ثقافة وفنون

عبد اللطيف شرارة ، فلسفة الحب
إعداد: وفيق غريزي

لبنان الصغير جغرافياً، كبير برجالاته وبمبدعيه، فهو منبع المفكرين والأدباء والشعراء والفنانين في جميع حقول الإبداع. الأديب عبد اللطيف شرارة علم من أعلام لبنان، قدّم للمكتبة العربية الكثير من الكتابات والمؤلفات الأدبية الفكرية والتاريخية والسياسية والترجمات المتنوعة.

 

حياته

ولد الأديب عبد اللطيف شرارة في مدينة بنت جبيل الجنوبية في العام 1919. وتلقى دراسته الأولى في النبطية. ودراسته التكميلية والثانوية في الكلية الإسلامية في بيروت. العام 1934 دخل دار المعلمين، وبعد تخرجه مارس التعليم الإبتدائي والتكميلي في عدد من مدارس لبنان الرسمية.
درس اللغة الإنكليزية دراسة خاصة في الجامعة الأميركية. ثم انتقل إلى دار الكتب الوطنية في بيروت العام 1953. بدأ نشاطه الأدبي شاعراً، ثم ترك الشعر وأخذ يعتني كثيراً بالدراسات والمباحث الإجتماعية والنقد الفلسفي، وقد صدر له ما يزيد عن ستين كتاباً بين تأليف وترجمة.
شارك في عدد كبير من المجلات الأدبية، والمؤتمرات، والحلقات الدراسية.

 

فلسفة الحب

من أهم كتبه «فلسفة الحب عند العرب» وفيه اراؤه حول الحب بكل أبعاده الإجتماعية والنفسية. وهذا الكتاب دراسة علمية وافية، بيّن فيها المؤلف أثر المرأة في مناهج التفكير العربي على مرّ العصور، ويحلّل بطريقة عميقة، مظاهر الحب في مختلف المجتمعات العربية. «وقد حرص على أن يضعنا أمام نماذج وحوادث معبّرة حتى يأخذ في  ما بعد، بتعليلها والإستنتاج منها، معتمداً على ثبت ضخم من المراجع والمصادر العربية، وعلى آراء كبار الفلاسفة الغربيين، الذين بحثوا في قضايا الحب وخفايا المرأة».
لقد عالج شرارة الحب علمياً بما توحيه روح العصر، غير أنه أظهر، أن الحضارة الحقيقية لا تكتمل بمعزل عن العاطفة والوجدان، ودعا الى العمل على بعث الحب الخالص، المتجرّد عن تصلب المادة، في المجتمع العربي الحديث. ويظهر وفق رأيه أن جميع تجارب الحياة، حتى الميتافيزيكية منها، تتصل أوثق الإتصال بالحب. ومثالاً على ذلك تجربة الألم، حيث نجد أن الألم الحقيقي، لا يكون فاعلاً ومؤثراً، إلا إذا كان منبعثاً من صميم حب عظيم. ودليلنا على ذلك الأديب الفرنسي الفريد دو موسيه الذي قال: «الإنسان تلميذ والألم معلّمه»، وهو كان يعرض هذا الكلام في الحديث عن حب معروف هو حبه للكاتبة «جورج صاند. أما التجربة الميتافيزيكية، فأكبر الظن أن فيلسوف مثل أوغست كونت لم يضع فلسفته إلا بعد أن أحب كلوتيلد ديفو، وكذلك الفيلسوف العربي إبن سينا، فقد وضع كتاب «رسالة العشق» لأنه كان يحب نساء عديدات، وتحدث عنهن في أكثر من رسالة وقال: «أريد أن تكون الحياة عريضة اكثر من أن تكون طويلة» ويعني بالعريضة أن يمارس فيها الحب.

 

تربية النشء على الحب

يعتبر عبد اللطيف شرارة ان تربية الجيل الطالع تربية تفعم قلوبهم بالمحبة، تؤدي في الدرجة الأولى الى إبعاد هذا النشء عن مواطن البغض، أي عن العصبيات العنصرية، واللونية، والطائفية، والإقليمية، بالمعنى الذي يسيء إلى الإنسان ككيان. لأننا حسب إعتقاده نجد أن بعض الفلسفات، كالنازية مثلاً، أو الفاشية، او غيرها من الفلسفات الأيديولوجية التي اتجهت بالمواطن نحو بغض الآخرين، ونحو محاربتهم، ونحو العدوان على الآخرين، لا يعرف الحب. فالمقصود باتخاذ الحب أساساً للتربية، هو أن نبعد عن الناشئ، أو عن الإنسان، كل عصبية من العصبيات التي تحمله على العدوان، وعلى إحتقار الآخر، وعلى عدم احترام الذات الإنسانية. أما كيف نبعده عن ذلك، فالطريقة هي أن نجعله يتعاطف مع الآخرين، بحيث يكره الأعمال لا الأشخاص.
يقول شرارة: «إن البغض هو الهوى المقلوب، ويظهر في إلحاق الأذى بالحبيب من قبل المحب، وأغلب الظن ان هذا الموقف يحتاج الى شيء من التوضيح، مثلاً المرأة التي تكره رجلاً تحاول بشتى الأساليب والوسائل أن توقعه في الأذى. هذه المرأة في نظر شرارة في محاولاتها إزاء الرجل الذي تبغضه، إنما هي في واقع الحال تحبه لأنها تهتم به، ولكن إهتمامها به مقلوب يعني يتجه نحو إيذائه لا نحو إصابته بالخير، وكذلك شأن الرجل الذي يبغض امرأة أو شخصاً آخر، وحرصه على أن ينال منه، أو يحط من قدره، فذلك يعني أنه يهتم به.

