- En
- Fr
- عربي
وجوه وحكايات
من أجل الكتابة عن مكان ما، يجب أن تكون مأخوذًا به، أو عرفته مسبقًا، أو أقلّه، قد قرأت عنه. فمن هذا الافتتان، أو من الرؤية متحوّلة بعد حين إلى ذاكرة وكلمات، أو من المعلومات متصوّرة في المتخيّل، تقودنا الكتابة بالاستهلال الدافئ، مشدودًا ليس إلى المكان نفسه فحسب، بل إلى الفضاء الخاص بسريرته.
أمّا أن تأخذك الأخبار المؤلمة إلى «بيتٍ كان» وتحوّل حطامًا، أو إلى ركام كان لوقت قصير مضى «بيتًا»، وإعادة بنائه بالخيال، فالكتابة حينها سوف تكون مشروعًا يضمر ألمًا كبيرًا.
تلك هي المشاعر التي لفّتني حين باشرت الكتابة عن الفنان الراحل عبد الحميد بعلبكي، وعن بيته في العديسة، إحدى بلدات جبل عامل في جنوب لبنان، التي أرادها العدوّ أرضًا بلا ذاكرة، إذ حوّل عدوانه السماء إلى ضرع صواريخ يدرّ بلا انقطاع، وخزّان نار لا تخمد حممه، ودمّر في ما دمره صرحًا فنيًا ثقافيًا، وكأنما الجمال سلاح في وجه العدو!
سيرة فنان وريشة
عبد الحميد بعلبكي، رسّام ونحّات وشاعر وأديب من عائلة فنية بامتياز، شغوفة بنظم الشعر العربي، تلقّى علومه في الأربعينيات في بلدته العديسة، ثم في النبطية. في ستينيات القرن الماضي بدأ بنشر أشعاره في مجلة «الآداب» وهو في سن التاسعة عشرة من العمر، وكان يوقّعها باسم «مختار عبد الباقي». بدأ بكتابة قصائده الأولى متأثّرًا بقصيدة التفعيلة، فيما بعد تغيّر إيقاع شعره، وأصدر أربعة دواوين شعرية، وترجم «رباعيات الخيام». في العام 1967 انتسب إلى معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، حيث حصل على شهادة الدبلوم، نال على أثرها منحة لمتابعة الدراسات العليا في جامعة Beaux-Arts في باريس لمدّة ثلاث سنوات، وهناك تخصّص في فنّ الجداريات، وتأثّر بشكل خاص بإغراءات الفنانين المكسيكيين في هذا المجال، أمثال ريڤييرا وأوزوكو وسيكيروس الذين غطّت جداريّاتهم قاعات المعارض، ثم عاد إلى لبنان ليتفرّغ للتدريس في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية بدءًا من العام 1975.
بين الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حين كانت الهجرة من الريف إلى المدينة سمة من سمات أهل الجنوب، زادت من وتيرتها عمليات القصف الإسرائيلي المتتالية، سكن عبد الحميد بعلبكي في منطقة الشياح من ضواحي بيروت، حيث كان يحظى بموضوعات ملهمة لا حصر لها لرسوماته، متأثّرًا بأسلوب شقيقه الكبير عبد المجيد بعلبكي الذي له الفضل في اكتشاف موهبته. نمت علاقة حميمة بين عبد الحميد بعلبكي وبين منطقة إقامته، ينقل معانيها، يراقب وجوه الناس فيها، يلتصق بعالمهم، يتأمّل عميقًا في يومياتهم، ينظر إلى قضاياهم الاجتماعية بدقّةٍ، ما جعل من كل هذه العناصر مشاهد بانورامية تظهر في رسوماته، وتشكّل التفاصيل المشغولة فيها بدقّة، ليس حياة المنطقة فقط، إنما أيضًا حياته الفنيّة المرتبطة بها.
«أرسم عالم المدينة الذي هو قدرنا من الآن فصاعدًا. كان التصوّر السائد أن المدينة هي عالم الأغنياء فقط، إلا أن المناطق الشعبية داخل المدينة وفي ضواحيها، هي عالمي الذي أتناول منه هذه المواضيع وأنا مرتاح، لأن تناولها والإصرار عليها لم يكونا مألوفين في الفنّ اللبناني من قبل».
