما كان مرشحًا، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن تنضم الدولة الأميركية إلى أنصار البيئة في العالم. ولنتذكر إدارة كلينتون فالرئيس وقتها كان من أشد المهتمين بالبيئة لكن الكونغرس هو الذي رفض التصويت على بروتوكول كيوتو[36].

 

العلاقة مع السلطة التشريعية

يتميَّز النظام السياسي الأميركي بالفصل التام ما بين السلطات: الكونغرس (المؤلّف من مجلسي النواب والشيوخ) لا يستطيع، لأسباب سياسية، إقالة رئيس الجمهورية. في المقابل فإن هذا الأخير لا يمكنه حل هذين المجلسين أو أحدهما. في نظام توازن السلطات هذا يحظى الرئيس بإدارة واسعة لتنفيذ سياساته لكن الكونغرس هو الذي يقر القوانين. والرئيس كما أعضاء الكونغرس ينتخبون بالاقتراع العام لذلك يتمتعون بالشرعية الشعبية القوية نفسها. لذلك وعلى عكس الأفكار الشائعة فإن الرئيس ليس الأقوى في نظام سياسي يبدو وكأنه وضع أصلا في خدمته. إنه الثاني من الناحية الدستورية وإن كان الأول من الجهة السياسية، فالدستور أفرد له المادة الثانية بعد أن خصَّ الكونغرس بالمادة الأولى[37].

وهكذا، فإذا كانت قدرة أوباما على إحداث التغييرات الموعودة تبقى محدودة. فبسبب الكونغرس، من جهة، وخصومه الجمهوريين الذين يتهمونه بأنه اشتراكي ويساري من دون أن ننسى اللوبيات وجماعات المصالح والضغوط التي لا تتفق وسياساته. هذا في حين أن الديمقراطيين اليساريين والليبراليين يرون أنه يمارس سياسة وسطية تسعى إلى التسويات بدل أن تعمل على إحداث قطيعة أضحت ضرورية مع سياسات الماضي. اليسار غير راضٍ تمامًا على أوباما لأنه يتخلَّى بسرعة عن مثالياته التقدمية ويعود إلى الاستمرار في سياسات سلفه لا سيما في ما يخص الأمن القومي بحسب ما تقوله النيوزويك: «الرئيس الديمقراطي الذي يدفع في اتجاه التغطية الصحية الكاملة الإلزامية ولا يبدو جاهزًا لمعالجة مشاكل الزواج المثلي والرقابة على امتلاك السلاح ليس بالمخلص الموعود والذي طالما انتظره التقدميون التقليديون»[38]. لكن فرانسوا دوربير يذكر بأن «أوباما لا يستطيع الحكم من دون الكونغرس. ولا يمكننا الكلام على وعود أوباما وتنفيذها من دون الكلام على النظام الفدرالي وتوازن السلطات بين الرئيس والكونغرس. الرئيس الأميركي يبقى في حالة تعايش مع الكونغرس الذي هو سلطة تشريعية حقيقية تستطيع في كل لحظة إعاقة القرارات الرئاسية ووقفها». المشكلة الكبرى بالنسبة إلى الرئيس هي الحصول على «الغالبية الساحقة» في مجلس الشيوخ، أي ستين صوتًا من أصل الماية صوت، كي يمر القانون المقترح. والمعروف أن انقسام السلطة في الولايات المتحدة كان قويًا على الدوام وأن الرئيس مهما كانت ديناميته يمكن للكونغرس المحافظ أن يعطل مفاعيلها. والانقسام في المعسكر الديمقراطي نفسه بالإضافة إلى انتخابات الكونغرس النصفية في خريف العام 2010 ليس من شأنه تسهيل مهمة الرئيس أوباما الذي يحمل مشاريع مفرطة في الثورية والطموح من وجهة نظر المحافظين. يبقى اذن التعويل على قدرة أوباما على طمأنة الخائفين من التغيير وإقناعهم بضرورته. وهو رجل تسويات وسطية براغماتي، لكن ينبغي أحيانًا فرض الأمور في السياسة فرضًا عبر الاعتماد على الرأي العام وهو مصدر قوة ودعم لأنه انتخب الرئيس. لكن هذا الرأي العام لا يتحرك بسرعة، ثم أن كل الرؤساء الأميركيين تلقوا الدعم من الشعب والإعلام من أجل تحريك الكونغرس فأخفقوا تارة ونجحوا طورًا. «وإذا كان الأميركيون يريدون أن يشبه رئيسهم ذلك المرشح باراك أوباما الذي انتخبوه فعليهم أن يتصرَّفوا كما فعلوا أي كناخبين دفعوا الاستابليشمنت السياسي في اتجاه ليس هو الاتجاه الذي كان يسير فيه»[39].

 

II- تحديات الساحة الدولية

في الساحة الدولية راكم المحافظون الجدد الإخفاق تلو الإخفاق من النواحي العسكرية والسياسية والاستراتيجية وساءت علاقاتهم مع الحلفاء في حين وصلت علاقاتهم مع الخصوم إلى حافة المواجهة المباشرة في أحيان كثيرة. وهذا ما يفسِّر تخلي الرئيس بوش عن رموزهم تباعًا في ولايته الثانية من دون أن ينجح في انتهاج سياسات بديلة نظرًا إلى المسافة الطويلة التي كان قد عبرها في الطريق الذي اختطَّه له هؤلاء المحافظون الجدد فتميَّزت هذه الولاية الثانية بالتخبُّط والافتقار إلى نهج سياسي واضح خارج الشعارات التي استمر في ترديدها بعد أن خلت من أي معنى. وهكذا وصل أوباما إلى البيت الأبيض وقد تراكمت على طاولة المكتب البيضوي الملفات الشائكة التي تغطي الساحة الدولية برمتها. وكان الرجل قد أطلق خلال حملته الإنتخابية الوعود بممارسة الدبلوماسية المنفتحة إلى أقصى الحدود واليد الممدودة إلى الخصوم والحوار الهادف إلى البحث عن المصالح المشتركة ونزع فتيل الأزمات القابلة للانفجار.

في سياق تنفيذ مثل هذه الوعود تقدم أوباما بالتهاني إلى «الجمهورية الإسلامية الإيرانية شعبًا وحكومة» في العشرين من آذار/مارس 2009 بمناسبة عيد النوروز، وعرض عليها استعادة العلاقات الدبلوماسية مقابل وقف برنامجها النووي. وفي براغ في الرابع من نيسان/أبريل ألقى خطابًا دافع فيه عن «عالم من دون أسلحة نووية»، وبعدها بشهرين، في الرابع من حزيران/يونيو في القاهرة، توجَّه إلى العالم الإسلامي داعيًا إلى علاقات ثقة وتعاون جديدة. وفي أكرا في غانا قال في 11 تموز/يوليو «إن مستقبل إفريقيا في أيدي الأفارقة». وفي 23 أيلول/سبتمبر من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة دعا إلى عصر جديد من التعاون متعدد الأطراف. هذا عدا جولاته وزياراته الأوروبية والإفريقية والآسيوية والشرق - أوسطية وغيرها، الأمر الذي فاجأ محللين كثيرين كانوا يعتقدون بأنه سوف يركِّز جهوده على الأوضاع الأميركية الداخلية تاركًا الساحة الخارجية للوزيرة هيلاري كلينتون. لقد تأكَّد للجميع أنه مؤمن بأن تغيير صورة أميركا في الخارج عبر التوجه إليه بلهجة مختلفة وأسلوب جديد شرط أساسي لتأمين ظروف نجاح معالجة المعضلات الداخلية. فهل ينجح؟

 

أوباما «الآسيوي»

في خطاب ألقاه في 14/11/2009 في «سانتوري هول» في طوكيو دافع أوباما عن انخراط أميركي أعمق في آسيا وتقوية العلاقات التجارية مع هذه المنطقة: «أتمنى أن يدرك كل أميركي بأن لنا مصلحة في المستقبل في هذه المنطقة التي لما يحدث فيها اُثر مباشر على حياتنا في ديارنا. فهنا يجري القسم الأكبر من تجارتنا ومن هنا نشتري العدد الأكبر والأهم من سلعنا. وإلى هنا يمكننا أن نصدِّر منتجاتنا الخاصة فنخلق بذلك فرص العمل عندنا»[40]. وقد ذكرت الصحف الآسيوية أن أوباما ولد في هاواي وترعرع في إندونيسيا وهو قدَّم نفسه على أنه أول رئيس أميركي قادم من الباسيفيك. وعلى الصعيد الجيوبوليتيكي فقد أعلن ان «الالتزام الأميركي حيال أمن آسيا واليابان لا يتزعزع» على الرغم من الحربين اللتين تخوضهما بلاده في العراق وأفغانستان. وفي هذا الصدد فقد أعاد تأكيد ضرورة خلو العالم من الأسلحة النووية لكن في الانتظار ينبغي الإبقاء على قوة ردع نووي «قوية وفعالة» من أجل حماية الحلفاء اليابانيين والكوريين الجنوبيين. كما دعا كوريا الشمالية إلى وضع حدٍّ لعزلتها الدولية عبر العودة إلى طاولة المفاوضات حول برنامجها النووي.

إهتمامات أوباما الآسيوية أشعرت بعض الأوروبيين بالقلق من أن تحل «الأولويات الترانسباسيفيكية» محل «الأولويات الترانساطلسية» في الفكر الاستراتيجي الأميركي. لكن ينبغي عدم إغفال أمر وهو أن أوباما قام بجولة أوروبية كبيرة بُعَيْدَ تسلمه السلطة وذلك في آذار/مارس 2009 ولو أن جولته الآسيوية التي دامت أسبوعًا كاملاً في كانون الأول/ديسمبر 2009 حملت الكثير من المعاني والرموز ومنها أن آسيا ستحتل مكانًا مميَّزًا في الأجندة الأميركية الجديدة.