 

المرأة والفكر

يرى بعض المفكرين المتزمتين أن الأفكار والعقائد والعلوم والنظريات والمبادئ والمذاهب، تبعث جواً يخنق المرأة كروح. وان على المرأة الإبتعاد عن هذه الحقول، لتنتعش روحها. ولكن شرارة يدحض هذه المزاعم، ويعتبر أن هذا الإستنتاج خاطئ، لأن هذا معناه أنه كي تعاشر المرأة معاشرة صحيحة، يجب أن تكون ذا حياة، أي لا يطغى الفكر المجرّد من كل عاطفة، ويسيطر على العلاقة معها. ولكن إن الرجال الجدّيين لا يحظون دائماً بعطف المرأة. فالذين يحظون بعطفها، هم في الدرجة الأولى العسكريون، وفي الدرجة الثانية الشعراء والفنانون، أما باقي الناس مثل رجال الإقتصاد، أو رجال الرياضة البدنية، فقلّما يحظون بعطفها. ويقول شرارة: «المرأة تحتاج إلى أن تكون علاقتها بالرجل علاقة حياة، لا علاقة فكر مجرّد. والفكر المجرّد قلّ أن تهتم المرأة به، لا لأنه فكر، بل لأنه مجرّد، لا يرتبط بذاتها من جهة قريبة أو بعيدة».
والمرأة العربية حسب رأي شرارة كانت تتمتع منذ القدم بمكانة لا تقلّ عن مكانة الرجل في شيء. ويقدم على ذلك مثلين: الأول بلقيس ملكة سبأ، والثاني زنوبيا ملكة تدمر، فبلقيس عاشت في القرن العاشر قبل الميلاد، وزنوبيا عاشت في القرن الثالث قبل المسيح. فالمرأة قديماً كانت عبقرية، وهذا يعني أنهن كن يعبرن عن المجتمع. ويرى شرارة أنه عندما تتقدم امرأة لتسلّم سلطة، أو عندما تتقدم أميرة لأن تهب نفسها لأفضل شاعر، فهذا يعني أن المجتمع يستجيب لمثل هذه الحالات، في حين أنه بعد الإسلام، لم تتقدم إمرأة لتسلّم الحكم، ولا للتصدر في المحافل الأدبية إلا في ما ندر، مثل ولادة بنت المستكفي أو سكينة بنت الحسين.

 

الحب العذري

كان الإنسان العربي يميل إلى الحب العفيف عبر العصور الماضية، بمعنى أن المرأة التي تُبتذل لا تنال  منه أي احترام، وثمة فرق بين الحب العذري والحب العفيف، وحسب اعتقاد شرارة فإن الحب العذري هو ما اقتصر على إمرأة واحدة، أما الحب العفيف فقد يتجاوز المرأة الواحدة، ولكنه يظل في حدود الفضيلة والحشمة.
والإسلام ناصر المرأة من الوجهة القانونية، فلمّا لم يكن لها حقوق واضحة في الجاهلية، فقد جعل لها الحق في أن ترث، وأن تتصرّف بمالها، عندما يكون لها مال خاص، ولكنه جعل الرجال قوّامين على النساء، بعدما كان يمكنهن أن يكنّ قوامات على الرجال.

 

العالم الحديث

يشير عبد اللطيف شرارة في أدبه، إلى أن العالم اليوم خسر الحب لأنه اعتمد على الجنس، ولم يترك للعاطفة أي أثر في حياته النفسية. ويقول: «تجتاز أزمات سبّبها التعلّق بالمادة، أو الإتجاه نحو العلم ومعطياته، ليس إلا، والعلم لن يعطي أكثر مما أعطى في العصر الحديث: الآلة». ولم يبق للناس من الوقت ما يحبّون فيه، لأن الجنس من الناحية العلمية، أي من زاوية العلم يقتل الحب، ولا يقيم وزناً للأخلاق. وتحويل المجتمع نحو المشكلات الجنسية الخالصة، يصرفه عن التضحية ومعاني الفداء.