عرب 1948: إشكاليات الهوية والدور

عرب 1948: إشكاليات الهوية والدور
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية

يقول الكاتب جورج أنطونيوس في مجلة »أراب ويكننغ« : »ان حل المشكلة اليهودية الناشئة عن الاضطهاد الأوروبي، ينبغي إيجاده في مكان آخر غير فلسطين، ذلك أن البلد صغير جداً ولا يستوعب زيادة كبيرة في عدد السكان، وهو تحمل من قبل أكثر من نصيبه العادل. صحيح أن المعاملة التي تعرض لها اليهود في ألمانيا وبلدان أوروبية أخرى تعتبر وصمة عار في جبين القائمين عليها والحضارة الحديثة، ولكن الأجيال القديمة لا تبرئ أي بلد يفشل في تحمل نصيبه العادل من التضحيات الضرورية لتخفيف المعاناة والآلام اليهودية. ووضع العبء الكبير على عرب فلسطين يعتبر تهرباً ذليلاً من واجب يقع على العالم المتحضر كله، وهو أمر مثير للغضب أيضاً، وليس هناك قانون أخلاقي يمكن أن يبرر اضطهاد شعب آخر. وعلاج مشكلة ترحيل اليهود من ألمانيا لا يستقيم من خلال ترحيل شعب آخر عربي من وطنه، وتخليص اليهود من آلامهم، لا يمكن تحقيقه على حساب إلحاق آلام مماثلة بشعب آخر بريء وآمن«.

مشاعر القلق والغضب الصادقة هذه، جنباً إلى جنب مع المبادئ الإنسانية والأخلاقية التي ترافقها، لم تكن حكراً على الكاتب العربي الفلسطيني، انطونيوس، بل شاطره فيها أيضاً قادة فكر وزعماء يهود، شعروا بالمثل أن البحث عن مأوى تجنباً للظلم وعن وسيلة للتعبير الوطني، ما كان ينبغي لها أن تقوم على إنكار ما أصبح يعرف في قاموس الديبلوماسية الحديثة بأنه »الحقوق الشرعية والمشروعة« للفلسطينيين العرب. ومما يقوله الكاتب لورانس ماير في هذا المجال، ان من بين الشعارات المبكرة عند الصهيونية، كان هناك شعار »شعب بلا أرض لأرض بلا شعب« وهو حسب رأيه »شعار سخيف«. ويؤكد أن القليلين جداً من الصهاينة الأوائل، فيما لو وجدوا، قاموا بزيارة إلى فلسطين من قبل احتلالها، وهرتزل نفسه لم يقم بزيارة إلى فلسطين إلا في عام 1898، أي بعد عامين من نشر كتابه »الدولة اليهودية«.([1](

ويروي الزعيم الصهيوني دافيد بن غوريون في السياق نفسه أنه عندما كان معتقلاً من جانب الأتراك بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، حدث أن التقى صديقاً عربياً معه ودار بينهما الحوار التالي الذي يدلل على مشاعر القلق الأولى التي كانت تنتاب العرب في فلسطين من جراء إحساسهم الصادق بالخطر الاستيطاني اليهودي الداهم.

يقول بن غوريون: سألته: ماذا تفعل هنا؟

أجاب: هناك مشاكل بيني وبين الحكومة.

وسألني: وماذا تفعل هنا أنت؟

وأجبت: هناك مشاكل بين الحكومة وبيننا.

وقلت له: إننا هنا سجينان، وهناك أمر من جمال باشا بترحيلنا معاً (اسحق بن تسفي وأنا) من الإمبراطورية التركية »بحيث لا نعود إلى هنا مرة أخرى«. ثم قال لي: »كصديق، فإنني حزين، وكعربي، فإنني سعيد«. وكنت أعرف أن القولين مخلصان. وتحدثنا باللغة التركية، وكانت تلك هي المرة الأولى التي استمعت فيها إلى جواب مخلص من مثقف عربي. وهذا الجواب محفور في قلبي على نحو شديد جداً جدا([2](.

واستكمالاً لهذا المشهد الدرامي ما قبل النكبة الكبرى عام 1948، من المفيد إيراد ما كتبه الملك فيصل بن الشريف حسين، (عندما كان يترأس الوفد العربي إلى مؤتمر باريس للسلام بعد الحرب العالمية الأولى)، إلى فليكس فرنكفورتر، وهو صهيوني مخلص كان مشاركاً أيضاً في المؤتمر في شهر آذار 1919.  يقول فيصل: »نحن نشعر ان العرب واليهود أبناء أعمام من حيث الجنس، ويعانون من عمليات اضطهاد مماثلة على أيدي قوى أقوى منهم، ومن خلال صدفة سعيدة تمكنوا من القيام بالخطوة الأولى نحو تحقيق مثالياتهم الوطنية معاً. ونحن العرب، وعلى الأخص المتعلمون بيننا، ننظر بتعاطف عميق تجاه الحركة الصهيونية. ووفدنا هنا في باريس يعرف جيداً الاقتراحات التي قدمتها المنظمة الصهيونية الى مؤتمر السلام، ونحن نعتبرها معتدلة وصحيحة. وسوف نبذل جهودنا، فيما يتعلق بنا، للمساعدة في تحقيقها. ونحن نتمنى لليهود ترحيباً حاراً«([3]).بطبيعة الحال لم يكن الزعيم الصهيوني فرنكفورتر ولا سواه، يحملون في أنفسهم ونواياهم المبيتة تجاه العرب، المشاعر ذاتها من الصداقة العفوية التي عبر عنها الامير فيصل من طرف واحد، بل أنهم كانوا يدركون تماماً ماذا يريدون من فلسطين وماذا يخططون للفلسطينيين من خطط خبيثة تختزن في داخلها كل تفاصيل الطرد والقتل والالغاء والنفي، في ظل اعتذاريات اسطورية ودينية بالغة التشويه اختصرها المفكر الصهيوني غرشوم شالوم بقوله: »انني اعتقد ان كارثة عظمى ستحدث اذا ما قام الصهيونيون او الحركة الصهيونية باستبدال او طمس معالم الحدود، بين المسار الديني المسيحاني وبين الواقع السياسي - التاريخي«. وهذا ما حصل فعلا من خلال حيثيات  المشروع الاستيطاني الاستعماري الممعن في انتهاك أبسط قوانين العدالة الانسانية والأعراف الدولية التي نشأت على أنقاض مآسي وكوارث الحربين العالميتين. وهو الامر الذي اعترف به وزير الحرب الاسرائيلي الاسبق موشيه ديان حين قال:»امام عيون الفلسطينيين، نستولي على الاراضي والقرى التي عاشوا فيها وعاش فيها اسلافهم 000 نحن جيل من المستعمرين، ومن دون المدفع والخوذة الفولاذية لا نستطيع ان نزرع شجرة او نبني بيتاً«.

في هذا البحث سوف نحاول استكشاف ما حل بالمجتمع الفلسطيني في أعقاب وعد بلفور 1917 ومن ثم تأسيس الكيان الصهيوني عام 1948 على خلفية ما أثبتناه في هذه المقدمة الموجزة من حقائق تتعلق بالمواقف المتناقضة بين العرب واليهود، حيث لم يكن العرب في الاساس يضمرون أي موقف عدائي تجاه اليهود،  بل على العكس كانوا ينظرون اليهم نظرة تسامح ومودة عفوية، نابعة من روح الاسلام والمسيحية المبنية بعمق على الحس الانساني الراقي الذي لايميز بين انسان وأخيه والذي يدعو الى الانصاف والرحمة أياً تكن الظروف والملابسات، في حين كان اليهود عاقدين العزم وبصورة نهائية منذ مؤتمر بازل الصهيوني الأول في سويسرا عام 1897، على احتلال وتملك فلسطين بأكملها من البحر الى النهر، لهم وحدهم دون سواهم، ورفض أي مشروع تصالحي حتى ولو في صيغة »الدولة الثنائية القومية«.

