قصة قصيرة

عبدو الأبيض
إعداد: العميد الركن المتقاعد إميل منذر

- لماذا تراني أقصّ عليكم حكايته؟ أقصّها لتبقى وغيرها حيّة في ذاكرة الأجيال في هذا الجبل بعدما حفرها الأجداد على ضفّة كلّ جدول يجري في وادٍ، وحجارة كلّ طريق تنحدر إلى كرم وبستان، وجذع كل سنديانة عتيقة ما زالت تشهد على أنهم كانوا هنا. أما صاحبنا عبده فكتب حكايته على جدران المقبرة، وها أنا أنقلها بأمانة على الورق.

- ليس الأبيض اسم عائلته، لكن لقبًا له. وهذا اللقب بقيتُ أجهل سببه حتى أخبرتني جدّتي يومًا به. يومذاك قلتُ لها وأنا ممسك بذراعها أُعينها على تسلّق بضع درجات تفصل مدخل بيتي عن الطريق: «أبقاكِ الله بهمّتك. ما زلتِ صلبة كشجرة الزيتون، وليل شعرك لا يضيئه سوى القليل من الشعرات البيض فيما عبدو، الذي يصغركِ بكثير، قد اشتعل رأسه كلّه بالشيب.

- مسكين، قالت. إنّ له حكاية تُضحك الثكلى فوق نعش وحيدها.

- ماذا قلتِ؟! أنّى لكِ هذا التعبير!! أتسمحين لي باستعارته لأستخدمه إذا احتاجه قلمي؟

- أمجّانًا تريده؟! سألتْ وضحكت.

- ما تريدين ثمنًا له؟

- أن تقصّ عليّ آخر حكاية كتبتَها كلمة كلمة وحرفًا حرفًا؛ فأنت لا تخبرني عمّا تكتب إلا بالمفيد المختصَر.

- آه يا جدّتي!! هل تغيّر الزمن فصار الحفيد يحكي لجدّته بدلًا من أن تحكي هي له؟!

- أبناء هذا الجيل لا وقت لديهم لسماع قصص جدّاتهم. التكنولوجيا سرقتهم منهنّ. بل سرقتهم من أنفسهم؛ فأصبحوا مُلكًا لها يخدمونها ويطيعونها.

- هذا صحيح مع الأسف... والآن هلاّ قصصتِ عليّ حكاية عبده التي تُضحك الثكلى فوق نعش وحيدها.

- وهذه، أيضًا، أريد ثمنها، قالت وضحكت.

- ألا تعطين شيئًا مجّانًا!!

- ما يأخذه الناس مجّانًا يضيّعونه سريعًا لأنهم لم يتعبوا في الحصول عليه.

- ما تريدين كثمن هذه المرّة؟

- أن تكتب القصّة ليقرأها الذين استغنوا عن خدمات جدّاتهم، ويحفظها الناس جيلًا بعد جيل؛ فيعرفوا أننا، في هذا الجبل، رحلنا تاركين حكايات طالما أضحكتنا و... أبكتنا. هكذا قالت ومسحت دمعتين في عينيها.

- إني أعدكِ بكتابتها.

- إذًا إليك الحكاية: كان يا ما كان منذ قديم الزمان، شابّ في أوائل العقد الثالث من العمر، اسمه عبده، طيّب القلب، لكن خفيف العقل، يخاف حتى ظلّه، كما يقولون.

- حدّثني جارنا «أسعد» يومًا، قال: جاءني عبده ذات ليلة، وكان عندي سمعان ورامح توفيق. قال رامح: يا عبده، الناس تقول إنك جبان؛ فهل أنت كذلك حقًّا؟

- مَن يقول هذا!! سأل ووقف: «أما زالوا لا يصدّقون أنني واجهتُ الوحشَ أعزلَ في طريق عودتي وأبي من بستان الوادي إلى الضيعة!!».

- مَن الذي كان أعزل، أأنت أم الوحش؟ سأل سمعان واجتهد في كتم ضحكه.

- أنا، أجاب ضاربًا صدره بكفّه. لم يكن معي سوى عصا السنديان أتوكّأ عليها.

- أنا لم أسمع بهذه الحكاية قَطّ، قال رامح.

- اسمعها إذًا: كانت ظلمة الدُغْشة قد بدأت تحجب معالم الطبيعة عندما لاحتْ لنا، على قيد بضع عشرة خطوة منّا، عينان جامدتان تضيئان كسراجَين. كان الوحش يحدّق فينا يريد الانقضاض علينا. فما كان مني إلاّ أن انتهرتُه بصوت دوّى في أرجاء الوادي دويّ الرعد، وهجمتُ عليه شاهرًا عصاي، وإذا به يولّي الأدبار هاربًا.