كشفت الأزمة المالية التي تضرب الولايات المتحدة كم أنها أضحت مرتبطة بالصينيين الذين يحملون حوالى الألف مليار دولار من سندات الخزينة الأميركية. وأضحى فريق أوباما على وعي تام بأن المساحة الآسيوية ستضطلع بدور أساسي في المستقبل في علاقات القوة الاقتصادية والسياسية العالمية في وقت ضعف فيه التأثير الأميركي لمصلحة قوى صاعدة مثل الصين والهند. وكذلك الجذور الآسيوية لأوباما تضطلع بدورٍ في ديناميته السياسية حيال هذه المنطقة كما يقول بن رودس أحد أعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضيف: «الفكرة الأساسية هي أن نبرهن أننا أمة تنتمي إلى الباسيفيك»، و»ينبغي إحياء التحالفات القديمة وإنشاء شراكات جديدة» مع دول مثل إندونيسيا. أوباما لا يريد أن تبقى بلاده مجرد مشاهد عن بعد للمشهد الآسيوي[41].

وعلى الرغم من المرور بكوريا الجنوبية وسنغافورة واليابان فإن المقصد الأساسي لجولة أوباما الآسيوية كان الصين، هذه القوة الاقتصادية العظمى الدولية الثانية بعد تراجع روسيا، والتي كان أوباما قد أعلن بصددها في 27 تموز/يوليو 2009: «العلاقات بين الولايات المتحدة والصين ستحدِّد شكل القرن الحادي والعشرين الأمر الذي يجعل منها أهم علاقات ثنائية في العالم». وقد بدأ يروِّج مصطلح «G2» لتعريف العلاقة الأميركية - الصينية ما يرمز إلى نوع من الندِّية والمساواة في هذه العلاقة والتي يعبِّر عنها رودس بالقول: «ليس هناك من موضوع واحد أساسي يمكن أن ننجح فيه من دون الصينيين»، فالصين لا يمكن الاستغناء عنها في كل بحث تفاوضي مجدٍ حول ملفي كوريا الشمالية وإيران النوويين وحول الاحتباس المناخي على سبيل المثال»[42]. على الرغم من ذلك فالملفات الخلافية كثيرة ومعقَّدة، فالولايات المتحدة لا تنظر بعين الرضا إلى عجزها التجاري الذي يتفاقم عامًا بعد عام مع الصين، ولا إلى القوة العسكرية، ولاسيما البحرية، المتنامية لهذه الأخيرة، ونفوذها المتنامي هو الآخر على الساحة الدولية، ورفضها تحرير عملتها ورعايتها كوريا الشمالية وإيران والسودان، وعدم اهتمامها بحقوق الإنسان والأقليات الدينية والعرقية. لكن أوباما يتجنَّب استفزازها بدليل رفضه استقبال الدالاي لاما الذي زار واشنطن في تشرين الأول/أكتوبر الماضي على الرغم من انتقادات المحافظين وبعض الديمقراطيين. وقد كرَّست «الايكونوميست» عددًا خاصًا في تشرين الأول/أكتوبر لهذا «الزوج الغريب» الصيني - الأميركي مؤكدة «أن الخطر يكمن في أن أميركا التي تشعر بالهلع حيال هذا الشريك الخصم الجديد قد تكون متشدِّدة في الملف الاقتصادي ومتراخية في شؤون حقوق الإنسان». لكن الصين تملك أوراقًا مهمة في وجه هكذا تشدُّد اقتصادي إن حصل، وقد عبَّر عنها حاكم المصرف المركزي الصيني بداية العام 2009 الذي دعا إلى استبدال الدولار كعملة احتياط وتبادل دولية بأخرى جديدة يتفق عليها. ومن الواضح، في رأي هنري كيسنجر، أن الصينيين باتوا يرفضون هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي لكنهم لا يملكون بديلاً ويدركون أن الأمر لا يتعلق بهم وحدهم لكنهم يتمتَّعون بالصبر والأناة والقدرة على رفع التحدِّيات للمدى الطويل[43]. ويبدي كيسنجر قلقه من هزيمة الحزب الليبرالي الديمقراطي الذي حكم اليابان من دون انقطاع منذ الحرب الكورية في خمسينيات القرن الماضي، ذلك أن من أولى قرارات الحكومة الجديدة كان وقف المساعدة العسكرية اليابانية للحرب الأميركية في أفغانستان، وإعادة التفكير في وضع القاعدة العسكرية الأميركية في أوكيناوا، ما يعني أن التبعية اليابانية حيال واشنطن باتت في طريقها إلى الزوال. والأخطر هو أن تتحوَّل هذه التبعية نحو الصين، القوة الآسيوية الأولى، والتي قد توافق طوكيو على أن تحل محل الولايات المتحدة في المنطقة[44].

 

العلاقة الجديدة مع روسيا

في خطاب تسلُّمه السلطة في 20 كانون الثاني/يناير 2009 أعلن أوباما أنه «مع أصدقاء قدامى وأعداء سابقين سوف نعمل من دون كلل من أجل خفض التهديد النووي». وقد سارع إلى تنفيذ هذا الوعد عندما اتفق مع موسكو، في بداية تموز/يوليو من العام نفسه، على بدء مفاوضات قبل انتهاء العام من أجل تخفيض عدد الرؤوس النووية في البلدين.

في الثاني من آذار/مارس 2009 نشرت نيويورك تايمز تقريرًا ذكرت فيه أن أوباما بعث قبل ثلاثة أسابيع «رسالة سرية» إلى الرئيس الروسي مدفيديف عرض فيها أن تتراجع واشنطن عن نشر نظامها الصاروخي في شرق أوروبا، تشيكيا وبولونيا تحديدًا، إذا ساعدت روسيا في منع إيران من امتلاك أسلحة نووية وطويلة المدى. بالطبع نفى أوباما مثل هذه الرسالة واصفا التقرير أنه «غير دقيق»، لكنه أضاف أن الحد من الطموحات النووية الإيرانية يقلل الحاجة إلى درع صاروخية[45].

سواء كان هذا الخبر صحيحًا أم لا فإن المراقب لا يسعه إلاَّ التساؤل عن السبب الذي حدا بالرئيس أوباما إلى إلغاء مشروع الدرع الصاروخي العزيز على إدارة بوش السابقة، وعن الموقف الروسي الذي تغيَّر حيال الملف النووي الإيراني بُعَيْدَ القرار الأميركي. هذا لا يعني أن الملف النووي الإيراني هو الزاوية الوحيدة التي ينبغي من خلالها النظر إلى العلاقة الأميركية - الروسية الجديدة. كثيرون، على غرار هنري كيسنجر، يعتقدون أن واشنطن أخطأت كثيرًا عندما تعاملت بفوقية وعجرفة مع قوة عظمى كروسيا عندما دخلت في أزمة عميقة غداة انتهاء الحرب الباردة[46]. فعلى الرغم من هذه الأزمة بقيت روسيا قوية أقله بفضل امتلاكها السلاح النووي ومقعد دائم في مجلس الأمن قبل أن يتمكَّن الرئيس بوتين، بمساعدة ظروف اقتصادية (إرتفاع سعر النفط والمواد الأولية) ودولية مستجدَّة من إعادة بلاده إلى الخارطة الدولية. ولم تتردَّد روسيا في اجتياح الأراضي الجورجية الحليفة لواشنطن ردًا على استفزازات الرئيس شاكاشفيلي للروس في أوسيتيا الجنوبية التي أعلنت استقلالها في ما بعد بدعم روسي كما فعلت أبخازيا. وكرد على إعلان بوش عزمه على نشر الدروع الواقية من الصواريخ البالستية في أوروبا الشرقية أعلنت موسكو عن عزمها نشر صواريخ اسكندر في كالينغراد. في نهاية عهد بوش وصلت العلاقة الروسية - الأميركية إلى حافة المواجهة الخطيرة المباشرة طورًا وعن طريق الحلفاء أطوارًا. كان لابد للرئيس أوباما من العمل على تنفيذ وعده بتحسين هذه العلاقة وتحويلها إلى شراكة مفيدة للطرفين. من هنا دعوته إلى إحياء المفاوضات لتخفيض التسلح النووي وستارت-1 وعدم انتشار أسلحة الدمار الشامل ومبادرته إلى إلغاء مشروع الدروع المضادة للصواريخ ودعوته موسكو إلى تبوء مسؤولياتها الدولية والعمل مع حلف الأطلسي وواشنطن على نزع فتائل أزمات دولية (كوريا الشمالية، العراق، أفغانستان، الشرق الأوسط، إيران...). وفي البيت الأبيض في الثاني والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2009 التقى الرئيس مدفديف الذي أعلن أنه سيوافق على إقرار عقوبات على إيران إذا استمرت في عدم التعاون مع جماعة الستة في المفاوضات المتعلقة بملفها النووي. وكان هذا الإعلان غير المسبوق والذي أتى بعد رفض موسكو إرسال بطاريات صواريخ «اس300-» الدفاعية الجوية إلى طهران دليلاً على نجاح التقارب الأميركي - الروسي.