 

المنفيون في أرضهم

بعد ابرام اتفاقيات الهدنة عام 1949 بين اسرائيل وغالبية الدول العربية التي اشتركت في حرب 1948، شكل من يسمون اصطلاحاً بالعرب الاسرائيليين، الذين وصل عددهم الى 150 ألفاً، اي ما نسبته أكثر من 10% من مجموع عامة الفلسطينيين ونحو 15% من سكان ما يسمى دولة اسرائيل. وقد أخذت هذه النسبة بالتناقص مع قدوم الهجرات الجماعية اليهودية، لكنها منذ الستينات عادت تكبر من جديد، لتصل اليوم الى 20% من مجموع السكان العام للدولة([4]). وفي تلك الفترة سكن ثلاثة أرباعهم في قرى الجليل الغربي و»المثلث الصغير«، وهو جزء من الدولة يقع بمحاذاة السهل الساحلي، ثم ضمته اسرائيل بعد اتفاق الهدنة مع الأردن.

لم تجرب هذه القرى الخروج الجماعي إلى المنفى، ولا ذلك التقليص المتطرف الى حد هدم مجموعات سكنية محلية بكاملها كما حصل في حيفا ويافا ومدن وقرى أخرى. وبعد نتائج حرب 1948 المأساوية بقي ضمن حدود سلطة اسرائيل مجتمع عربي مجزأ ومقطع الأوصال شبيه بذلك الموجود في مخيمات اللاجئين التي أحاطت باسرائيل. وتحول سدس الفلسطينيين في اسرائيل الى »لاجئين داخل وطنهم« في هيئة أشخاص وعائلات لم يسمح لهم بالعودة الى أماكن سكنهم. وتم تقطيع أوصال عائلات باكملها على طرفي خطوط الهدنة ماعدا حالات ضئيلة جداَ سمح فيها الاسرائيليون بلمّ شمل عائلات في اتجاه واحد فقط هو الخروج من دون عودة. وقد واصلت السلطات الصهيونية طرد التجمعات العربية بعد انتهاء المعارك ايضاَ. وكان هناك عرب حاولوا استخدام حقوقهم كمواطنين في الدولة وتوجهوا الى المحاكم الاسرائيلية في نضالهم للعودة الى قراهم مثل سكان القريتين المارونيتين أقرت وبرعم، الذين مايزالون حتى اليوم يواصلون نضالهم هذا من دون اية فائدة.

وقد صنفت الوثائق الرسمية الاسرائيلية العرب من مواطني اسرائيل الذين منعوا من العودة الى بيوتهم واراضيهم، (مع انهم بقوا داخل حدود الدولة اثناء المعارك)، بكونهم »حاضرين غائبين«. وهكذا صار بمقدور الدولة الصهيونية نقل اراضيهم، المهجورة قسراً، وتسجيلها بإسمها بموجب قانون املاك الغائبين من العام 1950. ويدل بعض التقديرات على ان الدولة صادرت 40% من اراضي العرب بواسطة هذا القانون (نحو 2مليون دونماً) بعد اعادة توطين العرب من جديد، بعضهم في قرى وبلدات ما يزالون يعتبرون حتى اليوم غرباء فيها، او بواسطة دمج عدة قرى في قرية واحدة من دون تعويضهم بصورة عادلة عن اراضيهم المنهوبة، في حين قامت سلطات الاحتلال بتوطين مهاجرين يهوداً على هذه الاراضي. وبذلك تحقق هدف مزدوج: استغلال البيوت في الاحياء والقرى المهجورة لإسكان اليهود، وفي الوقت نفسه تقليص السكان العرب المقيمين داخل حدود الدولة، الذين اعتبرتهم التصورات المتوارثة منذ ما قبل قيام الدولة بكونهم: »طابوراً خامساً«. علاوة على ذلك، فقد استهدف توطين المهاجرين الجدد ايضاً، وبخاصة في المستوطنات الحدودية، منع عودة او تسلل اللاجئين العرب الى مواقعهم وارزاقهم ما قبل الحرب([5]). وكانت السياسة الأشد ايلاماً في هذا السياق، تقييد حرية الحركة للعرب من مكان الى آخر، من خلال فرض حكم عسكري على معظم المناطق السكنية العربية، وتطبيقه بالقوة وعدم المراعاة.

لقد هدفت المخططات والأطماع الصهيونية دائماً الى الاستيلاء على اكبر قدر ممكن من الارض العربية مع اقل قدر من السكان العرب، تمهيداً لجلب المهاجرين اليهود اليها من مختلف انحاء العالم. وبالتالي فالسياسة الاسرائيلية تجاه العرب الفلسطينيين تحت الاحتلال، تميزت دائماً بالمحاولات المستمرة لطمس الهوية الفلسطينية ومحاربتها بشتى الوسائل. ذلك ان المبررالاساسي للنظام السياسي في الكيان الصهيوني هو ضمان سيطرة العنصر اليهودي، كماً ونوعاً، وبالتالي نزع الهوية العربية عن فلسطين بأكملها.

لقد فتحت سلطات الاحتلال الصهيونية، منذ اول يوم لتأسيس الكيان العبري، أبواب الهجرة أمام اليهود من مختلف أنحاء العالم وسارعت إلى منحهم الجنسية الإسرائيلية، في حين ضيّقت الخناق على السكان العرب الأصليين وطاردتهم في أموالهم واملاكهم وأرزاقهم من اجل اقتلاع اكبر عدد منهم وتشريدهم في بلدان المنفى.

وبالإضافة إلى إغراق البلد بالمهاجرين اليهود، فقد فرضت سلطات الاحتلال على السكان العرب في الأرض المحتلة ضرورة الحصول على الجنسية الإسرائيلية ايضاً، والا اعتبروا غائبين وفقدوا الحق في أملاكهم وحتى في ابسط الخدمات المدنية. وعلى الرغم من فرض الجنسية الإسرائيلية على من تبقى من السكان العرب في فلسطين المحتلة، فان أنظمة الطوارىء والحكم العسكري، حرمتهم عملياً من معظم الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها اليهود في إسرائيل، بحيث اصبح العرب هناك، وفي احسن الحالات، مواطنين من الدرجة الثانية.

وتتذرع السلطات الإسرائيلية دائماً بحجة امن الدولة من اجل التدخل في مختلف الشؤون الحياتية اليومية للسكان العرب، من حرية التنقل والعمل والإقامة والسكن، إلى المناهج التعليمية في المدارس العربية وميزانيات البلديات في القرى العربية وحرية التعبير عن الرأي والتنظيم والعمل السياسي، وذلك في محاولة يائسة وعقيمة لمحو الهوية الوطنية الفلسطينية. وكثيراً ما لجأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى أساليب العنف والتصفيات الجسدية وتدمير المساكن واقتلاع البيارات والمزارع من اجل فرض حالة من الإرهاب والخوف والاستكانة على السكان العرب. وتعتبر المجازر الصهيونية الوحشية التي لا تحصى منذ تأسيس الكيان الغاصب وحتى اليوم المثال الصارخ على ذلك.

