في ذاكرة الأجيال

عبد الجليل وهبي

شاعر قابع في ذاكرة الماضي الجميل كلماته سكنت الآذان وردّدتها الألحان


كان الفتى يحرّك منذ صغره إبرة المذياع, ينتقل من محطة إذاعية الى أخرى ولا يلبث أن يعود الى دار الإذاعة اللبنانية ومن ثم إذاعة لبنان. كانت إذاعة لبنان الصوت الوطني الوحيد الذي يبث الأنغام والألحان التي يرددها الأهل والجيران, ويسمعونها في الأعراس والمناسبات. كان الفتى يهزأ من أصوات الكورال التي ترافـق المطرب, ولا يزال يحتفظ بأسمـاء قديمـة مثل زكية حمدان, وفؤاد زيدان, وصابر الصّفح, إضافة الى الدائم وديع الصافي, وصباح, وطبعاً فيروز والرحابنـة. كان يحفظ بعض الأغاني, وكان يلفته قبل تقديـم الأغنيـة أنها من كلمات فلان أو فلان. وكانت أغاني وديع وصباح والكثيرين من نظم عبد الجليل وهبي. بقي الإسـم راسخاً في ذهن الفتى لأنه كان يتكـرر عند تقديم معظـم الأغاني؛ لم يعرف من هو عبد الجليل وهبي سوى أنه قابع في ذاكرة الماضي الجميل أيام كانت الأغنية أغنية, وكان معدّو الأغاني يحترمون الذوق العام, والتراث الشعبي.
كانت أغنية “جينا وجينا وجينا, جبنا العروس وجينا” تسمع في حفلات الزفاف في الصيف في القرية والجوار, وعلم الفتى أنها تنشد في كل الأعراس اللبنانية وظن أنها تراث كالدلعونة... وطالما أحب أغنية “بالساحة التقينا بالساحة, عليها جوز عيون شو دباحة”؛ وبقي في ذهن الفتى الكثير من ذوق الماضي الذي كان كافياً لينفره من الأغاني الكيميائية الجديدة التي سرعان ما تسقط من الذاكرة والتداول. علم قيمة الكلمة وأهميتها في استدرار اللحن, وأدرك أخيراً وبعد طويل من الزمن أهمية شعراء الأغنية, ومنهم عبد الجليل وهبي الذي بقي في الذاكرة محاطاً بغموض ناتج عن بعض جهل, وبعض عدم اكتراث, وكثير من سيطرة الروتين وهيمنة المتطلبات اليومية.
ذات يوم سمع بعبد الجليل وهبي, وكان ظن أنه رحل, إلا أنه تأكد أنه ما زال حياً يرزق, فهمّ على وجه السرعة لمقابلته علّه يستعيد في ذلك جزءاً جميلاً من الحياة كاد يضيع مع الزمن. سارع الى تحضير الموعد مع صاحبيه اللذين ما زالا يحتفظان, خلافاً لما هو شائع, بجميل الماضي, ويحاولان جاهدين إسباغه على أدب الحاضر بمشقة واضحة وبنجاح قليل قليل.
باهتمام غريب ونادر في الثقافة السائدة, توجه الثلاثة الى منزل عبد الجليل وهبي؛ ها هو الشاعر يجلس في ركن داره. خاب الأمل من استعادة الماضي, فعبد الجليل في مرحلة الغروب, وتلك الشمس التي سطعت طويلاً رآها صاحبنا وهي تغرب, ورأى أن معها يغرب الأمل في استعادة الجمال القديم. حاور عبد الجليل من دون نتيجة. طرح عليه الاسئلة. لم يبدِ عبد الجليل الاهتمام المنتظر, وكان الفتى يسمع الأجوبة من صاحبيه انقاذاً للموقف, مما أثار دهشة ابنة عبد الجليل القادمة بعد رحلة عمر طويلة من الشمال الأوروبي, وحفيدين ينظران الى كتاب توثيق أصفر اللون لعائلة توزعت في كل الأصقاع. وإذا بعبد الجليل جامعة عربية, بل شرق أوسطية بلغة التطبيع, من حاروف في جبل عامل الى بيروت ووادي أبو جميل, الى نازحي فلسطين, الى غرانب المغرب. أولاده وأحفاده يتوزعون, وهو لا يزال يردد بعض الشعر الجميل. الإهمال الذي ساد انعكس عليه. تنظر الى الجدار فترى شهادات تقدير فرنسية لشاعر شعبي لبناني, فتسأل نفسك: أين هي تقديرات الوطن في حمأة كراكوزات التكريم المتكررة؟
ويجلس عبد الجليل سلطاناً شارداً على الكنبة والكل في حيرة. في الغروب تعطيك الشمس أجمل المناظر. وغروب عبد الجليل حرّك الخيال وأشعله وأطلقه باتجاه الماضي. لكنه لم يعط الحرارة المطلوبة ولا السطوع المرجو.
بين ابنة ذات وفاء نادر, وحفيدين تنبض على نظرتيهما مشاعر محبة من دون آلية تنفيذ أو إظهار, يستمر عبد الجليل على كنبته, يعيش غروبه, ولست أدري إن كان قد علم من أتى لزيارته بهذه اللهفة وهذا الاهتمام, ولماذا, وعلام يبحث هؤلاء الزائرون. ما أصعب الزيارة لحظة الغروب!