لكن، من الجهة المقابلة، ما تزال هناك دلائل على أن هذا التقارب يتأخَّر في إعطاء ثماره المرجوة، ليس فحسب لأن الروس أعلنوا أن مفاعل بوشهر النووي الإيراني سيبدأ بالعمل في آذار/مارس 2010 ولكن أيضًا بسبب تعثُّر التوصُّل إلى اتفاق على الرغم من المفاوضات الطويلة والمضنية حول تجديد معاهدة ستارت-1 التي وقَّعها العام 1991 الرئيسان بوش الأب وغورباتشيف والتي انتهت مفاعيلها. وكان الرئيسان أوباما ومدفيديف قد اتفقا في تموز/يوليو الماضي على خفض ترسانتهما النووية إلى ثلثي حجمهما الحالي تقريبًا وجاء إعلان أوباما إلغاء مشروع الدروع الصاروخية بمنزلة تشجيع لمفاوضات الحالية لكن الأمور تعقَّدت عندما طالبت موسكو بالبحث في تحديد القدرات الصاروخية التقليدية التي تتفوَّق فيها واشنطن على الروس. لقد بدا واضحًا أن موسكو تريد استغلال الاستعجال الأميركي في مجال منع الانتشار النووي من أجل الحصول منها على مكاسب. ذلك أن أوباما يريد أن يحقِّق تقدمًا في هذا الملف الذي قدَّم فيه الوعود الكثيرة، لا سيما من على منبر الأمم المتحدة، والذي من خلاله يطمح إلى ممارسة المزيد من الضغوط على إيران[47].

 

الانسحاب من العراق

في 27 شباط/فبراير قال أوباما إن الجيش الأميركي سوف ينسحب من العراق عبر مراحل تدريجية تبدأ قبل نهاية آب/أغسطس2010  ليتم الانسحاب النهائي الأخير قبل 31 كانون الأول/ديسمبر 2011. لكن شيئًا لا يضمن استقرار العراق بعد هذا الانسحاب كما يعتقد كل المراقبين والسياسيين تقريبًا.

والحقيقة أن إدارة بوش هي التي وقَّعت اتفاق الانسحاب هذا مع الحكومة العراقية وبدأت بالعمل وفق ما أتى به تقرير بيكر - هاملتون الشهير وتأتي إدارة أوباما لتكمل في الطريق نفسه من دون إضافة شيء جديد. لكن يُسجَّل لباراك أوباما أنه كان من السياسيين الأميركيين القلائل الذين عارضوا جهارًا الحرب على العراق واستمر في معارضته في إبان الحرب وبعدها. واحتل الوعد بالانسحاب من العراق حيِّزًا رئيسًا في قائمة وعوده الانتخابية. ومن المؤكد أنه سيسير في هذا الوعد إلى نهاياته لكن من غير المؤكد أنه سوف يأبه كثيرًا للنتائج العراقية والإقليمية التي سوف يترتَّب عليها مثل هذا الانسحاب والذي سوف يستغله على الأرجح في حملته الانتخابية المقبلة للتجديد لولاية رئاسية ثانية.

 

العلاقة بين ضفتي الأطلسي

في 24 تموز/يوليو 2008 خلال حملته الانتخابية دعا أوباما من برلين إلى سقوط الجدران بين الحلفاء القدامى من كل من ضفتي الأطلسي. لكن منذ هذا الخطاب لم يلمع في سياسته الأوروبية الجديدة. ففي أوروبا يتمتع الرجل بشعبية كبيرة ولا يشعر بأنه بحاجة إلى فعل الكثير وبذل الجهود الاستثنائية. وعلى الأرجح أنه اكتفى بخطاب برلين وزياراته إلى العواصم الأوروبية قبيل وبعيد انتخابه والتي، في رأي هوبير فدرين، لا يعتبرها مشكلة كما أنه لا ينظر إليها كحل إلاَّ حين يتقدم زعماؤها باقتراحات ملفتة في أزمات مستعصية تتعلق بروسيا أو إيران أو الشرق الأوسط على سبيل المثال[48]. وحيال الرئيس ساركوزي المتحمس لعلاقة مميَّزة مع أوباما لا يبدي هذا الاخير مثل هذا الحماس، إذ في زيارته إلى فرنسا في حزيران/يونيو 2009 بمناسبة الذكرى السنوية لإنزال النورماندي الشهير لم يتكلَّم على العلاقة الفرنسية - الأميركية الجديدة كما يفعل ساركوزي على الدوام، ربما لأنه يؤمن أكثر بالتجمعات الإقليمية كما يعتقد المحلِّل الفرنسي فرانسوا دوربير[49].

 

الملف النووي الايراني

راوحت سياسة أوباما حيال بيونغ - يونغ بين الصلابة والدعوة إلى التفاوض والحوار، ويبدو أنها أثمرت. فبعد أن قامت هذه الأخيرة بإطلاق صواريخ بالستية تجريبية في نيسان/أبريل 2009، وبتجربة نووية بعد ذلك بشهر واحد، ردَّ مجلس الأمن الدولي بإقرار عقوبات جديدة ضدها بدفع من الولايات المتحدة. لكن كوريا الشمالية عادت وأعلنت عن جاهزيتها للعودة إلى طاولة المفاوضات بشأن برنامجها النووي. كان ذلك بعد أن قام الرئيس الأسبق كلينتون بزيارة ناجحة إليها.

لكن في الملف النووي الإيراني يبدو أن استراتيجية أوباما تتبع الخطوات الصغيرة المتعاقبة. فبعد خطاب 20 آذار/مارس بمناسبة رأس السنة الإيرانية الذي توجَّه فيه إلى الشعب الإيراني وقادته عارضًا فيه تجاوز عقود ثلاثة من الصراع[50] عادت المفاوضات مع إيران في الأول من تشرين الأول في جنيف بعد توقف دام سنة كاملة. وكانت النتيجة أن وافقت طهران على فتح مفاعلها الثاني لتخصيب اليورانيوم في قم، والذي كان سريًا، أمام مفتشي وكالة الطاقة الذرية الدولية. واستمرت المفاوضات إلى أن تم التوصل إلى اتفاق مبدئي يقضي بأن تنقل طهران إلى روسيا وفرنسا قسمًا من اليورانيوم الذي قامت بتخصيبه كي يتم تحويله إلى وقود لمفاعل الأبحاث النووية في طهران والذي يحمل أهدافًا مدنية سلمية. لكن بعد عودة المفاوضين الإيرانيين إلى بلادهم أعلنت إيران عن عدم ثقتها بالفرنسيين وأنها تود أن تقوم عملية التبادل على الأراضي الإيرانية وليس في الخارج. وعلى وقع التهديدات المتبادلة والمناورات العسكرية أعلنت طهران عن عزمها بناء عشر مفاعلات جديدة لتخصيب اليورانيوم، وهدَّدت بخفض التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة النووية. ويهدف الغربيون إلى وقف البرنامج النووي عند حدود عدم قدرة إيران من تحويله إلى المجال العسكري ولكن من دون إهانة الرئيس الإيراني الذي قد يبدو أمام رأيه العام وكأنه قد تراجع أمام الضغوط الدولية والداخلية. لكن طهران تسعى لانتزاع الاعتراف بحقها في الاستحواذ على الطاقة النووية وعلى نفوذ إقليمي في الوقت نفسه. وهي تدرك أن الظروف الدولية مؤاتية لانتزاع مثل هذه الحقوق وعلى قناعة أن لا مجال لمهاجمتها عسكريًا في ظل هذه الظروف. لكن إسرائيل تمارس كل الضغوط الممكنة على الأميركيين بغية الإقرار بضرورة التدخل العسكري لإنهاء الملف النووي الإيراني، لكن الأميركيين ما يزالون على قناعة بأن العقوبات الاقتصادية القاسية عن طريق مجلس الأمن وبدعم من روسيا والصين قد تكون كافية في المرحلة الحاضرة لثني الإيرانيين عن عزمهم. وهكذا فإن المفاوضات تدور على وقع التهديدات قبل أن تتعثَّر لتعود بعد أشهر فتتعثَّر من جديد ويعود الحديث عن العقوبات وعن الضربة العسكرية فيحبس العالم أنفاسه نظرًا إلى النتائج غير المحسوبة لمثل هذه الضربة على السلم والاقتصاد الدوليين. إنها لعبة على شفير الهاوية وسباق مع الزمن بين الطرفين الإيراني من جهة والذي يملك أوراقا قوية والطرف الغربي المتمثل بالولايات المتحدة وحلفائها والذي يملك هو الآخر أوراقًا قوية لكن استخدامها ليس مضمون العواقب.

 

الحرب الأفغانية

كرَّر أوباما المرشَّح القول إن الحرب الحقيقية على الإرهاب تكمن في أفغانستان وليس العراق الذي وعد بالانسحاب منه، وكان ضد غزوه في الأصل. لكن بعد تسلُّمه السلطة تبيَّن أنه لم يكن يملك من إستراتيجية واضحة لأفغانستان ما دفعه للتردد في اتخاذ القرارات الواضحة. بعد وصوله إلى البيت الأبيض بيومين فقط أعلن أن لامناص من مواجهة قواعد تنظيمي القاعدة وطالبان على طول الحدود مع باكستان وأن» ما من سلام دائم إلاَّ من خلال توسيعنا الفرص المتاحة أمام شعبي أفغانستان وباكستان». وفي 27 آذار/مارس أعلن عن إرسال تعزيزات إلى أفغانستان تمثَّلت بواحد وعشرين ألف عسكري إضافي في وقت كانت قيادة الأركان الأميركية تطالب بأربعين ألف عسكري إضافي للقضاء على طالبان التي تعزَّزت قوتها هناك. والنتيجة أن طالبان استمرت في توسيع سيطرتها على الأرض وإيقاع الخسائر بقوات حلف الأطلسي إلى درجة أنها باتت تسيطر على إحدى عشرة ولاية من ولايات أفغانستان الأربع وثلاثين. لكن أوباما وفى بوعوده إلى حد كبير فركَّز جهوده في الحرب على أفغانستان بعد أن كانت منصبة على العراق في عهد سلفه بوش، وأرسل المزيد من الجنود وزاد من الموازنة العسكرية المخصَّصة لأفغانستان، لكن من دون نتيجة، وربما يكون السبب في أن حلفاءه لم يتجاوبوا معه برفع حصتهم من المشاركة بالجنود والعتاد والميزانيات. ويقدِّم أوباما مقاربة إقليمية للمشكلة الأفغانية عبر مشاركة باكستان والهند وقوى أخرى. لكن هذه المقاربة، في رأي أستاذ علم السياسة الفرنسي بارتيليمي كورمون، تحمل مخاطر «فتنمة» الصراع بعد تحويله إلى مشكلة إقليمية، ذلك أن أوباما لا يمتلك أي شعبية في باكستان التي تخوض حكومتها مخاطر داخلية جمَّة بتحالفها مع واشنطن[51]. وقد بدأت طالبان الباكستانية تتحرَّك ضدها كما يفعل العديد من الحركات الإسلامية بعد هدنة طويلة امتدت طوال حكم الرئيس السابق برويز مشرف. ويقول أوبير فدرين إن أوباما لم يقدر الخطر الأفغاني التقدير الملائم، وأهداف الحرب ليست واضحة تمامًا هناك عدا أن التنسيق العسكري بين الحلفاء الأطلسيين هناك ما يزال غير مرضٍ ما فيه الكفاية[52].