 

الواقع الديموغرافي للمجتمع العربي في فلسطين ما بعد 1948

على الرغم من التدفق الكثيف والمنظم للمهاجرين اليهود وتحت رعاية الانتداب البريطاني في فلسطين وعلى مدى عشرات السنين قبل عام 1948، إلا أن التفوق الديموغرافي في فلسطين بقي لصالح الفلسطينيين. واستمرت حالة التفوق كذلك على مستوى الأقضية والألوية، باستثناء منطقة قضاء يافا حيث سجل اليهود تفوقاً على الفلسطينيين بسبب تركيز الاستيطان في منطقة تل أبيب.

لكن الأمور تغيرت بسرعة في عام 1948 بعد قيام الكيان الصهيوني، إذ أصبح اليهود يشكلون أغلبية كبيرة مقابل أقلية فلسطينية، فلقد جرت عملية تغيير واسعة جداً في الخارطة السكانية بسبب عمليات الاقتلاع والقتل والتهجير وازالة القرى من الوجود، التي مارستها العصابات الارهابية الصهيونية (مثل الهاغاناه واتسل وليحي) بحق السكان الاصليين من الفلسطينيين. في المقابل تدفق الى فلسطين آلاف المهاجرين اليهود الوافدين من بلدان مختلفة من ضمنها دول عربية وإسلامية، مارست أنظمتها سياسات ملتبسة اعتمدت تهجير اليهود بصورة قسرية.

في عام 1948 قام الصهاينة باحتلال 13 مدينة فلسطينية من أصل 36 كما احتلوا  507 قرى من أصل 862، ودمروا خمس مدن و418 قرية وطردوا أو قتلوا سكانها بعد أن أزالوها من الوجود([6]). ومع انتهاء الحرب عام 1948 كان اليهود قد استولوا على 79% من مساحة فلسطين في عهد الانتداب، بحيث توجه القسم الأكبر من اللاجئين إلى المناطق التي لم يحتلها الصهاينة من فلسطين، فاستوعبت الضفة الغربية 38% من هؤلاء واستوعب قطاع غزة 20,6%، أي نحو 60 % من اللاجئين انتقلوا إلى مناطق داخل فلسطين في حين أن الباقي انتقل إلى الأردن وسوريا ولبنان.

وبعد ترسيخ الاحتلال الصهيوني لفلسطين وقيام الدولة الصهيونية على القسم الاكبر من أراضيها، عمدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي والمنظمات الصهيونية العالمية إلى اعتماد مختلف الوسائل والأساليب لتحقيق أعلى مستويات الهجرة اليهودية إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة بهدف ترسيخ الأغلبية اليهودية وتعميق جذورها، مقابل الاقلية الفلسطينية التي استمرت بالوجود في أراضي 1948 على الرغم من كل جولات القتل والتنكيل والتهجير المنظمة التي ارتكبت بحقها. وهكذا تقطعت أوصال الشعب الفلسطيني وتشتتت في أربع رياح الأرض، وتم القضاء بالتالي على بنيته القومية والوطنية التي كانت قيد النشوء والتبلور في عهد الانتداب البريطاني بسبب النزوح والطرد الجماعي، وتدمير المعالم والقرى والأسس الداعمة اقتصاديا واجتماعيا بفعل الإرهاب الصهيوني والاستعمار البريطاني.

وهكذا لم يتبقَّ في أراضي فلسطين 1948 اكثر من خمس عدد السكان الأصليين من العرب، مما أدى إلى إحداث تغيرات عميقة في مكانتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية([7](.

لقد قامت إسرائيل بفضل الهجرة اليهودية. وكادت فلسطين العربية ان تمحى من الوجود بسبب نزوح الفلسطينيين. ومع ذلك فالمستقبل الديموغرافي لليهود والفلسطينيين سيتقرر داخل العائلات واستعدادها للإنجاب. ففي إسرائيل تبذل جهود جبارة للوقوف بوجه ظاهرة تراجع الخصوبة بحيث وصل معدل هذه الأخيرة الى 2,8 طفلا في مطلع الثمانينات وهو معدل مرتفع بصورة لافته بالنسبة لشعب يعيش وفق النمط الغربي ومصنف رسميا في صفوف الدول المتطورة. ففي الفترة بين 1975 -1995 تضاعف الناتج المحلي الخام في إسرائيل سبع مرات وبلغ الدخل القومي للفرد 16,690 دولاراً أميركياً في أواخر عام 1996 وهذا يضع إسرائيل في المرتبة الحادية والعشرين بين الدول في هذا المجال([8](.

وفي عام 1996 كان مستوى الخصوبة للمرأة اليهودية 2,85 طفلاً (أي افضل من تركيا وتونس وهما بلدان مسلمان) بتراجع نصف نقطة سنويا. ويرجع هذا الثبات إلى التنوع السكاني اليهودي في إسرائيل، إذ أن ارتفاع نسبة الخصوبة لدى اليهود الشرقيين، وهم نصف عدد اليهود تقريبا (1,14 طفلا سنة 1980 و 3,09 أطفال سنة 1996) يعوض من الضعف النسبي لهذا المعدل لدى اليهود الغربيين (2,1 طفل سنة 1996) ولدى اليهود القادمين من الاتحاد السوفياتي السابق (1,69 طفل). والنزعة الصهيونية الراديكالية في وجهيها الديني والعلماني تشجع على الخصوبة السياسية.([9] (

أما فلسطينيو إسرائيل فقد مروا بمرحلة تدنى فيها بقوة معدل الخصوبة لديهم من اكثر من 9 أطفال في الستينات إلى 4,70 أطفال سنة 1987 وبقيت النسبة مستقرة منذ ذلك الحين، الامر الذي يعزز موقع هذه الأقلية، بسبب ازدياد طبيعي يوازي ثلاثة أضعاف ازدياد الأكثرية اليهودية. وفي الجليل حيث تتركز أغلبية الفلسطينيين في إسرائيل ثمة قول شائع جاء فيه: »إن التفاوض في شأن الحدود يتم من خلال إنجاب الأطفال« بحيث تحولت النساء الفلسطينيات في إسرائيل إلى راسمات للحدود الوطنية، واجبهن الأول هو إنجاب الأولاد بناء على طلب المجموعة التي ينتمين إليها.[10]

وبناء على ما تقدم يبدو انه على الرغم من تعزيز الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفياتي السابق، فان السكان الفلسطينيين يميلون إلى تحقيق الغلبة بعد فترة عشرة أعوام من الآن تقريبا. ومن هنا نفهم إصرار شمعون بيريس على بناء دولتين منفصلتين لكل من العرب واليهود، الامر الذي يسمح للدولة العبرية المحافظة، ولو جزئيا، على جوهر المشروع الصهيوني الذي رسمه الصهيونيون الأوائل، أي دولة خاصة باليهود فقط.