- وتابعت جدّتي حكايتها، قالت: ساعتئذٍ قال أسعد: يا عبده، أمتأكّد أنت من أنه كان وحشًا؟ على الأرجح كان ثعلبًا صغيرًا، ولشدّة خوفك خِلْتَ أنه وحش.

- عيب هذا الكلام. أوتعتقدون أنني لا أميّز الوحش من الثعلب!! برحمة عظام جدّي زخّور كان وحشًا، وعلى الأرجح ذئبًا جائعًا.

- كبّرْ عقلك، قال سمعان. هل في وادينا ذئاب بعد يا رجُل!!

- لنفترضْ أنه كان ذئبًا، فلا تنسَ أنّ أباك كان إلى جانبك، قال رامح. والله لو كنتَ وحدك، لأكلك.

- على أيّ حال، هذه الحكاية لا شاهد عليها، قال سمعان. إذا كنت تريد أن يكفّ الناس عن وصفك بالجبان، فعليك أن تقوم بعمل مشهود يثبت شجاعتك.

- مثل ماذا؟

- لا أعرف. هذا شأنك.

- إسمعْ، قال أسعد. لديّ فكرة.

- لا تصعّب الأمر عليه، قال سمعان. عبدو رفيق طفولتنا، وعلينا كلّنا مساعدته.

- بالتأكيد. والله كلّما قال لي أحدهم: «انتبهْ يا أسعد، صُحبة الجبان تعدي»، كأنما خنجر مسموم نزل في صدري.

- بالطبع تعدي، قال رامح. أما سمعتَ قول الشاعر:

يُعدي الجبانُ أخا البسالةِ مثلما    تُعدي الصحيحةَ صُحبةُ الجرباءِ.

- وتابع أسعد: أمستعدّ أنت يا عبده للقيام بعمل سهل تبرئ به نفسك من تهمة الجبن؟

- مستعدّ.

- حسنًا. ثمّة بين المقابر واحدة لم يُدفن فيها أحد بعد. يعني أنْ لا أرواح موتى تقيم فيها.

- أرواح موتى!! تمتم عبدو كمَن يحدّث نفسه، وقد أصبح قلبه بين قدمَيه.

- تأخذ هذا الوتد (ودلّه عليه)، وعندما ينتصف الليل، تذهب وتدقّه في وسط أرض المقبرة. أسمعت؟ في الوسط، لا عند الباب. وعند الفجر أذهب وسمعان ورامحًا لمعاينته، ثم نشيع بين الناس أنّ عبده دخل المقبرة ليلًا وحده من غير خوف، فهلاّ كففتم عن نعته بالجبن.

- لقد سهّلتَ الأمر عليه كثيرًا، قال رامح.

- أما قلتما إنّ عبدو رفيق طفولتنا، وواجب علينا مساعدته!!

- أما من طريقة أخرى تساعدونني بها؟ سأل عبده وفي صوته نغمة ترجٍّ.

- ممَّ أنت خائف؟! سأل أسعد. المقبرة خالية.

- الأرواح تدور حولها لا فيها، قال رامح، وملكَ نفسه عن الضحك.

- وكيف أتجنّبها فلا أصطدم بها؟ سأل عبده.

- هي تتجنّبك إذا أظهرتَ لها أنك غير خائف.

- أخذ عبده الوتد، ومضى إلى بيته يجرّ قدمَيه كمحكوم يسير إلى حبل المشنقة. ثم راح يكلّم نفسه: «أنا جبان. هكذا خلقني الله. ليقُلِ الناس فيَّ ما شاؤوا. أليست كلمة «جبان» أفضل من عبارة «رحمه الله»!!

- عندما دنا من عين الماء وسمع الخرير، تسلّق جدار البستان المجاور، وعبرَ بين الأشجار رافعًا سرواله العربيّ الطويل بيده كي لا تعلق به أغصان الشوك. ولمّا أصبحت العين خلفه، هبط وتابع طريقه.

- انتصف الليل من غير أن يكون قد غمض له جفن. وأنّى لأجفانه أن تغمض!! فحمل الوتد بأصابع تكاد لا تطاوعه، ومشى يتلفّتُ يمنة ويسرة بعينين مذعورتين. ولمّا اقترب، أصبح بإمكانه أن يسمع ضربات قلبه بين أضلع صدره. وقف في مكانه. أطفأ سراجه مخافة أن تراه الأرواح. لكنه سرعان ما ندم؛ فالأرواح ما عاد بوسعها أن تراه لتتجنّبه. التقط حجرًا وضعه في جيبه، ثم آخرَ أبقاه جاهزًا في يده. فكّر في العودة كثيرًا. لكنه سلّم أمره لله، وولج الباب المفتوح، وجلس الأربعاء، وسارع إلى دقّ الوتد بالحجر الكبير. وإذ همَّ بالنهوض، شعر بقوّة تشدّ بسرواله إلى أسفل؛ فصرخ بصوت مزّق سكون الليل: «اتركوني». وجمع كلّ قوّته، ونهض، ولاذ بالفرار إلى البيت يسابق الريح.