بعد تردُّد وتفكير طويلين أعلن أوباما أمام الأكاديمية العسكرية في وست بوينت في بداية كانون الأول/ديسمبر 2009 استراتيجيته الجديدة في أفغانستان والتي قضت بإرسال تعزيزات إلى هناك قوامها ثلاثون ألف جندي إضافي سيصلون تباعًا حتى أيار/مايو 2009 ما يرفع عدد العسكريين الأميركيين هناك إلى ماية ألف. لكنه في الوقت نفسه وعد ببدء الانسحاب من أفغانستان بعد ثمانية عشر شهرًا وإتمامه أي في تموز/يوليو 2011 (قبل أن يذهب وزير دفاعه غيتس إلى كابول، في 7 كانون الأول/ديسمبر، ليطمئن كرزاي أن هذا الانسحاب لن يتم بطريقة فجائية غير منسقة بل قد يمتد لثلاث أو أربع سنوات بحسب الظروف). لقد أراد أوباما بذلك إرضاء الجنرال ستانلي ماكريستال الذي كان يلح في طلب التعزيزات وقطع الطريق على انتقادات الجمهوريين له بالضعف والتردُّد، وفي الوقت نفسه طمأنة الرأي العام الأميركي الذي لم يعد يؤيد الحرب واليساريين من الديمقراطيين الخائفين على ضياع أولوية الإصلاحات الداخلية الملحَّة بالقول: «لن نبقى في أفغانستان على الدوام (...) والأمة التي أسعى إلى بنائها هي أمتنا نحن»[53].

وطلب من الحلفاء الأوروبيين إرسال حوالى عشرة آلاف عسكري إضافي. لكن ما عدا غوردون براون الذي وافق بعد تردُّد على إرسال خمسماية حندي إضافي فقد رفض الفرنسيون والألمان بذريعة أنهم يفضِّلون «أفغنة» الصراع بمعنى تولِّي الجيش الأفغاني العمليات الأمنية بمساعدة لوجستية وتدريبية واستشارية ومعلوماتية وغيرها من الحلفاء. إلاَّ أنَّ أمين عام حلف الأطلسي راسموسن وعد بإرسال سبعة آلاف عسكري في غضون الأشهر الستة المقبلة.

وبذلك يكون أوباما قد أمسك بالعصا من نصفها أي أنه أعلن الانخراط في الصراع ولكن في الوقت نفسه حدَّد تاريخًا لنهاية هذا الانخراط. لكن الصعوبة التي سيواجهها تكمن في كيفية إدارة التناقض بين الرسالتين اللتين وجَّههما في إعلان استراتيجيته. الرسالة الموجهة للشعب الأميركي: «أطمئنكم بأننا لن نبقى هناك على الدوام» والأخرى الموجَّهة للحلفاء لا سيما الأفغان منهم: «لن أتخلى عنكم مطلقًا». إلاَّ إذا كان يملك قناعة راسخة بأن الجنود الإضافيين سوف يحسموا الحرب في أشهر قليلة قبل أن يعودوا ظافرين إلى البيت. وهذه القناعة فيها من السذاجة الكثير ليس لأن الناطق باسم طالبان قاري يوسف أحمدي أعلن بأن ما ستعزِّزه التعزيزات الأميركية هو المقاومة[54]، بل لأن التاريخ يعلمنا أن المزيد من الجنود لم يشكِّل يومًا رادعًا للمتمرِّدين والمقاومين. هناك من المراقبين من يتوقَّع حربًا تمتد لعشر سنوات قبل التمكُّن من القضاء على طالبان والقاعدة. وما تاريخ تموز/يوليو 2011 لبدء الانسحاب إلاَّ تسوية ما بين «واقعيي» البنتاغون واليسار القلق على الإصلاحات الإجتماعية والإقتصادية.

إلى الخائفين من «الفتنمة» أكد أوباما أن المقارنة لا تستوي لأن هناك 43 بلدًا يشترك في الحرب الأفغانية في حين كانت أميركا وحدها في فيتنام وأنها تعرَّضت للهجوم من أفغانستان وهي تدافع عن نفسها ليس إلاَّ، وبالتالي فإنَّ الأمن القومي الأميركي نفسه في الميزان، ذلك أنه في اللحظة التي يلقي فيها خطابه هناك من يخطِّط لعمليات مشابهة لما جرى في 11 أيلول/سبتمبر 2001 كما قال قبل أن يشدِّد على أهمية الدور الباكستاني في الحرب على طالبان والقاعدة واعدًا الباكستانيين بالمزيد من الشراكة والتعاون حتى بعد أن تنتهي هذه الحرب.

لكن طالما أن أوباما قام بهذه المقارنة التاريخية ينبغي التذكير أنه في بداية سبعينيات القرن الماضي، في غمرة حرب فيتنام، قرَّر الرئيس نيكسون ومستشاره للأمن القومي كيسنجر الخروج «من فوق» عبر توسيع النزاع إلى كمبوديا وتدعيم الوجود العسكري الأميركي في فيتنام. والعام 1973 خرجت واشنطن من فوق لكن سايغون عاصمة فيتنام الجنوبية سقطت في أيدي الشماليين. فماذا يعني الخروج من فوق من أفغانستان اليوم؟ هل يستطيع نظام كرزاي الذي وصل إلى الحكم بطريقة فيها الكثير من الالتباس وعلى خلفية هذا الفساد والتردي أن يقنع الشعب الأفغاني بالوقوف خلفه بعد خروج الأميركيين، أم أنه سيسقط كما سقطت سايغون؟ لقد أعلن أوباما أنه من الآن وصاعدًا لن يكون هناك «شيكات على بياض» للحكم الأفغاني الذي يدرك الأميركيون قبل غيرهم حجم فساده وضعف تأييد الشعب له، لكنهم لا يملكون سياسة واضحة توصل إلى «حكم رشيد» هناك.

في المحصلة لا يسع المراقب للموضوع الأفغاني إلاَّ أن يلاحظ أنَّ أوباما، على الرغم من محاولته الوقوف في الوسط وتدوير الزوايا، قد اخفق في الابتعاد عن سياسة سلفه بوش. وقد علَّق الجنرال فكتور برماكوف الذي كان قائدًا للقوات السوفياتية التي احتلت أفغانستان على الإستراتيجية الأميركية الجديدة بالقول: «أرى أمرًا واحدًا هو أن الرئيس الأميركي سيذهب كثيرًا إلى المطار لإلقاء نظرة الوداع على نعوش الجنود الذين سيقتلون في أفغانستان... هذه حرب لايمكن كسبها»[55].

 

الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي

إحتلَّ الصراع العربي - الإسرائيلي حيِّزًا مهمًا من وعود أوباما الانتخابية، وكان لا بد له من أن يتبع القاعدة التي باتت تقليدًا راسخًا في الولايات المتحدة لكل من يود الفوز في الاقتراع العام سواء لدخول البيت الأبيض أو الكونغرس أو حتى المجالس البلدية: كيل المدائح لإسرائيل، والتزام تأييدها وحمايتها ومساعدتها. في هذا المجال لم يقصر أوباما مطلقًا بل أنه حشد في خطاباته، لا سيما أمام «الإيباك» في الرابع من حزيران/يونيو 2008، قدرات بلاغية لم يبلغها أي مرشح أو رئيس سابق في مجال الوعد باحتضان «الدولة اليهودية» ورعايتها وتاييدها.

بعد يومين فقط على دخوله البيت الأبيض كرر أوباما الوعد بـ «العمل بحيوية ونشاط لمصلحة سلام دائم بين إسرائيل والفلسطينيين» مؤكدًا إيمانه بالحل القائم على دولتين. وكان أول زعيم يتصل به هو محمود عباس. وبعد أسابيع قليلة عيَّن جورج ميتشل مبعوثًا خاصًا له للشرق الأوسط. وكان هذا السناتور اللبناني الأصل قد كشف عن مواهب دبلوماسية في غير نزاع دولي، وله يعود الفضل في صياغة اتفاق سترمونت العام 1997 الذي أنهى الحرب الأهلية الأيرلندية بعد أن نجح في التوصل إلى اتفاق دايتون العام 1995 الذي وضع حدًا للحرب في البوسنة-الهرسك.