من ناحية اخرى توجد معلومات تعتبر أن عدد الفلسطينيين في حدود 1948 سيلامس ما نسبته نصف عدد سكان إسرائيل عام 2025 (نحو 46%) أما عند حلول الذكرى المئوية الاولى لتأسيس إسرائيل عام 2048 فستغدو نسبة السكان الفلسطينيين العامة 50,5 % وستشهد منطقة النقب، مع سكان فلسطينيين بأعداد أقل لكن مع عمق جغرافي أكبر، نمواً مطرداً للفلسطينيين (39% سنة 2025) علماً بأن هذه النسبة بلغت عام 1997 ما نسبته 24% وكثافة عدد الفلسطينيين في إسرائيل (اكثر من مليون نسمة) ستجعل من تنفيذ ترحيلهم حسبما يطالب به بعض رجال السياسة الشوفينيين المتطرفين مثل ايفي ايتام وليبرمان وزئيفي سابقاً، عملية شبه مستحيلة بسبب اتساع نطاقها.(انظر الجدول ادناه)

 

لجدول رقم (1)

عدد الفلسطينيين في فلسطين المحتلة (اسرائيل) 1948-2000

عدد الفلسطينيين

السنة

154900

1948

180100

1961

324100

1967

388800

1972

565200

1983

619000

1985

728700

1990

908200

1995

931400

1998

1094000

2000

 

المصدر: المكتب المركزي الاسرائيلي للاحصاء، المجموعة الاحصائية لعام 2001

 

الواقع الإنساني في ظل الأبارتهايد والانتفاضة

في عام 1928 كتب اّرثر روبين، اليهودي الألماني الذي أصبح الرئيس الإداري الأول للصندوق الوطني اليهودي، ووكيل شراء الأراضي في فلسطين، والملتزم بعمق تجاه الصهيونية، ما يلي: »أصبح من الواضح مدى صعوبة تحقيق الصهيونية وجعلها متوافقة باستمرار مع مطالب الأخلاقيات العامة. وشعرت بحزن عميق. هل يمكن ان تتحول الصهيونية إلى حركة شوفينية؟ أليست هناك في الحقيقة وسيلة في اسرائيل، لتخصيص مجال نشاط معين لذلك العدد المتزايد من اليهود، من دون اللجوء الى اضطهاد العرب؟ إنني أجد صعوبة خاصة في هذه المنطقة الضيقة من الأرض. ولا ريب في أن ذلك اليوم لن يكون بعيداً، وهو يوم لن يكون فيه المزيد من الأرض غير محتل فحسب، وانما يكون فيه استيطان أي يهودي يقود لا محالة الى تشريد مزارع عربي. ماذا يمكن أن يحدث عندئذ؟«.([11]

وبعد ثماني سنوات كتب روبين: »ولأن هؤلاء المهاجرين، أو الغالبية العظمى منهم على الأقل، بدون أرزاق، فإن الاحتمال الذي لا يمكن استبعاده هو أنهم يمكن أن يستولوا على أرزاق العرب«.(11)

ومع اندلاع الثورة الكبرى عام 1936 كتب روبين ينتقد الأفكار الصهيونية القائلة ان اليهود الوافدين من الغرب سيحملون معهم تحسينات في مستوى معيشة عرب فلسطين ورد على هذه الافتراضات بقوله: هؤلاء الأعضاء ظنوا أن المزايا الاقتصادية والضمانات السياسية يمكن استخدامها في إقناع العرب بقبول الوطن القومي اليهودي. ولم يكن هناك شيء جديد في هذا المفهوم. كان، في الحقيقة، مجرد استمرار لمنهج زائف تجاه العرب، وهو منهج ساد في الحركة الصهيونية منذ البداية . . . وكل المزايا الاقتصادية، وكل الاعتبارات المنطقية، لن تحمل العرب على التخلي عن السيطرة على أرض إسرائيل لصالح اليهود طالما أن العرب يشكلون أغلبية عددية([12](

وفي نظرة حاضرة ومستقبلية إزاء ثورة 1936 التي أعقبت استشهاد الشيخ عز الدين القسام، رسم روبين ما رآه نتيجة حتمية لا مناص منها للاحتلال اليهودي لأرض فلسطين فقال: زمن الطبيعي جداً، ومن الحتمي أيضاً، أن تجد المعارضة العربية للهجرة اليهودية مخرجاً لها من وقت لآخر من خلال انفجارات غاضبة من هذا النوع. وربما قدرنا أن نكون في حالة حرب دائمة مع العرب، وليس هناك بديل آخر غير تكبد خسائر في الارواح. وربما كان الوضع غير مرغوب فيه، ولكن هذه هي الحقيقة. ولو أردنا مواصلة عملنا في أرض اسرائيل، ضد رغبات العرب، فينبغي علينا أن نأخذ مثل هذه الخسائر في الأرواح بعين الاعتبار([13](.

لقد أسفرت حرب عام 1948 عن تشريد الآلاف من الشعب الفلسطيني من أرضهم ووطنهم، وتقسيم الأرض الفلسطينية بين الاحتلال والإلحاق والضم، وتدمير الكيان السياسي والاقتصادي الفلسطيني، وانتقال مسرح النشاط الفلسطيني الرئيسي إلى خارج الأرض الفلسطينية ووقوع اكثر من 150 ألف فلسطيني تحت الاحتلال الصهيوني. وكان واضحاً، منذ البداية، أن السلطات الصهيونية لا ترحب بهذه الأعداد من السكان العرب في المناطق التي احتلتها وسيطرت عليها. فالمخططات والاطماع الصهيونية كانت تهدف دائماً إلى الاستيلاء على الأراضي العربية وتفريغها من سكانها الأصليين، تمهيداً لجلب المهاجرين إليها من مختلف أنحاء العالم. وبالتالي تميزت السياسة الصهيونية بمحاولات طمس الهوية الوطنية الفلسطينية ومحاربتها بشتى الوسائل. وقد تركزت التجمعات السكانية العربية في الجليل شمالي فلسطين حيث يعيش نحو 60% من العرب، وفي منطقة المثلث وسط فلسطين حيث يعيش نحو 30% منهم، أما الباقون فيقيمون في منطقة النقب وبئر السبع في الجنوب.

في هذا السياق يصوّر عضو الكنيست العربي الدكتور عزمي بشارة، وهو الخبير في شؤون عرب 1948، الحالة الكارثية للعرب تحت الاحتلال الصهيوني، بأن »مكانهم هو اللامكان«، أي أنهم على هامش المجتمع الإسرائيلي وعلى هامش العرب، أي على تقاطع هامشين: هامش الأمة العربية وهامش المجتمع الإسرائيلي([14](

ويصف بشارة المرحلة الانتقالية لعرب إسرائيل ما بين عامي 1948و1967 بأنها كانت مرحلة الخوف، إذ كانت العلاقة بين العرب في إسرائيل وسلطة الاحتلال، في الأساس، علاقة مع قوة غاشمة هي السلطة الإسرائيلية المحتلة، بحيث أن أي شيء تعطيه للعرب إنما تعطيهم إياه بمنّة كأنه معروف تسديه لناس مهزومين، وجزء من شعب هو عدو، في حالة حرب مع إسرائيل. وبالتالي فإن كل ما كانت تقدمه من وجهة نظرها إنما يمثل دليلاً على »ديموقراطيتها وتسامحها«. وهذا يعني أنها كانت تريد في مقابل ما تعطيه للعرب من حقوق مدنية واقتصادية ولاء سياسياً. ولذلك، كانت العلاقة الثنائية علاقة خوف لا علاقة مواطن له حقوق ومتأكد من وطنيته، ولا يتعامل مع حقوقه كأنها معروف تسديه دولة غريبة له، في مقابل الولاء السياسي.