الحالة الموصوفة أعلاه واضحة جدًّا في مجموعة لوحات ماجت بها ريشته الطريّة، في صياغة فنية مبتكرة للواقع، كمثل لوحة «الحيّ»، في مشهديتها الآسرة، وفي لوحة «المقهى» المثقلة بالتلميحات السياسية، إذ إنها تضمّ عددًا من الشخصيات السياسية المعروفة في ذلك الحين، الجالسة في مقهى وهي تدخن النارجيلة، في تنوّع مشهدي يعكس الاحتفالية المشهدية والمناخ اللذين كانت تعجّ بهما المقاهي الشعبية في بيروت وضواحيها. وفي لوحات «في غياب سيّدة البيت» و«الإسكافي العجوز» و«حارة أبو سعيد»، زمن السكينة والطمأنينة الذي يرمز إليه أشخاص في بيوتهم أو ذاهبون إلى عملهم. ولعل أهمها لوحة «المرحوم» التي تعود إلى العام 1974، وهي عبارة عن بورتريه جنائزية ذات مناخ شعبي، تستحضر إلى الأذهان السلوك الاجتماعي الذي كان يقضي بتعليق صور الراحلين على الجدران. المفارقة أن المناسبة الحزينة السوداء، منفّذة بأسلوب فكاهي. تلك الإنجازات الجمالية، نجحت في بناء الصلة بالناس، ولاقت قبولًا من المتلقّين.
الواقع والخيال
شكّلت الحرب التي اندلعت في لبنان سنة 1975 مادة لأعمال الفنان عبد الحميد بعلبكي، وعكست فضاءً مختلفًا يمتزج الواقع فيه بالخيال. إذ أنجز عقب حرب السنتين 1975 – 1977 جدارية «الحرب»، كوثيقة إدانة لهمجية الحرب، ورفض الاقتتال والعنف، تحفل بعناصر حادة، غامضة، يتقاطع فيها الثابت بالمتحوّل، حتى دعاها بعض الفنانين «غرنيكا». ولم تكن تلك الجدارية الأولى للفنان، إذ لطالما كان مفتونًا بالفن الجداري، معتبرًا أنه يخدم أغراض التوجّه الشعبي، وقد كرّسته جداريّته «عاشوراء» 1971، بتكويناتها الخصبة، كواحد من أبرز فناني الجيل الرابع من الحركة التشكيلية. تلت هاتين الجداريتين جدارية «الحطّاب» 1990، التي تشغل فضاءها غابة من الأشجار الميتة ذات الأغصان المتشابكة والمسنّنة على نحو غرائبي، على أرضية من العشب الأخضر، يجلس عليها الحطّاب متأملًا، تاركًا منجله مغروسًا في أحشاء الشجرة، في دلالة على إيمانه بالبعد الإنساني للأشجار التي تنوء وتتألّم كالبشر، وتنحني وتصاب باليباس وتموت، متّكئًا إلى قول الشاعر بابلو نيرودا «أعلن الآن، أني حطّاب هذا الزمان».
مطلع الثمانينيات تميّزت لوحة «القبضاي» الخارج عن القانون، التي دُعيت أيضًا «أبو الجماجم» الذي يمثّل نموذجًا لشخص استفاد من الحرب من دون أن تكون له قضية، ولوحة «غيفارا 2» التي تمثّل رجلًا ثوريًا محبطًا وحزينًا.
مسارات متعددة
إلى الواقعية في الرسم التي ظل متمسّكًا بها، تعدّدت مسارات بعلبكي، من النحت، إلى فنّ المنمنمات الشرقية، والشعر والترجمة. غير أن الكتابة كانت هاجسه المستمر، يتداخل فيها السرد والأدب الشعبي والتاريخ والفكاهة، ومواقفه من الحرب والعنف في رؤية خاصة للإنسان والعالم. دلالات الزمن متنوعة، إنها تعني التغيير والعبور من حالة إلى حالة تتناغم مع الإيقاع الداخلي للحياة، وهكذا توزّعت اهتمامات بعبلكي بين التدريس وقضايا الفنّ والأدب والشعر، فضلًا عن انشغاله لفترة بإدارة جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت.
تعرّض بيته للقصف في العام 1985، وتعرّضت مكتبته لضرر فادح نتيجة إصابة محترفه الشخصي، إذ نتج عن هذا القصف إتلاف ما يقارب سبعة آلاف كتاب أنفق في جمعها والحصول عليها عشرات الملايين من الليرات على مدى ما يقارب عقدين من الزمن، وفق ما يقول في أحد أحاديثه. وهو يضيف: «لقد اعتبرت دائمًا أن ثروتي الوحيدة في هذا العالم هي الكتاب. فكنت لا أتردّد في دفع أي مبلغ من المال ثمنًا لأي كتاب ذي قيمة. وكنت أعتزم أن أجعل بيتي في العديسة، وهو بناء واسع شبيه إلى حدٍّ ما بالقصر، متحفًا يجمع إلى هذه المكتبة، بكل ما تحويه من نفائس، أعمالي الفنية، ومجموعتي الخاصة من أعمال فنانين آخرين لبنانيين وعالميين، ومقتنياتي الثقافية بوجه العموم».