لكن المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا يمكن أن تعود وتتقدم في ظل الاستمرار في بناء المستوطنات اليهودية في المناطق الفلسطينية المحتلة وتحديدًا الضفة الغربية والقدس الشرقية أقله بموجب خارطة الطريق التي تشرف الرباعية (الولايات المتحدة، الأمم المتحدة، روسيا وأوروبا) على تنفيذها. من هنا مطالبة واشنطن حكومة نتنياهو بوقف الاستيطان أو على الأقل تجميده لفترة معينة اقلُّها سنة. لكن أوباما في مواجهة التعنُّت الإسرائيلي اتجه صوب الفلسطينيين لمطالبتهم بولوج المفاوضات قبل تجميد الاستيطان، الأمر الذي رفضه هؤلاء، فما كان منه إلاَّ التوجه إلى الدول العربية الصديقة علَّها تساعده على إقناع الفلسطينيين فلم يلاقِ تجاوبًا حتى من المملكة العربية السعودية ومصر والأردن الذين اعتبروا أن الخطر الحقيقي على السلام في المنطقة هو السياسات الإسرائيلية وليس إيران. وفي 31 تشرين الأول/أكتوبر 2009 وافقت هيلاري كلينتون بعد اجتماعها بنتنياهو في القدس على مبادرة هذا الأخير، بالموافقة على التجميد الجزئي المؤقت للاستيطان من الضفة الغربية وليس القدس لمدة عشرة أشهر، معتبرة إياها (أي المبادرة) أنها «غير مسبوقة». وقد ووجهت كلينتون بعاصفة من الاحتجاجات الفلسطينية والعربية على موقفها هذا. أما محمود عباس فقد أعلن عن نيته عدم الترشح للانتخابات التي ستجري مطلع 2010 وبالتالي انسحابه من الحياة السياسية بسبب فقدانه الأمل من النوايا الإسرائيلية ومن الإرادة الأميركية الحقيقية لجهة تحقيق سلام عادل ودائم.

وبسبب العجز عن دفع الأمور إلى الأمام على الرغم من جولات ميتشل المكوكية أصر الرئيس أوباما على تحقيق إنجاز ولو صوري عندما جمع الرئيسين عباس ونتنياهو في حضوره على هامش الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك في نهاية أيلول، لكن من دون أن يتم الإعلان عن العودة إلى المفاوضات المتوقفة منذ أكثر من عام. ويقول فدرين إن أوباما ارتكب خطأ كبيرًا عندما فرض وقفًا إسرائيليًا للاستيطان قبل الشروع في المفاوضات من دون أن يكون قادرًا على إلزام إسرائيل هذا الوقف، الأمر الذي كان من شأنه أن يشجِّع المتطرِّفين الإسرائيليين ويصيب الفلسطينيين باليأس بعد أن شعروا بالحماسة لدى انتخاب أوباما. وهذا سوف يصعب تجاوزه إلاَّ من خلال مقاربة جديدة للصراع على أوباما أن يحضرها بصورة أفضل[56].

إذا لم ينجح أوباما في حل هذا الصراع فسيفقد الكثير من صدقيته ليس فحسب لدى دول وحكومات العالمين الإسلامي والعربي ولكن أيضًا في العالم أجمع. وهو لن ينجح من دون الضغط على إسرائيل وإذا فعل فسيعطي الفرصة للجمهوريين ولـ «ايباك» كي يشنُّوا عليه هجومًا منسقًا في غير ملف معقَّد في الساحتين الداخلية والخارجية. لذلك فهو يحتاج إلى مساعدة قوى دولية وإقليمية أخرى للضغط على إسرائيل. وفي هذا المجال فعلى الدول العربية أن تستخدم ما تملكه من أوراق ضغط وأن تعلم أن أوباما، كما غيره، لن يكون أكثر حماسة لقضية يشعر الجميع بأن أصحابها قد تخلّوا عنها أو يكادون.

 

III - نهاية الأحادية

يقول روبرت كيغن، وهو من المحافظين الجدد الذين حملوا الحلم بتغيير العالم على طريقتهم،إن التاريخ قد عاد القهقرى أي كما كان عليه على الدوام وانتهت الأحلام[57]، أحلامهم. ويشرح كيف أن القوى العالمية الجديدة الآخذة بالبزوغ ترسم شكلاً جديدًا لخارطة القوى الدولية، وخطوط تماس جديَّة بين القوى المتصارعة. فروسيا تخلَّصت من رواسب التسعينيات من القرن الماضي وعادت قوة عظمى يحسب لها الحساب، واليابان يزيد إنفاقها العسكري (40 مليار دولار سنويًا) وقادر على التحول إلى قوة نووية في أشهر معدودة، كذا هي حال إيران الطامحة إلى دور إقليمي، والهند الصاعدة بسرعة عسكريًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا. أما عن الصين وإن كانت لا تبدي رغبة اليوم في الاضطلاع بدور عالمي في مستوى قوتها الاقتصادية إلاَّ أنها لن تستطيع طويلاً أن تهرب من الحتمية التاريخية والتي تقول إن قدر القوى الاقتصادية العظمى أن تنمِّي قدراتها العسكرية وتبحث لنفسها عن دور دولي مرموق، الأمر الذي سيجعل من الصين منافسًا استراتيجيًا جديًا للولايات المتحدة. وهذه الأخيرة لن تقبل طوعًا بالتخلي عن مركز القوة الأعظم الذي تحتله اليوم. وبالتالي فإنها ستبقى القوى العظمى لكن في مواجهة قوة عظمى لن تقبل بالهيمنة الأميركية وتشترك بالرغبة في نظام دولي قائم على التعددية.

هذا الكلام هو لأحد عتاة المحافظين الجدد الذي توقع قبل سنوات قليلة في عز صعود هؤلاء وانتصارهم في أفغانستان والعراق أن لا تنتهي الحرب الأميركية على الإرهاب إلاَّ... على أبواب سور الصين العظيم حيث ستتمكن الولايات المتحدة في نهاية المطاف من القضاء على آخر نظام توتاليتاري تمهيدًا لإحلال الديمقراطية الليبرالية في العالم أجمع.

في تشرين الثاني/نوفمبر 2008 نشر المجلس القومي للاستخبارات، وهو أحد فروع «سي. أي. أيه» تقريرًا من ضمن سلسلة تصورات مستقبلية تحت عنوان «نزعات عالمية [58]2025» يقول إن الهيمنة الأميركية على العالم تنزع إلى الاختفاء تدريجًا في غضون السنوات الخمس عشرة المقبلة، توازيًا مع صعود قوى دولية جديدة لا سيما الصين والهند. يسلِّط التقرير الضوء على البيئة الإستراتيجية في المستقبل ليخلص إلى أنه وإن كان صحيحًا أن الولايات المتحدة ستبقى اللاعب الأقوى العام 2025 إلاَّ أن القوة النسبية - حتى في المجال العسكري - سوف تتضاءل وتغدو وسائل فعل الولايات المتحدة محدودة للغاية.

بعد عام واحد على هذا التقرير يمكن القول إن الأمور تغيَّرت وإن توقعاته ينبغي أن تعود مرة أخرى للتكيُّف مع الحقائق التي تتغيَّر بسرعة البرق. فالتقرير وإن نشر بعد هبوب العاصفة المالية إلاَّ أنه صيغ قبل أن تصل هذه العاصفة إلى أوجها. وهو إن يقول بأن انحطاط القوة الأميركية سيكون تدرجًا وعلى مساحة الخمسة عشر عامًا المقبلة، إلاَّ أنَّ الأزمة المالية والحوادث التي رافقتها تفرض إعادة نظر بروزنامة التقرير. فالخسائر الهائلة التي تكبَّدها الاقتصاد الأميركي في السنة الفائتة والإقلاع المفاجئ والسريع للاقتصاد الصيني بعد العاصفة يعنيان بأننا بتنا في العام 2025 قبل أن نصل إليه. لذلك يمكن القول إن توقعات التقرير تحقَّقت بالفعل اليوم وقبل أن نصل إلى العام المذكور، ذلك أن البرازيل والهند والصين وروسيا (BRIC) باتت تضطلع اليوم بدور أساسي في الاقتصاد العالمي، ثم أن الموقع العالمي المهيمن للولايات المتحدة بمساعدة القوى الصناعية الغربية (جماعة السبعة) ضعف إلى حد كبير جدًا. والدول التي كانت إلى الأمس القريب تطلب النصح من واشنطن أو تسير خلفها في المسائل الدولية الكبرى باتت تتجاهلها اليوم وعلى العكس تعمل على تطوير شبكات سياسية خاصة بها. ولم تعد واشنطن قادرة على إرسال جيوشها إلى الخارج كما كانت تفعل منذ سنوات قليلة في حين أن القوى المنافسة لها تطور بشكل متسارع قدراتها العسكرية، ويلجأ اللاعبون غير الدوليين إلى تكتيكات «غير متساوقة» في مواجهة القوة العسكرية التقليدية الأميركية (في العراق وأفغانستان على سبيل المثال).

وستعرض المحلل السياسي الأميركي ميكائيل كلير[59] ست حوادث تثبت أننا بتنا في العام 2025 الذي يتوقَّع التقرير أن يشكل نهاية الهيمنة الأميركية:

- خلال القمة الاقتصادية العالمية في بيترسبورغ، في 24 و25 أيلول/سبتمبر 2009، وافق زعماء قمة جماعة الثمانية G8 على تحويل مسؤولية مراقبة الاقتصاد العالمي إلى جماعة أوسع وأكثر انفتاحا: جماعة العشرين G20 التي تضم الصين والهند والبرازيل وتركيا وعددًا آخر من الدول النامية. على الرغم من أنه من المشكوك فيه أن تتمكَّن هذه الجماعة من ممارسة زعامة فاعلة على المستوى الدولي إلا أن مجرد تشكيلها يعني بدء انتقال القوة الاقتصادية في العالم من الغرب إلى الشرق والجنوب أو على الأقل الاعتراف بالتراجع الواضح للهيمنة الاقتصادية الأميركية على العالم.