العرب في إسرائيل حسب رأي بشاره، كانوا، على الصعيد الانساني، أقلية مهزومة من شعب مهزوم، ولا يستحقون لقب مجتمع لأنهم كانوا أشلاء مجتمع.([15] (

وفي الوقت الذي ازداد وعي عرب إسرائيل لحقوقهم المدنية والانسانية كمواطنين داخل إسرائيل، ازداد أيضاً الوعي الوطني والقومي بسبب مجموعة من العوامل بعد عام 1967. وجرت هاتان العمليتان طوال فترة السبعينات على نحو متواز تقريباً، أي الأسرلة (نسبة إلى إسرائيل) في مقابل الفلسطنة (نسبة إلى فلسطين). وقد حاول عرب إسرائيل الحفاظ على توازن بين هذين الانتماءين المتناقضين عن طريق تبني شعار المساواة داخل إسرائيل والدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، وعلى أساس ان هذا ما يحفظ التوازن بين الانتماءين.

لكن بعد فترة قصيرة،حسب رأي الدكتور بشارة، انهار هذا التوازن بفعل العوامل الداخلية وقوة عوامل الأسرلة، وبفعل العوامل الخارجية:ضعف الحركة القومية العربية ثم انهيارها في حرب الخليج الثانية، وضعف الحركة الوطنية الفلسطينية ثم انهيارها في نهاية الانتفاضة، بالإضافة الى عوامل أخرى أهمها العوامل الداخلية:الاقتصاد الإسرائيلي، وكون العرب في إسرائيل جزءاً منه.

لم تكن سياسة إسرائيل موجهة لإخضاع عرب 1948 بقوة الذراع وحدها، وانما للسيطرة عليهم من خلال بناء هويتهم الإنسانية والوطنية الجماعية بطريقة تكون منقطعة وغير متناسبة مع المجتمع الفلسطيني الأوسع وتطلعاته القومية. وقد وصف ذلك الأمر ايان لوستيك، الباحث في العلوم السياسية، بانه الفصل، على طريقة فرّق تسد، التي أكثرت الدول الإمبريالية استخدامها في مطلع القرن العشرين، والتي تلجأ اليها دول كثيرة اليوم أيضا خدمة لمصالحها.

لم يعرّف عرب 1948 كإسرائيليين(ففي إسرائيل يذكر في بطاقة الهوية اسم الدين وليس القومية أو الأصل الاثني) بالطريقة نفسها التي أمكن لليهود فيها ان يصبحوا إسرائيليين، وليس كفلسطينيين. إلا أن المواطنة الإسرائيلية جمعت اليهود والعرب بالمفهوم المدني، بتمكينها العرب من الحصول على حصة محدودة من »الموارد والعقارات المشتركة« والفوز بشيء من حقوقهم المدنية. لكنهم اضطروا للتخلي عن اية هوية او حق قومي أو اثني لهم او عن فرصة العضوية الكاملة »في المجموع«، أي في الدائرة الإنسانية والاجتماعية المحيطة بهم. وجاء قانون العودة العنصري، ليمنح حق الهجرة والمواطنة لأي يهودي حيثما كان، وحوّل جميع يهود العالم الى مواطنين إسرائيليين محتملين بالقوة، ليعكس مكانة اليهود كأعضاء تلقائيين منتسبين الى الجماعة الاسرائيلية، وكذلك استمرار عمل منظمات لا تعدّ رسمياً جزءاً من الدولة بل تنتمي الى »الشعب اليهودي« او الهستدروت الصهيونية، مثل الوكالة اليهودية وصندوق أراضي إسرائيل، إذ قدمت هاتان المؤسستان الامتيازات والحقوق لليهود فقط.

الى جانب سياسة تقسيم السكان العرب لأقليات اثنية مختلفة، مثل المسلمين والدروز والشركس والمسيحيين والبدو وسواهم، تبنّت السلطات الإسرائيلية توجهاً واضحاً في تعزيز مكانة الحمولة(العشيرة) وتحويلها الى حلقة وصل بينها وبين المجموعة والفرد. ففي الخمسينات والستينات، على سبيل المثال، استخدم الحكم العسكري رؤساء الحمائل كقنوات أساسية لمنح او حرمان الامتيازات الحكومية في مجالات التعليم والخدمات الاجتماعية والبنى التحتية، وبشكل خاص في رخص البناء وتصاريح التنقل من مكان إلى آخر، وكانت هذه المسألة مطبقة بنوع خاص من قبل المباي، وهو الصيغة السابقة لحزب العمل، الذي جند غالبية »الأصوات العربية« لتأييده، وخصوصاً بواسطة أحزاب ظل عربية. وحملت سنة 1963 نموذجاً مثيراً لاستغلال السلطات مسألة التمثيل العربي،عندما تم إفشال مشروع اقتراح لإلغاء الحكم العسكري في الكنيست بصوت واحد، حيث كان اثنان من الأصوات المعارضة من العرب. ولم يكن صدفة بالتالي ان يفقد رؤساء الحمائل ومشايخها الكبار ثقة رجالهم حتى عندما واصلوا تقديم الامتيازات الحيوية لهم.

لقد قدم فلسطينيو 1948 عدداً كبيراً من مشاريع القوانين لضمان حقوقهم المدنية الى الكنيست الإسرائيلي طوال سنوات الاحتلال خاصة في العقدين الماضيين إلا ان هذه القوانين لم تبصر النور واعتبرت ميتة في مهدها. ففي تاريخ 31/3/2000 اقترح عضو الكنيست العربي محمد بركة مشروع قانون أساسي حول مساواة المواطنين العرب بمن سواهم في إسرائيل. وقد ادرج المشروع على جدول أعمال الكنيست لأول مرة في 15/5/2000. وكان بركة قدم مشروعاً شبيهاً لكنه افشل في تشرين أول 1999 بسبب كلمتين وردتا في نصه وهما اعتبار دولة اسرائيل »دولة ديمقراطية متعددة الثقافات« بدلاً من »دولة يهودية متعددة الثقافات«. وفي وقت لاحق حذفت الكلمتان من المشروع ومع ذلك تم رفضه بحجة ان الكنيست ينوي سن قانون أساسي بشان »كرامة الإنسان وحريته«([16]) بحيث يشمل مبدأ المساواة، الا ان مثل هذا القانون لم يصدر على الإطلاق.

ولم يمضِ يومان على رفض الكنيست مشروع محمد بركة حتى بادر النائب عزمي بشارة الى اقتراح قانون أساسي جديد ينص على الاعتراف بالأقلية العربية داخل إسرائيل كأقلية قومية وان يسمح لها بإدارة شؤونها الثقافية من قبيل حكم ذاتي ثقافي الا ان القانون أهمل ولم يدرج على جدول الأعمال ايضاً.