حكاية بيت، حكاية حلم وعمر…
بعد تحرير الجنوب في العام 2000، عاد بعلبكي إلى بلدته المشتهاة، عديسة التي أبعدته عنها فترات مفصلية منذ العام 1978، والتي كان يستحضرها باستمرار، مدفوعًا بالشوق إلى عناق طبيعتها، ورائحة ترابها، ودفء بيته فيها. ذلك البيت الذي أعدّ تخطيطه وهندسته وأشرف بنفسه على تنفيذه في العام 1983، ليكون بيتًا لا يشبه رغباته فحسب، وليس لراحته فقط، بل بيت يمثّل ملامح بلدته، ويحاكي مجالها الحيوي. ينتمي إلى المكان والإنسان، ويتغذّى فضاؤه بالمتعلقات النفسية والمعنوية المرتبطة بحواس الرؤيا التي ترتبط بدورها مع الذاكرة المستمرة من الماضي إلى الحاضر، وتنفتح بوابته على حديقة مزروعة بأشجار مثمرة وورود.
«شقع» حجارة البيت بتعب السنوات، وأقام مداميكه على كفاح الأيام، وخلق داخله مكتبة تستجيب لحلمه الدائم، وتفصح عن رقيّ ثقافته، تضمّ أكثر من 6000 كتاب من الكتب القيّمة والنادرة، ومجموعة من المخطوطات والمسودات الأصلية لكتّاب وشعراء، كما تضم كتبًا باللغات الروسية والأرمنية والإيطالية، وهي لغات كان يتقنها البعلبكي، ووثائق تاريخية مهمة، وإلى جانبها محترف فنّي فيه عدّة الفنان الخاصة بالرسم والنحت.
إلّا أنّ هذا الصرح الجمالي تعرّض لقصف العدو الإسرائيلي مرّة ثانية في حرب تموز عام 2006، ما تسبّب بتلف جزء كبير من المكتبة. ودخل الجنود إلى غرفه، وحرقوا مجموعات مهمة من الكتب والوثائق التاريخية النادرة، ما دفع البعلبكي حينها إلى إرسال كتاب إلى منظمة اليونسكو، يقترح فيها أن تُنشئ المنظمة في البلدان المعرّضة للحروب والنزاعات العرقية والطائفية ما يسمّى «الحمى العالمي لحفظ وحماية التراث والثقافة من الأعمال الحربية والعدائية، بحماية الأمم المتحدة».
هذا المنعطف لم يحل دون تشبّث بعلبكي بأرضه التي تشكّل جزءًا من نسيج روحه، بل النسغ الملهم الذي يحرّك عالمه الخاص، والذي مكّنه من مواجهة الدمار والحريق، مضاعفًا جهوده لإعادة بناء البيت على الأنقاض بهدف تحويله إلى مزار ثقافي، أو إلى متحف تتجمّع فيه عصارة الفكر الإنساني كتبًا ووثائق ودراسات وأعمالًا فنية، وحيث لريشته أن ترشف ألوانها من صباح بلدته، ولقلمه أن ينشر فضاءاتها صعدًا، ولحديقته أن تضمّ رفاته ليمنح خاتمة سيرته شعرية مؤثّرة على طريقة الشاعر مالك بن يتيم «يقولون لا تبعد وهم يدفنونني… وأين مكان البعد إلّا مكانيًا». وشدّد على أن تُدفن زوجته إلى جانبه، كي يحمل التراب إلى روحه صدى صوتها الذي لم يلبث أن وافاه إلى مثواه، كأنّما ليتّحدا في نهايتهما القصوى.
بيت يدمّره العدو ويحفظه المبدعون
دار الزمن على إيقاع الحرب، السماء غيوم سوداء انكبّت بأحقادها على أرض الجنوب، جلجلة الكابوس زعقت بها وحشيّة فالتة من أي عقال. ففيما ذات اعتداء، كانت الشمس تعلن ولادة يوم جديد من شهر تشرين الأول 2024، كان بيت الفنان عبد الحميد بعلبكي، بيت الفن والتراث والأصالة، قد تحوّل ركامًا، وقد أعمل التفجير فيه، وأزال تاريخًا طويلًا من الدفء والإبداع، كأنّما صعُب على العدو اقتناص جماله.