م. ت.

شاعر لبناني يعود نسب عائلته الى بلدة حاروف في الجنوب. ولد في حلب سنة 1921 بعد أخوين لم تكتب لهما الحياة, فألبسه أهله جلد خروف تيمناً بمقولة شعبية, ومضوا به الى أحد رجال الدين طالبين تلاوة الصلاة فوق رأسه تبركاً, لعل الله يكتب له العمر مديداً وسيعاً.
عاد الأهل الى لبنان وانضم الولد عبد الجليل الى تلامذة مدرسة حوض الولاية بعد فترة قصيرة أمضاها في تلقي دروس أولية لدى شيخ مجاور لمسكنه. حصته من الدراسة في حوض الولاية كانت شهادة البكالوريا, ومرحلة دراسية متقدمة في تلك الأيام, تدل دلالة واضحة على اهتمام الأهل بولدهم, كما تدل على ذكاء الولد أيضاً وعلى رغبته في العلم والتحصيل.
غلب الطابع الأدبي على الفتى, خصوصاً وأنه كانت للكلمة آنذاك مكانة وقيمة. مال الى الشعر الشعبي يقرضه في كل مناسبة, ويعبر بواسطته عن مكنوناته الوجدانية والعاطفية, وقد اختار المنبري منه نظراً لما تميزت به شخصيته الناشئة من ثقة ووضوح وحب للتحدي. وهكذا وقف عبد الجليل وهبي فوق المنابر وهو بعد في السادسة عشرة من عمره, وراح يتدرج في نشاطه الشعري من مرحلة الى مرحلة, الى أن التقى الأسعدين, سابا والسبعلي, فأسس معهما ما عرف آنذاك بـ”عصبة الشعر”, وقد أغنى الثلاثة المستمعين والمتابعين بمباريات زجلية مشوقة.
وكانت لعبد الجليل لاحقاً لقاءات شعرية مختلفة مع شعراء الزجل في لبنان: علي الحاج القماطي, محمد مصطفى, زين شعيب, موسى زغيب... وكان يمتاز بأنه شاعر ارتجالي لا يلجأ الى التحضير بل يطلق “رداته” عفوية صادحة من دون تكلف أو حساب.
لكن الحدث الأبرز في حياته الشعرية كان التحاقه سنة 1953 بالإذاعة اللبنانية, في السراي الحكومي, وكان من أقطابها آنذاك ميشال خياط وحليم الرومي اللذين طلبا إليه التخلي عن الشعر المنبري ذي القافية الواحدة والنغم المتواصل والمعاني المتداخلة, والانتساب الى نادي القصيدة القصيرة المختصرة المتماسكة, منوعة القوافي, واضحة الصورة, محكمة الربط, والتي تستمر في النطق باللهجة اللبنانية مع التوفيق الواضح بين المحلية والاقليمية, بحيث يميل إليها الجميع: من المواطن والمقيم, الى المستمع العربي في كل مكان, كل ذلك للمساهمة في ترسيخ الأغنية اللبنانية التي حمل لواءها قبل سنوات قليلة من تلك الفترة الملحن المعروف نقولا المنّي, فوقفت جميلة محبوبة الى جانب أختها الأغنية المصرية التي كانت تملأ الأسماع في كل مكان, ويميل إليها كل مطرب محترف, أو فنان ناشئ, أو مستمع هاو... عمل الشاعر النشيط بالنصيحة, وكرّت سبحة أغنياته لتكون على لسان كل مطرب من حليم الرومي الى وديع الصافي الى صباح الى سعاد محمد الى نور الهدى الى زكية حمدان الى نجاح سلام الى وداد الى نصري شمس الدين الى سامي الصيداوي الى مصطفى كريدية الى محمد غازي الى سميرة توفيق الى نجيب السراج الى صباح فخري الى مها الجابري الى فهد بلان, وصولاً الى وردة ونجاة الصغيرة وفائزة أحمد, والى عبد الغني السيد وعبد العزيز محمود وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش.
سنة 1961 انتخب عبد الجليل وهبي أول رئيس لجمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى في لبنان, نظراً لما كان يتمتع به من مكانة أدبية ومن صداقات فنية.
وفي العام ذاته منح الوسام الذهـبي العالمي ­ فخـر فرنسا لغزارة انتاجه وشهرة أغانيه التي كانت قد بلغت 5000 أغنية ( وقد تجاوزت هذا العدد بكثير بعد ذلك, كما تم منحه راتباً مدى الحياة يستمر بعده لأولاده لمدة 50 سنة).
سنة 1978 منح وسام الشرف من جمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى في العالم. وفي العام 1998 منح وسام شرف آخر من الجمعية, واعتبر عضواً نهائياً فيها.
تعددت حالات زواجه. محاولته الأولى حصلت في السابعة عشرة من عمره. إحدى زوجاته كانت الفنانة وداد. يتوزع أولاده وأحفاده في كل مكان من العالم. وهو ميّال عن الجمال, لا يتورع عن ملاحقته في كل الظروف.
غادر لبنان منذ حوالى ثلاثين سنة الى الخليج العربي حتى ظنّ الكثيرون أنه قد رحل من الدنيا. عاد منذ فترة قصيرة فكانت مفاجأة للمهتمين المتابعين, ولم يكن شيء بالمقابل لراكبي أمواج هذا العصر اللّعين.