وهكذا، ينطبق على عرب إسرائيل، توصيف انهم رعايا لا حقوق لهم باستثناء حق التصويت في الانتخابات فقط، وهو أمر استغلته إسرائيل إعلامياً على أوسع مجال للترويج لديمقراطيتها العنصرية لدى الرأي العام الغربي، مثلما تم استغلاله أيضا تكتيكياً بين أحزاب اليمين واليسار على حد سواء. وهكذا نما شعور لدى عرب إسرائيل بأنهم يعيشون في وطنهم ولكن ليس في دولتهم،فالدولة ترفض دمجهم فيها والقيادات الفلسطينية لم تعالج وضعهم، وهنا بدأ التفتيش عن إيجاد هوية لهم يتوازن فيها الانتماء القومي والمواطنة على أرض الوطن المحتل والتعامل مع دولة لا تريدهم ولا يريدونها. ومن هذا المنطلق انفجرت انتفاضة عرب إسرائيل في تشرين الأول 2000 تضامناً مع إخوانهم في الضفة الغربية وغزة، مما أفضى إلى مواجهات دامية مع السلطات الصهيونية ذهب ضحيتها 13 شاباً وأثبت لهؤلاء ما هو معروف لديهم، وهو أنهم ليسوا أكثر من رعايا وليسوا مواطنين، حتى لو حملوا الهوية الإسرائيلية، وحتى لو كانت الحكومة التي تحكمهم هي حكومة حزب العمل برئاسة ايهود باراك زعيم اليسار. وقد كتبت صحيفة هآرتس في افتتاحيتها ليوم 28/11/2000 أنه »يوجد لدى الكثير من اليهود احساس بأنه من الواجب معاقبة العرب في إسرائيل لأنهم تجرأوا على أن يثوروا ضد حكومة إسرائيل«. ومن دواعي السخرية أن باراك بعد هذه الكارثة وقع في ورطة الإنتخابات التي وضعته وجهاً لوجه مع آرييل شارون، فأحس بضرورة الاستغاثة بالصوت العربي، وطلب من أهالي الشهداء الثلاثة عشر أن يسمحوا له بزيارتهم بمناسبة عيد الفطر، فرفض طلبه وحجبت الأصوات العربية عنه وتلقى الضربة الانتخابية القاتلة والمذلة بصورة لم تشهد لها إسرائيل مثيلاً في تاريخها.

لقد تصرف عرب 1948 أثناء انتفاضة عام 1987 وخصوصاً أثناء انتفاضة الأقصى عام 2000 كأقلية قومية واعية وناضجة، وظهروا أشد تمسكاً بانتمائهم القومي من أي وقت مضى، وبرهنوا أنهم جزء عضوي من الجسد الفلسطيني العام، وأنهم يعيشون في إسرائيل على أرضية قومية لم تمحها السنون. وبحسب تغطيات قامت بها هيئة الاذاعة البريطانية BBC فإن »الانتفاضة جعلت الشعور القومي متواصلاً ومتصلاً ما بين الأراضي المحتلة في الضفة والقطاع وبين اسرائيل داخل الخط الاخضر«. ونقلت عن فتاة عربية قولها: كنت اقول أنا إسرائيلية عندما كنت صغيرة، والآن أنا أنتمي للشعب الفلسطيني وأعتنق قضيته([17](

واعتبر الباحث مروان بشاره في كتابه »فلسطين -إسرائيل: سلام أم فصل عنصري« الصادر باللغة الفرنسية في باريس عام 2001، أن نظام الابارتهايد - »الفصل العنصري« الذي كانت إسرائيل تطبقه ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967، وحتى داخل إسرائيل نفسها، تعمق منذ أوسلو، وأنه في الوقت الذي تخلصت فيه دولة جنوب أفريقيا من نظام التمييز العنصري في أيار 1994، فإن هذا النظام كان يقوى ويشتد في إسرائيل. فمنذ أوسلو وما بعدها وإسرائيل تطبق تشريعين: لليهود حرية التنقل والبناء والتنمية، بينما يتم حشر العرب في بانتستونات. لليهود حرية الاستيلاء على الأرض، والفلسطينيون ممنوعون منها([18](

لقد عمقت أوسلو الفوارق الكبيرة في مختلف المجالات: المعيشة والتعليم والصحة والعمالة . . . فيما استفادت من الدعم الدولي واستثمارات السلام المزيف ورفع المقاطعة العربية من الدرجتين الثانية والثالثة، بينما تدهورت حالة الفلسطينيين الاقتصادية وتعمقت تبعيتهم للقوة المحتلة حيث تذهب 88% من الصادرات الفلسطينية إلى إسرائيل. والأراضي المحتلة هي في هذا المجال ثاني سوق لاسرائيل بعد الولايات المتحدة، وتقدر بنحو 5,2 مليار دولار.

يتفق الاخوان بشارة (عزمي ومروان) على أن إسرائيل خططت منذ تشرين الأول 2000 لعزل الشرعية السياسية عن القوى القومية في فلسطين 1948، ولإعادة رسم »حدود الديموغرافيا« بهدف الانتقام منهم بسبب تحركهم الى جانب أهاليهم في الضفة والقطاع اثر إحساس إسرائيل بمأزق كبير بسبب فشلها في مواجهة الانتفاضة وقمعها وبعد ان فشل مشروع حزب العمل في كامب ديفيد، وفشل مشروع الأمن المفروض على طريقة شارون.

وكتب الباحث ميرون بنفنستي يقول: سوف تستمر المواجهة المسلحة مع الفلسطينيين حتى عام 2006، فهل نستطيع العيش في جهنم 5سنوات أخرى؟ سوف ننتصر لكن الانتصار سوف يخلّف أمة مهزومة ومهانة، تلعق جراحها وترى في إنجازها انتصاراً للصهيونية المتوحشة، وتطلق العنان أكثر لسياسة الاستيطان لكي تنمو بذور الانتفاضة الثالثة انطلاقاً من الانتفاضة الثانية([19]). وهكذا وصلت الأزمة الإسرائيلية - الفلسطينية الى تعادل في طعم المرارة. حرب بلا نصر في جانب ونصر بلا معنى في الجانب الآخر. واتسعت مساحة الخلاف على اثر ذلك ما بين مؤيدي التسوية ومؤيدي التصفية في الجانبين، وكان من السهل أن يسترجع الجانب العربي مع ما يجري من وحشية التخريب والقتل وإبادة الجنس، تلك الصور القبيحة والمراحل المتعاقبة التي أسفرت بالتواطؤ الدولي عن تحول »عصابة« الى »دولة« ثم تحول الدولة من طموح الأمن إلى جموح التوسع ومن محدودية وظائف الدولة الى هواجس أحلام الإمبراطورية. وهكذا تحولت الثقافة السياسية العنصرية في إسرائيل الى حالة علنية وشرعية، وكثرت المطالبة بتقييد »الديموقراطية الإسرائيلية« تجاه عرب الداخل، ومنع الشرعية البرلمانية عن مواقف سياسية قومية عربية وبخاصة، كما يعّبر عنها في المطالبة بإسرائيل »دولة لكل مواطنيها« وهو امر يرفضه اليهود. وصدرت آراء سياسية وجيوسياسية تدعو إلى تقليل عدد المواطنين العرب داخل الخط الأخضر (حدود الهدنة عام 1948) عبر مبادلة بعض القرى العربية في الداخل بتفكيك بعض المستوطنات الهامشية في الضفة والقطاع، وتم تكريس الاعتماد على سياسات العنف والبطش جنباً لجنب مع سياسات الفصل العنصري من طرف واحد، عبر إقامة جدار فاصل يمتد على طول مئات الكيلومترات داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة([20](

 

الديناميكية السياسية لعرب 1948

في دراسة وضعها الباحث ملتون ايسمان Milton Esman عن إدارة صراع المجتمعات قال انه يعتبر »الهيمنة المؤسساتية« بمثابة استراتيجية للسيطرة تفرضها الجماعة المهيمنة على الأقلية المهيمن عليها. وتقتضي هذه الاستراتيجية اتباع سياسات ثلاث:

1-    الأولى هي الحرمان من الإفصاح عن الرأي السياسي للمجموعة المهيمَن عليها.

2-    الثانية هي تحريم دخول أفراد هذه المجموعة في المجتمع المهيمِن.