- عدد من منافسي الولايات المتحدة،تحديدًا جماعة BRIC، طالب بدراسة إمكان إيجاد عملة تبادلات دولية تحل محل الدولار، وهناك من بدأ باستخدام اليورو وسلة عملات في تبادلاتهم التجارية (البريك BRIC واليابان والدول المصدرة للنفط في الخليج). إذا اتسعت دائرة هذا القرار في العالم فإن انهيار الدولار سوف يزداد تسارعًا عما هو عليه ومعه النفوذ الأميركي على الشؤون الاقتصادية العالمية. فاستخدام الدولار عالميًا يعطي ميزة للأميركيين الذين يستطيعون بكل بساطة صك المزيد من الأوراق النقدية الخضراء لمواجهة التزاماتهم الدولية في حين أن الدول الأخرى تضطر إلى تحويل عملاتها إلى الدولار وتحمل كلفة ذلك. وتضم البريك، التي لم تتحوَّل بعد إلى جماعة رسمية على غرار جماعة السبعة 43، في الماية من سكان العالم وحوالى ثلث ناتجه الإجمالي الداخلي أي ما يعادل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية معًا.

- على الرغم من كل ما أبداه الرئيس أوباما من تقارب مع روسيا وتفهم لمصالحها، وعلى الرغم من إلغائه مشروع الدروع الواقية من الصواريخ فإنه لم يحصل منها بالسهولة التي كانت متوقعة منطقيًا على التعاون الكامل في الضغط على إيران. يبدو أن روسيا باتت مقتنعة بأفول الهيمنة الأميركية، وتسعى للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب في تعاطيها مع واشنطن.

- في الموضوع نفسه فإن الصين توثق تعاونها مع طهران في المجالات كافة على الرغم من الحملة الأميركية على هذه الأخيرة.

- محاولات الولايات المتحدة للحصول على دعم لمجهودها الحربي في أفغانستان يقابل بالفتور حتى من أقرب الحلفاء في حلف الأطلسي. فبريطانيا وهي الحليف الأقرب وافقت،على لسان غوردون براون في 14 تشرين الأول/أكتوبر، على إرسال خمسماية عسكري إضافي فقط لا غير لدعم كتيبتها في أفغانستان ولكن شريطة أن تفعل الدول الأوروبية المثل وهو أمر كان براون يعرف مسبقًا انه غير مؤكد على الإطلاق.

- على المستوى الرمزي فقد تم تجاهل شيكاغو من قبل اللجنة الأولمبية الدولية وتم اختيار ريو دو جنيرو للألعاب الأولمبية لصيف العام 2016 وذلك على الرغم من أن الرئيس أوباما ذهب بنفسه إلى كوبنهاغن ليضغط على اللجنة الأولمبية. وقد فوجىء الجميع ليس فقط لأنه لم يتم اختيار شيكاغو بل لأنها أزيحت منذ الدورة الأولى للاقتراع. وقد أعلن الرئيس البرازيلي لويس لولا دو سلفيا تعليقًا على فوز بلاده: «لقد انتقلت البرازيل من مركز الدولة القابعة في الصف العالمي الثاني إلى الصف الأول واليوم بدأنا نحظى بالاحترام الذي نستحقه». في الاقتراع الأولمبي تم التعامل مع الولايات المتحدة كبلد عادي وليس كالقوة الدولية الأعظم، وهذا بحد ذاته يعني أننا دخلنا في حقبة جديدة، في رأي مايكل كلير.

ويقول هذا الأخير إن لتحول الولايات المتحدة إلى بلد عادي حسنات كثيرة على الرغم من أن ذلك يزعج الكثير من الأميركيين الذين اعتادوا على مركز القوة الأعظم. فلا احد ينتظر من كندا أو فرنسا أو ايطاليا مثلا أن ترسل أربعين ألف جندي إلى أفغانستان لينضموا إلى السبعين ألفا الموجودين هناك وإلى 120 ألفًا يحتلون العراق. ولا أحد يتوقَّع من هذه الدول أن تخصص حوالى الألف مليار دولار من أموال دافعي الضرائب لديها لتمويل حربي العراق وأفغانستان[60].

في رأي جيفري دو ساش مدير معهد الأرض في جامعة كولومبيا أصبح الرأي العام الأميركي معارضًا على نحو متزايد لتحمل ضرائب أعلى، وعلى الرغم من ذلك فإن مستوى اتجاه الضرائب (التي يبلغ مجموعها حوالى 18% من الدخل الوطني) لا يكفي لتغطية تكاليف الوظائف الأساسية للحكومة. ونتيجة لذلك فشلت حكومة الولايات المتحدة في توفير الخدمات العامة الكافية، مثل البنية الأساسية الحديثة والطاقة المتجدِّدة اللازمة لمكافحة تغير المناخ، والمدارس اللائقة، وتمويل الرعاية الصحية. لقد أدت المقاومة القوية لفرض ضرائب أعلى، إلى جانب قائمة متنامية من الاحتياجات الملحة غير المشبعة، إلى حالة القصور المزمن في الأداء التي أصابت حكومة الولايات المتحدة فضلاً عن المستوى المتزايد الخطورة من العجز في الموازنة والدين الحكومي. ففي هذا العام ستسجل الموازنة عجزًا قياسيًا يبلغ %10 من الناتج الوطني الإجمالي، وهذه النسبة أعلى كثيرًا من نظيراتها في البلدان الأخرى ذات الدخل المرتفع[61].

يبدو أوباما عاجزًا عن الخروج من المأزق المالي. ففي انتخابات العام 2008 كان قد وعد بعدم زيادة الضرائب على أي أسرة يقل دخلها عن 250 ألف دولار أميركي سنويًا. هذا التعهد يحول دون فرض سياسات معقولة. وقد تتفاقم العوامل المسببة للشلل في السنوات المقبلة. فقد يستمر العجز في الموازنة في منع أي تصرف معقول في التعامل مع الاحتياجات الملحة. فضلاً عن ذلك فإن رغبة الجمهوريين في إلحاق الهزيمة بالديمقراطيين قد تقودهم إلى استخدام كل مناورة ممكنة لعرقلة التصويت وإبطاء الإصلاحات التشريعية[62].

لابد أن تنسحب الولايات المتحدة من العراق وأفغانستان حتى تتمكَّن من توفير 150 مليار دولار سنويًا وتخصيصها لأغراض أخرى والحد من التوترات الناجمة عن الاحتلال العسكري. وسوف يكون لزامًا عليها أن تزيد الضرائب حتى تتمكن من تغطية تكاليف حوافز الإنفاق الجديدة، وبخاصة في مجالات الطاقة المتجددة، وتغير المناخ، والتعليم، وإغاثة الفقراء[63].

في هذه الظروف المالية الصعبة كان مستغربًا أن يبادر أوباما في 28 تشرين الأول/أكتوبر 2009 إلى التوقيع على الميزانية الدفاعية للعام 2010 والتي بلغت 680 مليار دولار (في مقابل 651 مليار العام 2009 و280 مليار العام 2000) على الرغم من أنها لا تشمل تكاليف عديدة ذات علاقة بالحربين القائمتين في أفغانستان والعراق، وهي ليست فحسب الأعلى في تاريخ الولايات المتحدة والعالم، ولكنها كذلك أعلى من مجموع الميزانيات العسكرية لدول العالم مجتمعة[64].والمفارقة أن هذه الميزانية الفلكية لم تلاق الاعتراضات التي لاقاها برنامج الإصلاح الصحي، من جانب الكونغرس والحزب الجمهوري وعدد من النقابات والجماعات الضاغطة والإعلام وغيرهم، على الرغم من أن تكلفته لا تتعدى حتى الإنفاق العسكري الذي يفيض على الميزانية الموضوعة والذي بلغ 296 مليار دولار العام 2008، كما لاحظ الرئيس أوباما[65]. هذا الإنفاق العسكري المتزايد، على الرغم من خطورة الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية يعطي صورة عن كيفية إدارة الاقتصاد الأميركي، وعن قدرة جماعات المصالح الصناعية - العسكرية على الضغط داخل الإدارة الديمقراطية كما كانت عليه في إبان الإدارة الجمهورية السابقة.

هذا الوضع هو نفسه الذي حدا ببول كينيدي إلى وضع نظريته الشهيرة حول انحطاط أو أفول القوى العظمى والتي قام بتطبيقها على الولايات المتحدة التي لم تعد، في رأيه، قادرة على الموازنة ما بين طموحاتها الإمبراطورية وقدراتها العسكرية من جهة ورغبة المواطن الأميركي بالمساهمة في تحمل أعباء مثل هذه الطموحات عبر دفع الضرائب وقدرة الاقتصاد على التحمل من الجهة الأخرى.

 

خاتمة: «رئيس الحرب» يمنح جائزة نوبل للسلام

عندما وصل أوباما إلى البيت الأبيض كانت شعبيته قد وصلت إلى نسبة 88 في الماية في أوروبا (مقارنة بـ 11 في الماية لجورج بوش)، و70 في الماية في بلاده. لكن بعد أقل من عام على ممارسته السلطة تدنَّت هذه الشعبية إلى 49 في الماية بحسب استطلاعات الرأي التي أجراها معهد غالوب و48 في الماية بحسب جامعة كوينيبياك[66] على الرغم من أنها ما تزال قريبة من الثمانين في الماية في أوروبا. أكثر من ذلك فقد خسر حزبه انتخابات حاكمية ولايتي بنسلفانيا وفرجينيا لمصلحة الحزب الجمهوري، وهذا يشكل إنذارًا جديًا له، ناهيك عن الكلام الذي أضحى رائجًا على لسان بعض الصحافيين والسياسيين والمحللين عن «إخفاقه» و»تردده» و»ضعفه» و«خيبة الأمل» وغيره.