كان من المهم التحدّث إلى ابن عبد الحميد بعلبكي، الفنان لبنان بعلبكي (قائد الأوركسترا الوطنية الفيلهارمونية)، ففقط من عاش في ذلك البيت يتمتّع بالقدرة على تخطّي الركام ليطلّ على ما كان يشكّله، وشكل الشيء هو صورته المحسوسة، تطفو مع مشاعر الإبن لتأخذ مكان تلك التي اندثرت:
«هناك في عديسة كان لنا بيت خضع بناؤه لمسار طويل، نشأنا على ريشة أبي وهي ترسم قنطرته وقرميده وواجهته، وعلى يديه تخططان وتوجّهان، وعلى عينيه تراقبان التنفيذ بشغفٍ حتى اكتمال الحلم. بيتنا كان ملجأ وتحوّل صرحًا يختزل رؤيته للفن وانتماءه إلى جبل عامل، ومشروع رؤية تنموية للنهوض بالثقافة والفنون. لم يكن والدي ثريًّا، بناه براتبه التقاعدي، وبمدخول أعماله الفنية، كرّس عمله ووقته وتفكيره وثقافته وطاقاته وكل ما يعبّر عنه في سبيله، ووضع في جدرانه بركة قلبه، وعزمه المليء بالشغف. أراده بيتًا لتقاعده بمنزلة منارة، وصمّمه ليكون إرثًا وطنيًا، ليس لعائلته فحسب، بل للجماعة الثقافية وللبنان. لذلك، فالتحسّر على خسارته يشتد بفعل رمزيّته بوصفه أقرب إلى صرح ثقافي. يراودني شيء من الخجل وأنا أتكلّم عن بيتنا، إزاء مشاهد الدمار الهائل في الجنوب، وعدد العائلات التي أُبيدت، والضحايا والجرحى. لكن الصورة التي التُقطت لبيتنا بواسطة الأقمار الصناعية كانت أكبر من قدرتي على الاستيعاب. بداية الأمر رفضت التصديق، وانتابني خليط من مشاعر ممزوجة بالقهر والحزن والانكسار والصمت والاضطراب. صَمْتٌ قام بتكثيف مشاعر الأسى، واضطراب وضعني خارج الزمن، تلاه شرخٌ أصاب مني الروح وأنا أرى النهاية التراجيدية للحلم، وهذا الركام المعطّل للأشياء التي فقدت قيمتها: اللوحات والريشة والألوان والكتب والمقتنيات. يكفي أن أنظر إلى صورة بيتنا الذي كانت لتمدّني الذاكرة بمشاهد لا تنتهي: هنا كان مشغله، تلك المساحة الخصوصية التي تومض في الرسم والنحت والكتابة، وهنا كان يؤرّخ أعمال طلّابه ويحتفظ بكل كلمة جميلة كتبوها. وفي تلك الباحة الكبيرة كان يفتح قلبه لعشّاق الفن ولمتذوقيه وللطلّاب من كلية الفنون الجميلة، وفي تلك الغرفة الدافئة جرت حوارات كثيرة مع الأصدقاء شملت الفن والشعر والسياسة، حتى تسطّرت على الجدران سطور من عبق الفكر والجمال، وهنا المكان الأشد إيلامًا ضريح والديّ، حيث ترقد روحاهما بسكينة. أنا لا أرثي هيكلًا من الإسمنت، بل عمرًا وحياة. ويتآكلني الحزن لهذه النهاية التي لا تليق بفنان قضى العمر وهو يرسم الأمل والطبيعة ويؤرّخ للمسيرة الإنسانيّة»…
قد يقوم بيت آخر مكان البيت الذي فُجِّر، قد يكون أكبر وأجمل، لكنّه لن يثبت في الذاكرة من جديد، ولا رائحته المشتهاة ستستعاد. إلا أن ما سيبعث بيت عبد الحميد بعلبكي من الركام بقوّة، وينقذه من سطوة النسيان، صورة دافئة، سائلة في وجدان أبنائه الفنانين: منذر وسميّة وأسامة ولبنان وسلمان وجمانة ولبنى وربى. صورة تملك القدرة على تعميم الرجاء والعزاء، وتكتسب تجلياتها في مواصلة مسيرته في حقول التشكيل والموسيقى والصحافة.
تمكّنت وحشيّة العدو من تدمير البيت، إلا أن حياة الفنان تستمر في أعماله التي تجدّد حياتها بمنأى عنه.