3-    الثالثة هي توفير »احتكار المجموعة المهيمنة للمشاركة السياسية والتعليم العالي والفرص الاقتصادية، واحتكارها لرموز المكانة مثل اللغة الرسمية والعلم والأبطال القوميين وأيام العطل الوطنية، ومن شأن هذا الاحتكار أن يعزز السيطرة السياسية والاقتصادية والنفسية للجماعة المهيمنة«.

هذه النقاط تمثل مخططاً حقيقياً وعملياً لسياسات السيطرة الإسرائيلية، وقد أضافت اسرائيل إليه أيضاً آليات المراقبة والترهيب وتفضيل النخب التقليدية الرجعية على سواها. وفي هذا المجال نجد ان الجيش الإسرائيلي، الذي هو بمثابة المؤسسة المركزية في الدولة، يحرص على إبقاء فلسطينيي الداخل خارج النطاق العام للمجتمع الإسرائيلي. فالخدمة العسكرية مطلوبة من اليهود فقط، ثم سمح بها للدروز في أواسط الخمسينات من القرن الماضي. أما المسلمون فممنوعون من ذلك ما عدا أبناء البدو الذين سمح لهم بالتطوع في الخدمة العسكرية، كما سمح بذلك أيضاً في ما بعد للمسيحيين. وعلى الرغم من ذلك فإن عرب إسرائيل جميعا بمن فيهم الدروز المسيحيين ممنوعون من التمتع بالمنافع التي تقدمها برامج المنظمات الصهيونية مثل الوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي وشركة تطوير الاراضي وسواها([21]). وهذه المؤسسات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحكومة الإسرائيلية، وبواسطتها حوّلت إسرائيل موارد بمليارات الدولارات من القطاع العام الى القطاع اليهودي تحديداً، الأمر الذي دفع عرب 1948 الى المطالبة بالحكم الذاتي.

يقول محمد ميعاري، رئيس حزب القائمة التقدمية وعضو الكنيست: »أنا لست الوحيد من أبناء شعبنا الذي يئس من تحقيق المساواة. لقد يئسنا كلنا من التعاون العربي-اليهودي . . . وتوصلنا الآن إلى نتيجة مفادها أن علينا أن نتخلى عن المطالبة بتحقيق المساواة وأن ندعو عوضاً عن ذلك إلى الحكم الذاتي«([22]). وينص برنامج الحزب المذكور على هذا الموضوع نصاً صريحاً فيقول: »إن جماهيرنا العربية تطالب بتنفيذ حقوقها بصفتها أقلية وطنية، وهي أقلية مختلفة عن غيرها قومياً وثقافياً وفي طريقة الحياة . . . آن لنا أن ندير شؤون حياتنا بتشكيل مؤسسات ثقافية واجتماعية وسياسية، وأن نسيّر بأنفسنا أمورنا التعليمية والثقافية، وأن ننشئ جامعة عربية لتعزيز هويتنا القومية العربية الفلسطينية، وعلينا نحن أن ندير الوقف وخدمات الرعاية، وأن نطور القرى والبلديات وذلك بدعم الزراعة مالياً، وبإقامة الصناعات في القطاع العربي«([23](

إلا أن إسرائيل ترفض بطبيعة الحال أن تمنح الأقلية الفلسطينية مركز الأقلية القومية المتمتعة بحقوق جماعية كاملة، وذلك »لأن اليهود يخشون أن يتحول الاستقلال الذاتي العربي الى قاعدة قوة راسخة تتحدى الهيمنة اليهودية وتعمل على تآكل الطبيعة اليهودية لإسرائيل فتحولها الى دولة ثنائية القومية، ثم تصبح هذه القاعدة مستهلاً لحركة انفصالية«([24](

لذلك لم يكن يسمح لعرب إسرائيل القيام بأي نشاط سياسي باستثناء ما يقوم به بعض الزعماء المحليين من وجهاء العشائر الذين لهم صلات خاصة بالأحزاب اليهودية الصهيونية. وهذا المنع كان يقوم به الحكام العسكريون في المناطق العربية ثم السلطات المركزية ودوائر المخابرات. ومع مطلع الخمسينات من القرن الماضي قررت الأحزاب السياسية اليهودية السعي للحصول على »الصوت العربي« فأضافت إليها »دوائر عربية« وضمت مرشحين عرباً بهدف تكريس تبعية هؤلاء لها. وقد دأبت حكومات الأحزاب العمالية بنوع خاص على تقديم بعض المنافع المادية والخدمات لبعض الناشطين العرب. واللافت للنظر أن الدوائر الحكومية والناشطين الكبار في الأحزاب اليهودية كانوا يحولون عدداً من هؤلاء المشاركين إلى متعاونين وعملاء مخبرين عن غيرهم من نشطاء العشائر الأخرى، فنشأ بنتيجة ذلك نوع من الإقطاع السياسي.

الحزب الوحيد الذي سعى في مطلع الستينات لتمثيل المجتمع الفلسطيني ودمجه هو الحزب الشيوعي الذي ما لبث أن انقسم على نفسه عام 1965 فأصبح القسم المتعاطف مع الاهتمامات العربية يعرف باسم راكاح. علماً بأن الحزب الشيوعي كان حزباً مكروهاً في البداية في المجتمع الفلسطيني بسبب تأييده لتقسيم فلسطين. إلا أن هذا الحزب ما لبث أن ناصر قضايا الفلسطينيين في شؤونهم الاجتماعية والاقتصادية، وأخذ يحصل على أصوات انتخابية منهم وهي الأصوات الاحتجاجية، خاصة على خلفية تحالف جمال عبد الناصر مع الاتحاد السوفياتي ضد الإمبريالية الأميركية والبريطانية والفرنسية. إلا أن هذا الحزب، بنتيجة سياساته الأممية جرى استبعاده من المؤسسة السياسية الإسرائيلية، مما وضع عرب إسرائيل بالتبعية خارج السياق العام في إسرائيل، وعرّضهم بالتالي لمزيد من القمع والاستغلال والسيطرة.

الجدير بالملاحظة أن تاريخ السياسات الفلسطينية مر بثلاث مراحل أساسية تمتد الاولى من عام 1948 وحتى 1967، وهي سنة حرب حزيران (الأيام الستة) التي أدت الى احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة، مما أتاح لعرب 1948 أن يعيدوا من جديد صلتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية مع شريحة مهمة من السكان الفلسطينيين. والمرحلة الثانية هي التي تبدأ عام 1967 وتنتهي بتوقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993، وهي مرحلة طويلة وحافلة بالأحداث الجسام، مما أحدث تحولات راديكالية على المستوى السياسي لدى غالبية الفلسطينيين. أما المرحلة الثالثة فتضم حقبة أوسلو حتى انتفاضة الأقصى عام 2000 وقد شهدت تطورات سياسية محورية أيضاً.