لكن الإنصاف يقتضي أن لا ننسى بأن الرجل لما يكمل بعد سنته الأولى في الحكم وقد ورث عن أسلافه كمًّا هائلا من المعضلات في كل المجالات الداخلية والخارجية. وإذا كان من المبكر الحكم على النتائج، إذ لا نتائج تذكر خارج الأقوال والخطابات وإعلانات النوايا، فيمكن على الأقل رصد التوجهات وتعيين الاتجاهات في سلوك الإدارة الأوبامية وما إذا كانت بصدد إحداث قطيعة فعلية مع ممارسات الإدارة السابقة على الأقل.

من المؤكد أن أوباما يريد فعلاً إحداث هذه القطيعة ليس فحسب لأنه يأتي من ثقافة وقناعات فكرية مختلفة ولكن أيضًا لأن الولايات المتحدة أضحت عاجزة بالفعل عن تحمُّل نفقات إخفاقات جديدة تضاف إلى الإخفاقات المتراكمة منذ عقود طويلة. لكن الرئيس الأميركي ليس وحده من يصنع السياسات، فعملية صنع القرار يدخل فيها فاعلون اقتصاديون وسياسيون من كل الأطياف والأنواع ولوبيات الضغط والمصالح والشركات والمخابرات والكونغرس وغيرها. أضف إلى ذلك ان العالم كله ينتظر من الدولة الأعظم ما لا ينتظره من كل القوى الأخرى العظمى منها و«العادية» لا سيما بعد كل هذه الفوضى الدولية التي تسبب بها المحافظون الجدد. المسؤوليات جسيمة والإمكانات ضئيلة ويقتضي ذلك كله الكثير من الحذر والتأني في اتخاذ القرار. من هنا إصرار أوباما دومًا على الإمساك بالعصا من الوسط وتدوير الزوايا، وهذا واضح في كل الملفات المذكورة أعلاه والتي لا تبدو فيها القطيعة مع السياسات السابقة واضحة إلى هذا الحد في الأفعال والقرارات فيأتي الخطاب ليركز كثيرًا على هذه القطيعة وكأنه يعوض عن ضعفها ورخاوتها. على سبيل المثال، هناك استمرارية في الموضوعين الأفغاني والعراقي (تعزيزات عسكرية ووعد بالانسحاب) وحيال كوريا الشمالية (ضغوط دبلوماسية ومفاوضات) وسوريا، وفي العلاقة مع الحلفاء ومع الصين وأميركا اللاتينية واليابان.

في الملف البيئي هناك قطيعة واضحة فالرئيس بوش لم يكن يؤمن أصلاً بكل مقولات العلماء المتعلقة بالاحتباس المناخي والانبعاثات الغازية، كذا في مسألة الضمان الصحي للأميركيين الفقراء. بالنسبة إلى غوانتانامو وحقوق السجناء والتعذيب وغيره هناك أيضًا قطيعة لكن الكونغرس والاستخبارات نجحا في الحيلولة دون اندفاعة الرئيس المفرطة في هذا المجال فجاء الحل وسطًا. أما في الملف الإيراني فيبدو أوباما وكأنه يتسوَّل مساعدة الآخرين للضغط على إيران التي يبدو عاجزًا عن إجبارها على الانصياع أو التعاون فيضطر إلى الحوار طورًا مع التلويح بالعقوبات وتكرار الكلام على أن كل الخيارات ممكنة كما كان عليه بوش تمامًا. يبقى الملف الأكثر تعقيدا، وهو التسوية السلمية في الشرق الأوسط، فإذا كان ثمة فرق جوهري بين بوش وأوباما يكمن في إرادة هذا الأخير وسعيه إلى إيجاد تسوية سلمية نهائية له بعد طول إهمال، فإن السنة الأولى من حكمه تبيِّن إلى أي مدى يبدو عاجزًا عن استثمار أوراقه في وجه زعيم الليكود المدعوم من «إيباك» التي ألقى أمامها أوباما ذات مرة خلال حملته الانتخابية خطابًا بدا فيه أكثر صهيونية من زعماء هذه المنظمة نفسها.

ربما من أجل إعطائه جرعة من التشجيع والمعنويات منحت نوبل جائزة السلام للرئيس الأميركي الذي يبدو حائرًا مترددًا بين مثاليته والواقعية السياسية، بين العالم كما هو وكما يود أن يكون.

وكان خبر منح الرئيس الأميركي جائزة نوبل للسلام في 9 تشرين الأول/أكتوبر الماضي قد أثار ردود فعل منقسمة بين رافضين ومؤيدين له. ليش فاليسا، الحائز الجائزة نفسها العام 1983، اعتبر أن اللجنة تسرَّعت كثيرًا، فالرئيس أوباما لم تمضِ على ممارسته لمهامه أكثر من تسعة أشهر ألقى خلالها بالخطب وتقدم بالوعود لكنه لم يتمكن إلى اليوم من تحويل الخطب إلى أفعال وإنجازات. هل يمكن مكافأة كاتب على رواية لم يكتبها بعد؟[67]. كثيرون اعتبروا أن خيار اللجنة «مبكر إلى درجة تثير السخرية» بل أنه يحمل المخاطر للرئيس الذي وإن تكلَّم كثيرًا إلاَّ أنه لم ينجز شيئًا بعد. جهوده في الشرق الأوسط لم تثمر عن شيء يذكر أمام تعنُّت نتنياهو، وفي وجه المشروع النووي الإيراني لم يتحقق شيء يذكر، كذلك في مسألة الحريات وحقوق الإنسان التي ما يزال يعتدى عليها في غير مكان من العالم. ويُعاب على الرئيس الأميركي محاباته للكثير من الأنظمة الدكتاتورية بذريعة الحوار والتفاوض معها.

لقد برَّرت اللجنة المانحة خيارها بـ «فضل جهود أوباما الجبارة لتدعيم الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب (...). إنه من النادر جدًا أن ينجح شخص في الاستحواذ على اهتمام العالم أجمع معطيًا شعبه الأمل بعالم أفضل». لقد تجرَّأ على الاعتراف بأخطاء بلاده، وعلى مد اليد لأعدائها،من إيران إلى فنزويلا مرورًا بروسيا وكوريا الشمالية وكوبا وسوريا، فنال إعجاب الشعوب وقضاة أوسلو الذين بتكريمهم إياه يعاقبون في الوقت نفسه سياسات الرئيس السابق بوش. ويقول رئيس اللجنة النروجية جاكلاند إن القضاة لفتهم انتزاع أوباما لقرار من مجلس الأمن الدولي حول عالم خالٍ من الأسلحة النووية، وموقفه الواضح من الاحتباس المناخي ومن حقوق الإنسان[68].

من الناحية الرمزية والسياسية وصلت الجائزة في وقت كان يستعد فيه أوباما لعقد الاجتماع الخامس للجنة الحرب على أفغانستان،من هنا قوله في خطابه المقتضب وقتها لدى الإعلان عن منحه الجائزة: «إنني القائد الأعلى لجيش يقود حربين متزامنتين ضد أعداء لدودين في العراق وأفغانستان. وبأن «علينا أن نواجه العالم كما هو»[69]، وليس كما ينبغي أن يكون. إنها الواقعية السياسية التي تطغى أحيانًا على المثالية.

على الأرجح كي لا تطغى هذه الواقعية السياسية بشكل نهائي على مثالية الرئيس الشاب سارعت لجنة نوبل لمنحه الجائزة. فبعد أقل من سنة على تسلمه منصبه تنتصب عقبات كأداء في طريق الرئيس الحالم بعالم أفضل عبر إعادة تعريف كاملة للسياسة الخارجية ولحدود القوة العسكرية ولموقع القيم الغربية في العالم. الجمهوريون يترصَّدون له وقد نجحوا في تأليب جزء من الرأي العام عليه فانخفضت شعبيته بشكل سريع يحد من قوته في الداخل الأميركي. أما في الخارج فسياسة اليد الممدودة للخصوم لم يترجمها إنجاز ملموس يذكر إلى الآن وربما يجد الرجل نفسه مضطرًا إلى سلوك طريق الواقعية السياسية. لذلك فاللجنة تحاول تدعيم سلطته المعنوية في لحظة يبدو وكأن ضعفًا ما قد حل بها إزاء الحقائق الدولية. فالرئيس الأميركي لا يلقى الدعم المطلوب من نظرائه في الخارج وقد بدأ يعاني الوحدة ويحتاج إلى دفعة معنوية كبيرة عن طريق المجتمع المدني الدولي الذي تعبر عنه جائزة نوبل خير تعبير.

لكنها لمفارقة أن يذهب أوباما لتلقي جائزة نوبل للسلام، في 10/12/2009، فيلقي خطابا عبارة عن مرافعة حقيقية لصالح الحرب بشكل عام والحروب الأميركية «الأخلاقية والعادلة» بشكل خاص، ويطرح فكرة عقيمة قديمة حول «الحرب العادلة» والتي طالما استخدمها الغزاة عبر التاريخ لتبرير حروبهم. فقد وردت كلمة حرب أربعًا وأربعين مرة في خطابه في حين أن كلمة سلام لم ترد سوى ثمان وعشرين مرة على الرغم من أن الجائزة تمنح باسم السلام ولأجله. لم يقدم أوباما الوعد بالعمل على إنهاء الحروب بل كرَّر التذكير بأنه رئيس أمة تخوض حربين في الوقت نفسه. وقد ذهب لتسلم الجائزة غداة قراره إرسال ثلاثين ألف جندي إضافي إلى أفغانستان. وفي اللحظة التي كان يلقي فيها خطابه في أوسلو كانت طائرة أميركية من دون طيار تقوم بهجوم «روتيني» يومي قرب الحدود الأفغانية جنوب وزيرستان أدى إلى مصرع ستة باكستانيين وجرح ثمانية[70].