 

من كلماته المغناة :
● وديع الصافي: عاللومة (وكانت عنوان شهرته الأولى) ­- جنات عامد النظر - يا غايبين -­ ويلي لو يدرون ­- يا بو الغرة.
● صباح: منقولك حاكينا -­ عالعصفورية ­- إشاعة-­ يا طالعين عالجبل -­ جاري أنا جاري (من ألحان عبد الوهاب).
● نور الهدى: بحبك يا ولفي بحبك.
● نصـري شمس الديـن: بحاكـيلي الشـرق -­ أحلى من عيونك يا ست ­- قالولي جافيها.
● نجـاح سـلام: وديله سلامي -­ الزلغـوطـة -­ أنقـر يا دف (اسكتـش مع محـمد سلمـان).
● وداد: يا الله ينام ابني.
● سميرة توفيق: يا بدوية ­- يا هلا بالضيف ­- يا بو العيون حلوين.
● فهد بلان: تحت التفاحة -­ مرحب هلا -­ يا قاتل يا مقتول.
● وردة: سهرانة إيدي على خدي.
● فايزة أحمد: بنتي قمورة.
● عبد الغني السيد: يا حبيبي الله يخليك (من ألحان عبد الوهاب).
● عبد العزيز محمود: لو نحسب للحب حساب.
● عبد الحليم حافظ: الهوى هواي (المطلع فقط).
● فريد الأطرش: اشتقتلك -­ ثلاثين يا حبيبي -­ يا مدلع يا حلو-  شعبنا يوم الفدا - يا بلادي يا بلادي.


قصيدة الحمار

أكثر ما يتمنى محبو عبد الجليل وهبي أن يسمعهم حين يصفو باله, وتستقر ذاكرته, قصيدة الحمار:

يا مرفل الدينين يا رفيق العذاب              جبار طيب عنصرك بين الدواب

يا ما عا ضهرك خيلوا ملوك وعبيد            وزقوا عليك حجار وسكوتك جواب

أيوب يا ما هتّكت فيك العدا                   من الصبر غيرك ما رضي يورّت حدا

جلدك على الكرباج فتّح وانعقر                والمكاري عليك قلبه من حجر

هل ما بيحمل ضربته تور البقر                 بالمسلّة بينعرك عند الطلوع

ومن دون رحمة بيلكشك بين الضلوع         شبعان ومفكفك حزامه عالشبع

                          ومن كفر قلبه تاركك شبعان جوع                        

من ساعة اللي خلقت جبلك هالجلال          الـفوق خرج واسع شراريب طوال

ومن كتر ما أكلت من جريك الدروب            ضمرت حتى صرت عا قد الغزال

بيحقروك الناس بكلمة حمار                     أوسع من التحقير دينيك الكبار

يا اللي سكوتك من صفات الفيلسوف        يا كتاب حكمة لا مداد ولا حروف

يا موقّف التفكير عا باب القدر                  ومصاحب الإنسان ومراعي الظروف

صابر على مر الأذى صبر الكريم                 والاتزان الـ فيك من طبع الحكيم

ومين اللي بيجهل ثورتك عند اللزوم          لبطتك ما بيوقف عليها حكيم

لو صاءبت شي يوم وقطعت العليق          وركابك من الضعف لكّوا عالطريق

بينقطع قلب المكاري عليك                     وبالمحسّة بيبرم حواليك

ومش عن محبة وعاطفة بيحس فيك         بيفكر بمصلحته قبل كل الكاينات

                             وبيخاف ما يلاقي مكاري يشتريك           

 

مجلة الجيش