- عندما انبلج الفجر طرق عبده باب أسعد، وأخبره بأنه فعلَها بالرغم من أنّ المقبرة لم تكن خالية. ثمّة روح شدّ به إلى تحت. لكنه تملّص منه بشجاعة.

- ولكن ما حلّ بك هناك!!! سأل أسعد وهو ينظر إلى شعر عبده بعجب.

- ما بي شيء. لماذا تنظر إليّ هكذا!!

- شعرك... لقد ابيضّ نصفه يا رجُل. هكذا قال، واقتاد صديقه إلى الداخل؛ فلمّا وقف الأخير قبالة المرآة، هاله أن يرى إزاء كلّ شعرة سوداء أختًا لها بيضاء.

- وتابعت جدّتي تقول: قبل أن تشرق الشمس ذهب أسعد ورامح وسمعان، يرافقهم عبدو، لمعاينة الوتد في المقبرة.

- أليس هذا حذاءك يا عبدو؟! سأل أسعد.

- في الحقيقة نعم، أجاب والتقط الحذاء، ووضعه تحت إبطه؛ فنظروا إليه مرتابين.

دخلوا الواحد تلو الآخر. وكم ضحكوا عندما رأوا بعضًا من سروال عبدو ما زال عالقًا هناك بالوتد. من خوفه دقّ صاحبهم الوتد في سرواله. ولم ترتفع شمس ذلك النهار في كبد السماء إلا والضيعة كلّها تتندّر بحكاية عبده.

- انقضت أيّام وعبدو لا يخرج من بيته لئلاّ تلتقي عيناه عيني أحد من الناس. كذلك تجنّب الشبّان الثلاثة أبا عبدو لأنه أقسم على قتلهم إذا صادفهم. وإذ شعر عبدو بأنه يكاد يختنق داخل جدران البيت، خرج وقصد أسعد. ومَن يقصد غيره! فهو الصديق الوحيد الذي يحبّه ولو قتله. وكان هناك رامح وسمعان هذه المرّة أيضًا. قال أسعد: يا عبده، عليك أن تغسل العار الذي لحق بك.

- كيف السبيل إلى ذلك؟! أنهار الأرض كلّها لم تعد تكفي لغسل عاري.

- ليست الأنهار ما يغسل العار، لكن العمل الشجاع، علّق أسعد.

- علينا أن نفكّر معًا في طريقة، قال سمعان. أنت صديقنا ولن نتخلّى عنك في محنتك.

- خطرتْ فكرة ببالي، قال رامح.

- صحيح!! هتف صديقاه معًا، وفتحا أعينهما جيّدًا.

- وهنا توقّفت جدّتي عن «الكلام المباح»: «لقد تعبت. أسرد لك الباقي غدًا».

- لم يطلع الصباح يا «شهرزاد» بعد. أكملي الآن، وإلا تركتك وحدكِ وذهبت.

- لا تستطيع.

- لماذا!!

- لأنّ بكَ شوقًا لمعرفة نهاية القصّة، قالت وضحكت.

- أصبتِ والله. أكملي أرجوكِ.

- حسنًا. كان عبدو، كما رأيت، يؤمن بوجود الأرواح، شأنه في ذلك شأن كلّ أهل الضيعة. إلا أن هذه الأرواح هي، في إيمان صاحبنا، مؤذية. لذلك كان يخافها. وأكثر ما كان يخافه، المرور ليلًا بقرب عيون المياه لأنه سمع أن الجنّ يجتمعون حولها كلّما خيّم الظلام... أتؤمن أنت بوجود الجنّ؟

- أجل.

- وتعتقد أنهم يتدخّلون في حياة البشر؟

- لا. وأنتِ؟

- لا أدري. الناس تقول إنّ عبدو لمسه جنيّ إذ كان بعدُ صغيرًا. لذلك ذهب بعض عقله. لكنّ الناس تتكلّم كثيرًا. وأكثر كلامها لا أساس له من الصحّة... قديمًا مرضتْ شهيدة بنت فرحان مرضًا أقعدها زمنًا. كانت في العاشرة من عمرها. وإذ راحت تذبل كزهرة عطشى، قال أهل القرية إنّ غجريّة سحرتها لأنها، أي الغجرية، دقّتْ باب أبويها يومًا ولم تُعطَ شيئًا... مسكينة أمّها. نذرت ألف نذر، وجاءت بمَن رقى لابنتها ألف رُقْية. لكن كلّ ذلك لم ينفعها. لم تُشفَ إلا على يد طبيب فرنساوي في بيروت حملها أبوها إليه.