ثمة سؤال لا بدّ منه: هل ستسعى المؤسسات الثقافية والرسمية إلى إنشاء متحف يحفظ إرث الفنان محمد بعلبكي وغيره من الرموز الإبداعية ويحميها من الضرر والتلف والضياع، ويُفسح أمام الأجيال القادمة مجال التعرّف إليه؟! نأمل ذلك.
معرضأعمال عبد الحميد بعلبكي في متحف سرسق
التناغم بين الطبيعة والإنسان
يكرّم متحف سرسق الفنان عبد الحميد بعلبكي، بإقامة معرض استعادي لأعماله (٢٧ شباط – ٢٨ أيلول – ٢٠٢٥) إحياءً لإرثه، خصوصًا بعد دمار منزله ومحترفه في عديسة وضياع محتوياته.
استمرّ التحضير للمعرض ثلاثة أشهر، وهو يضم 47 لوحة من أعمال منتقاة من مجموعات ومقتنيات خاصة، كما يضم مخطوطات معمارية له، وبعضًا من كتبه الشخصيّة ومحفوظاته، ومنحوتة صنعها لوالده (أُنقذت من محترفه في عديسة). إلى ذلك ثمة فيلم يستعرض شهادات فنيّة في عبد الحميد بعلبكي وعرض إلكتروني لمجموعة صور مختارة من الألبومات الخاصة بالفنان، ومن كاتالوغ المعرض الجماعي السابع عشر للفنون الجميلة الذي نظّمه المجلس الثقافي للبنان الجنوبي في حزيران 1992، في قاعة المعرض التابعة لوزارة السياحة اللبنانية.
في استعادة لزمن فنّي كامل، وللذاكرة في امتلاءاتها والتحوّلات بأبعادها الذاتية والاجتماعية والثقافية، ترصد لوحات عبد الحميد بعلبكي المعروضة في المتحف، مساره منذ بداياته في تسلسل يتناسب مع مراحله الفنيّة في شكل منظّم، مع تحديد المرحلة الزمنية لكل لوحة، وعنوانها. يتناول القسم الأول من المعرض فكرة الانتماء، وتعكس لوحاته ارتباط الفنان العميق بمحيطه من خلال تصويرها الحياة اليومية لسكان بيروت في الثمانينيات والتسعينيات.
وتتابع لوحات عبد الحميد بعلبكي سيرها لتخلق لغة خاصة بها، هي لغة الحياة بكل تلوّناتها. لوحات متينة التأليف تغلب عليها الألوان الداكنة، ولعلّ أبرز المؤثرات التعبيرية التي أكسبت لوحاته بعدًا حادًّا، تتجلّى في جداريّتَي «الحرب» و«مجزرة دير ياسين».
الطبيعة حاضرة بقوّةٍ في سلسلة متناغمة من لوحات الموضوع الواحد، تعكس قدرات الفنان التعبيرية في طريقة تعامله مع ألوان الصخور التي وجد فيها إشارات الثبات والاستقرار والعزلة، ومع الأشجار بجذورها القاتمة، أو تلك المقتلعة منها التي ترمز إلى التهجير والأرض المتنازع عليها.
تخلو معظم اللوحات المعروضة من تموّجات الظلال ولمعات النور، وتتلاءم ألوانها الحادة والجريئة مع القلق الذي رافق الفنان منذ اندلاع الحرب في لبنان، بينما تحقّق فرشاة البعلبكي معادلة النور والشفافيّة في لوحات وجوهه (أوتو بورتريه) وبورتريهات العائلة، ووجوه الناس في المقاهي، أو على الطرقات…
تفصح أعمال عبد الحميد بعلبكي عن العاطفة المتّقدة التي أضرمت اللون في ريشته، ويشير تنفيذها إلى أن الفنّ حالة لا يمكن تأطيرها بمدرسة محدّدة، وأن صياغة موضوع اللوحة يتعدّى مسائل اللون والضوء وتوازنات الخطوط، ليعبّر عن غنائية تقوم على التناغم بين قوّتين، الطبيعة الحيّة والإنسان الحيّ.
هوامش
– عبد الحميد بعلبكي (1940 – 2013)
– غرنيكا (بالإسبانية Grenica) هي لوحة جداريّة للفنان بابلو بيكاسو، من قصف مدينة غرنيكا خلال الحرب الأهلية الإسبانية، وتكمن أهمية اللوحة في كونها تجمع بين المدرستين السريالية والتكعيبية.
– مالك بن تميم، شاعر وفارس من البصرة.
– أطلق اسم الفنان عبد الحميد بعلبكي على أحد شوارع بلدته العديسة، عام 2015.
– أُقيم له معرض استعادي يرافقه كتاب توثيقي، في غاليري صالح بركات في كانون الأول 2017.