تمنح الجائزة دعمًا لا شك فيه للرئيس الأميركي لكنها في الوقت نفسه تزيد من الضغوط عليه ومن المسؤوليات. لقد انضم إلى لائحة عظماء حصلوا على جائزة نوبل للسلام لكنها لائحة تضم أيضًا، وللأسف، زعماء أمثال بيغن الذي اجتاح لبنان وارتكب مجازر فيه مثل صبرا وشاتيلا وشمعون بيريز الذي ارتكب مجزرة قانا في لبنان نفسه.

لن يكون أوباما كذلك على الأرجح لكن ما باله صار يتكلَّم كثيرًا عن الواقعية والحروب الضرورية والطبيعة الإنسانية بعد أقل من عام على وصوله إلى السلطة؟.

 

[1]-     Farid Zakaria, “The Post American World”, W. W. New York, 2008

 

[2]-    من اجل شرح مفصل للازمة المالية التي انطلقت من قطاع الرهونات العقارية أنظر:

        Jacques Attali, “La crise,et après?”,ed. Fayard, Paris 2008

[3]-     Patrick Artus/Marie-Paule Virard, «Est-il trop tard pour sauver l’Amérique?»,

        ed. la découverte, Paris 2009, p. 8

[4]-     David M. Walker, “Transforming government to meet the demands of the 21 th century”,

        Comptroller General of the United States, United States Government Accountability Office,

        August 7, 2007, in ibid. p. 11.

[5]-     Ibid.

 

[6]-    جميل مطر، «تصويت عالمي لأميركا مختلفة... لا لاوباما»، الحياة 3/11/2008.

 

[7]-    المرجع نفسه.

 

[8]-    جهاد الخازن، «عيون وآذان»، الحياة، 21/5/2006.

 

[9]-     Paul Kennedy, “The rise and fall of the great powers: economic change and military conflict from 1500 to 2000”, New York, 1989.

 

[10]-    David Calleo, “Beyond American hegemony”, Basic Book, New York, 1987.

 

[11]-    Michel Crozier, “Le mal américain”, ed. Fayard, Paris 1980, p. p. 10-11>

 

[12]-    Edward N. Luttuac, in Commentary,March 1992 (traduit par la Revue des deux mondes,

        Juillet-Août,1992).

[13]-    Emmanuel Todd, “Après l’empire”,éd. Gallimard, Paris, Août 2002.

 

[14]-    Marisole Touraine, “Le bouleversement du monde”, éd. Seuil, Paris 1995, p. 318.

 

[15]-    Ibid. p. 319.

 

[16]-    Wallace Peterson, “The silent depression”, Challenge, July 1991.

 

[17]-    Ph. Braillard et M. R. Djalili, “Les Etats-unis et leur role dans le monde,le temps des incertitudes”, Studia Diplomatica, n2, 1993.

 

[18]-    Francoise Burgess, “Lles lobbies contre la santé », le Monde Diplomatique, manière de voir, n. 31, Aout 1996, p. p. 64-66.

 

[19]-    Ibid. p. 54.

 

[20]-    Ibid. p. 56.

 

[21]-    Cf. Edward Behr, “Une Amerique qui fait peur”,éd. plon, Paris 1995.

 

[22]-    F. Norman Birnbaum, “Où va l’Amérique?», Le Monde Diplomatique, nov. 1992,. Michael Piore, «beyond individualism,how social demand of the new identity groups callange american political and economic life», Harvard university press, Cambridge, 1995.

 

[23]-    The Hearald Tribune, March 14,1994.

 

[24]-    Samuel Huntington, “Who Are We? The challenges to America’s National Identity”,

        Simon and Schuster, New York 2004

[25]-   الصحافة العالمية في 21/3/2008

 

[26]-    Le Nouvel Observateur, “Obama a-t-il tenu sa promesse de changement?”, 6/11/2009

 

[27]-   أنظر خطابه في الصحف الأميركية الصادرة في 10/9/2009

 

[28]-    Le Nouvel Observateur, “Obama a-t-il tenu sa promesse de changement?”, Op. Cit.

 

[29]-   على سبيل المثال لاالحصر مظاهرة البنسلفانيا افنيو في واشنطن في 12 ايلول/سبتمبر 2009

 

[30]-   النهار، 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2009

 

[31]-   خليل العناني، «الصراع بين أوباما والاستخبارات الأميركية»، الحياة، 23 أيلول/سبتمبر 2009

 

[32]-   المرجع نفسه.

 

[33]-   المرجع نفسه.

 

[34]-   المرجع نفسه.

 

[35]-    Le Monde, 25/11/2009 (avec AFP,Reuters…).

 

[36]-    Francois Durpaire, le Nouvel Observateur,6/11/2009.

 

[37]-    Cf Christine Okrent, “Le président des Etats-Unis”, éd. Dalloz, Paris 2008, p. 31.

 

[38]-    John Meacham, “The Great American Ideological Crackup”, News Week, Oct 24,2009.

 

[39]-    Ibid.

 

[40]-    New York Times, Nov. 14/2009.

 

[41]-    Le Figaro, “Obama investit la scène asiatique”, 13/11/2009

 

[42]-    Ibid.

 

[43]-    Entretien avec Henry Kissinger, le Figaro,16/10/2009

 

[44]-    Ibid.

 

[45]-   السفير 5/3/2009

 

[46]-    Cf l’entretien sus-cité avec le Figaro

 

[47]-    Le Figaro, 4/12/2009, “Russie et Etats-Unis buttent sur le désarmement”.

 

[48]-    Le Nouvel Observateur, 6/11/2009.

 

[49]-    Ibid.

 

[50]-    Ghassan El Ezzi, “Le difficile dossier iranien d’Obama”, Ouest-France, 16 avril 2009.

 

[51]-    Le Nouvel Observateur, 6/11/2009

 

[52]-    Ibid.

 

[53]-    The Washington Post, dec 2,2009.

 

[54]-    A. F. P., Reuters, 3/12/2009.

 

[55]-   سميح صعب، «نصيحة جنرال سوفياتي»، النهار، السبت في 5/12/2009

 

[56]-    Le Nouvel Observateur, 6/11/2009.

 

[57]-    Robert Kegan, “The Return of History and the End of Dreams”, Alfred A. Knopf, New York, 2008

 

[58]-    National Intelligence Council (NIC), “Global Trends 2025”, November 2008.

 

[59]-    Michael T. Klare, “Le declin précipité de l’hégémonie américaine”, www. michelcollon. infi,

jeudi 5/11/2009 15:14

 

[60]-    Ibid.

 

[61]-   22/11/2009 جيفري دو ساش، «أوباما مقيدًا»، جريدة الخليج الإماراتية.

 

[62]-   المرجع نفسه.

 

[63]-   المرجع نفسه.

 

[64]-    Sara Flounders, “Le budget du Pentagone: le plus élévé de tous les temps et en augmentation constante”, www. michelcollon. info, lundi 16/11/2009 13:01.

 

[65]-    Cf. www. whitehouse. gov, 28/10/2009.

 

[66]-    Le Monde 21/11/2009, “La cote de popularité de Barak Obama sous les 50%”.

 

[67]-    Le Monde 10/10/2009.

 

[68]-    Ibid.

 

[69]-    Ibid.

 

[70]-   انظر السفير والنهار في 11/12/2009

 

One year of the Obama Administration lifespan has passed: what were the challenges facing this administration on the national and international scenes


Barak Hussein Obama entered the White House in a very crucial moment of US history when the American citizens began raising doubts about the efficiency of their economic and political system. The responsibilities of his office makes it incumbent on him to solve the problems which the Bush Administration encountered and in particular the collapse of the new administration.
The emergence of the financial crisis shattered the whole international economy and accordingly it became difficult to foresee the return to stability and normal management of the financial markets despite all the measures taken by the administration. Therefore, the Americans chose Obama in hope for a radical solution to the crisis and to overcome this crisis with the aim of boosting the economy.
It became evident one way or the other that the World has voted for Obama and more precisely to the United States of America.
Yet, after the euphoria of victory, the question which arises tackles Obama’s ability to bring the changes he had promised to achieve during his electoral campaign.

Un an déjà dans l’ administration Obama:
Les défis sur les deux scènes intérieure et internationale


Barak Hussein Obama est arrivé à la Maison Blanche à un moment crucial de l’histoire américaine, au moment où les Américains ont commencé à douter de l’efficacite de leur système économique, politique. La responsabilité lui incombe de résoudre les problèmes rencontrés par l’administration Bush, en particulier l’arrêt de l’effondrement de la nouvelle administration.
L’émergence de la crise financière a bouleversé l’économie mondiale dans son ensemble, il était difficile alors de prévoir un retour à un fonctionnement normal et à la stabilité sur les marchés financiers, en dépit de toutes les mesures prises par l’administration. Les Américains ont alors choisi Obama, espérant trouver une solution radicale à la crise et la surmonter afin de relancer l’économie.
Il est devenu clair d’une façon ou d’une autre que le «monde» a voté pour Obama, et plus précisément au profit des États-Unis..
Mais après l’euphorie de la victoire, la question qui se pose est sur l’aptitude d’Obama à apporter des changements qu’il a promis de réaliser pendant sa campagne électorale.