- أتعرفين يا جدّتي؟ لو كنتِ تحسنين القراءة والكتابة لكنتِ أعظم كاتبة قصّة في الأرض.

- لماذا؟

- لماذا!! لأنّ حكاياتكِ تشبه العُلَب الصينية: كلّما فتحنا علبة وجدنا في داخلها أخرى.

- أليست هكذا حكايات ألف ليلة وليلة؟! لتكون كاتب قصّة ناجحًا عليك ألا تغفل عنصر التشويق.

- حاضر. سأعمل بنصيحتك. لكن، بالله عليكِ، أخبريني ما الذي خطر ببال صاحبنا رامح لمساعدة عبده.

- حسنًا، قالت وضحكت. قال رامح: اسمعْ يا صديقي. يوم غرستَ الوتد في أرض المقبرة لم يرك أو يسمعك أحد. نحن مَن أخبر الناس بذلك. بعضهم صدّق وبعضهم لم يصدّق. لذلك عليك أن تقوم بعمل على مرأى منهم ومسمع.

- كرامتي بين أيديكم. أرجوكم أن تخلّصوني من مذلّتي، قال عبده.

- كرامتنا من كرامتك لأننا أصدقاؤك، قال سمعان.

- كلّ ما تطلبونه والله لأفعلنّه. قولوا اذهبْ ائتنا برأس ضبع من الوادي، ذهبت. لكن أبعدوني عن اثنين: الجنّ والمقابر.

- أين الضباع!! حتى بنات آوى تكاد أن تنقرض، قال أسعد.

- بالأمس دخلتَ المقبرة ولم تتشبّث بك أرواح الموتى، قال رامح. لقد تجنّبتك. بأيّ وسيلة عليك أن تمحو من أذهان الناس فكرة أنك تخاف المقابر. لذلك، وعند منتصف الليل، تقصد المقابر من جديد، وتقف عند باب المقبرة العمومية، وتصرخ ثلاثًا بصوت عالٍ يسمعه سكّان البيوت المجاورة: «قوموا يا موتى، قوموا». بالتأكيد لا ميت سيقوم. هو أنت مَن سيقوم من مستنقع العار الذي غطستَ بالأمس فيه. عليك أن تثبت شجاعتك بعمل يشهد عليه الجميع.

- كما ترون يا أصدقائي. أنتم تعرفون صالحي أكثر مني.

- غادر عبدو يتنازعه شعوران: خوف من أن يلبّي الموتى نداءه فيقوموا، وأمل في أن يتمكّن من محو وصمة العار عن جبينه. لكنه عندما بلغ باب المقبرة خانته قواه، وأحسّ بجفاف في حلقه. نظر حوله، وإذ رأى وميض القناديل عبر زجاج نوافذ البيوت القريبة، تشجّع وصرخ بأعلى صوته: «قوموا يا موتى، قوموا». وبعد النداء الثالث ظهر ثلاثة أشباح بأكفان بيض وصرخوا: «لقد قمنا، لقد قمنا»، وأحاطوا بعبدو يريدونه: «تعال معنا، أنت منّا». فما كان من صاحبنا إلا أن صرخ بصوت عظيم: «موتوا، موتوا. أنا لست منكم». لحظتذاك كشف الثلاثة عن وجوههم يقهقهون: «لا تخف. نحن أسعد وسمعان ورامح». لكنّ عبدو لم يصدّق، وربّما لم يسمع لشدّة هلعه؛ فأخذوه بيديه وهو ما زال يصرخ: «اتركوني»، وأجلسوه أرضًا، وراحوا يهدّئونه خائفين أن يصيبه مكروه أو يفقد النصف الباقي من عقله. إلا أنّ عبدو، في تلك اللحظات، لم يفقد سوى ما كان قد بقي له من شعر أسود. ومنذ ذلك الحين غلب عليه لقب عبدو الأبيض.

- وأردفت جدّتي تقول: مسكين عبده. في اليوم التالي جاء إلى أسعد؛ فدعا الأخير صديقيه الآخرين؛ وضحكوا كثيرًا، وكان عبده يضحك معهم، لا بسبب ما جرى له ولا بسبب النوادر التي كان يلقيها صحبه، لكن لأنهم كانوا يضحكون. إلا أنّ عبده، منذ تلك الحادثة، تغيّر: لم يعد يخاف المقابر ليلًا، لأنه اكتشف أن أرواح الموتى لا تحرسها. لكن بقي يخشى المرور بقرب غدران الماء بعد مغيب الشمس.

- ما أكملت جدّتي حكايتها حتى لاح عبدو قادمًا. ناديناه فعرّج وجلس. وعندما سألتُه إن كان ما يقال في سبب ابيضاض شعره صحيحًا، ابتسم من خجل، وهزّ رأسه أنْ نعم، وطأطأ. أجل، ربما كان السُذَّج يخافون، لكنهم قلّما يكذبون.