ثمة نقطة جوهرية لابد من ذكرها في هذا السياق أيضاً وتتعلق بتشكيل منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 تحت مظلة الجامعة العربية التي تزايد نشاطها وارتفع موقعها العربي والدولي خصوصاً في أعقاب حرب عام 1973، بحيث راحت تعبر بأشكال سياسية وعسكرية وأمنية عن الأماني الوطنية لكل الشعب الفلسطيني بما في ذلك عرب 1948 الذين رفعوا الشعارات والأعلام وأنشدوا الأناشيد الفلسطينية كتعبير عن مؤازرتهم لنضال أبناء شعبهم. ونشأت على هذه الخلفية حركة »أبناء البلد« في أم الفحم كأول تنظيم سياسي عربي يبرز الهوية القومية للفلسطينيين، مما انعكس إيجابا على الدور السياسي لهذه الأقلية وأنتج في عام 1976 يوم الأرض وهو يوم الاعتراض العربي على سياسات المصادرة والضم الصهيونية لأراضي الفلسطينيين الى جسم الدولة العبرية ضمن ما سمي »تهويد الجليل«. وفي عام 1978، وعلى غرار غيرهم من المسلمين، لم يبق العرب المسلمون في داخل إسرائيل غير مبالين حيال الثورة الخمينية التي اندلعت في ايران ضد الشاه، فنشأت الحركة الإسلامية وتطورت وراحت تنافس سواها من الحركات والأحزاب السياسية العلمانية والقومية الأخرى على موقع الصدارة في العمل الوطني. وبرز ذلك بنوع خاص في عام 1988 عندما فازت القوى السياسية الإسلامية بالأغلبية في عدد من المجالس المحلية، بما فيها أم الفحم، القرية التي حصلت على مكانة مدينة قبل ذلك بثلاث سنوات، بعد صراع سياسي متواصل لسكانها مع موظفي السلطات الإسرائيلية.

وانعكس انتقال القادة السياسيين الإسلاميين، من النشاط السري إلى توفير الخدمات الاجتماعية، إيجابياً على أداء الجمهور العربي داخل إسرائيل بحيث لم يعد هذا الجمهور يشعر بالرعب، وبذلك ارتفعت أسهم المنظمات الإسلامية مثل حماس والجهاد الإسلامي جنباً إلى جنب مع فصائل منظمة التحرير وفي مقدمتها فتح.

في مقابل ذلك تنشط حالياً في أوساط فلسطينيي 1948 عدة أحزاب وقوى سياسية وهيئات تمثيلية وقطرية، نشأ معظمها في العقدين الماضيين بفعل تتابع التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية، وبوسعنا اجمالها في ثلاثة تيارات اساسية هي:

1-    التيار القومي العربي ومن ابرز قادته :عبد الوهاب دراوشة وعزمي بشارة واحمد الطيبي.

2-    التيار الاسلامي ومن ابرز رموزه: الشيخ عبدالله نمر درويش والشيخ رائد صلاح.

3-    اليسار والذي يمثله تاريخياً الحزب الشيوعي الاسرائيلي، وهو حزب مختلط عربي يهودي، لكن بعد عام 1967 اصبحت غالبية قاعدته عربية وقيادته ايضاً رغم احتوائه على اعضاء يهود.

لقد استطاع العرب في اسرائيل إيصال عشرة نواب مستقلين، عن الاحزاب الصهيونية، في انتخابات الكنيست عام 1999 ، وهناك ايضاً اربعة مقاعد اخرى عربية، ولكن الفوز بها جاء من خلال الاحزاب الصهيونية، مقعدان في حزب العمل:نواف مصالحة وصالح طريف، ومقعد في الليكود:ايوب قرا (وهو اشد حقداً على العرب من الاسرائيليين انفسهم)، ومقعد في حركة ميرتس:حسنية جبارة مما يعني عددياً وجود 14 عربياً في الكنيست الاسرائيلي.

اما في انتخابات عام 2000 فان القوائم العربية بلغت اربعاً هي:

1-    الجبهة العربية للسلام والمساواة وهي تحالف بين حزبين:الشيوعي الاسرائيلي(محمد بركة وآخرون(

2-    القائمة العربية الموحدة وتضم: الحركة الاسلامية (عبد الملك دهامشة وآخرون) والحزب الديمقراطي العربي(طلب الصانع وآخرون) والحزب القومي العربي (محمد كنعان وآخرون(

3-    التجمع الوطني الديمقراطي برئاسة د.عزمي بشارة (وآخرون(

4-    القائمة الرابعة برئاسة هاشم محاميد.

في المقابل نلاحظ ان اليمين الاسرائيلي يحرص على التخلص من النواب العرب في الكنيست بسبب دورهم الوطني وايضاً مخافة ان يشكل هؤلاء في المستقبل بيضة القبان في أي ائتلاف مستقبلي للحكومة الاسرائيلية. ولقد سبق للمستشار القضائي الاسرائيلي الياكيم روبشتاين ان قدم توصية الى لجنة الانتخابات المركزية تقضي بشطب قائمة (بلد)التي يرأسها النائب عزمي بشارة، وكذلك هناك مطالب يمينية بشطب النواب الطيبي وبركة ودهامشة بتهمة التحريض وعدم الاعتراف بديمقراطية اسرائيل.     

 

عرب 1948 وأوهام التسوية

بعد مصرع رابين عام 1995 وتحييد شمعون بيرس، فاز بنيامين نتنياهو زعيم الليكود بمنصب رئاسة الحكومة الإسرائيلية، حيث مكث لمدة ثلاث سنوات عمل خلالها على تخريب اتفاقيات أوسلو منذ العام 1993 وتفريغها من محتواها. فباشر بسياسات تهويد القدس وفتح النفق تحت المسجد الأقصى وبادر الى بناء مستوطنة جبل أبو غنيم ووسع سياسة الاستيطان ومصادرة الأراضي العربية. وعلى الرغم من ارتباط اسمه  باتفاقي الخليل وواي ريفر، إلا أنه لم ينفذ أي شيء من التزاماته تحت ذريعة ما أسماه »التبادلية« فجمد مسارات التفاوض، في وقت تصاعدت موجة الإلحاح الفلسطيني عام 1999 على الحصول على دولة فلسطينية. وشكّل إصدار الاتحاد الأوروبي بيان برلين في شهر آذار 1999، الذي أكد على حق الشعب الفلسطيني الدائم وغير المشروط في تقرير مصيره واقامة دولته في أقرب وقت ممكن، مقدمة لرغبة متأججة في صدور الفلسطينيين. الا انه ومع اقتراب الرابع من أيار 1999 الموعد المحدد لانتهاء المرحلة الانتقالية للحكم الذاتي، من دون الشروع بمفاوضات الوضع الدائم، شعر الفلسطينيون بخيبة الأمل العارمة وبالخديعة الصهيونية الكاذبة. فأعلن رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات عن عزمه إعلان الدولة من طرف واحد وقام بجولة ليبشر بقدومها. ويذكر نايف حواتمة في كتابه »أبعد من أوسلو . . . فلسطين إلي أين؟« أن ياسر عرفات زار أكثر من 67 دولة في 60 يوماً متتالياً، من اجل التحضير لاعلان تجسيد أماني الفلسطينيين في دولة فلسطينية ذات سيادة خاصة، ووجد تجاوباً من أغلبية دول الاتحاد الأوروبي وخصوصاً فرنسا، كما وافقت روسيا والصين واليابان وكندا وألمانيا وجميع الدول الآسيوية والأفريقية ومعظم دول أميركا اللاتينية، إلا أن أميركا وحدها طالبت بتمديد عمر أوسلو الى أيار 2000، وفي نيسان 1999 اتفقت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية على عقد دورة خاصة للمجلس المركزي الفلسطيني لأول مرة منذ ست سنوات حين تم الإعلان عن اتفاق أوسلو. وكانت »سيادة فلسطين وعاصمتها القدس« هي جدول الأعمال. وحضرت الجبهة الديمقراطية وأعلنت حركة حماس مشاركتها كمراقب والتقت للمرة الأولى فصائل منظمة التحرير على مربع وطني بارز مشترك لتجاوز أوسلو والدعوة لعدم تمديد الحكم الذاتي والمرحلة الانتقالية بأي شكل.

وبحسب قول يوسي بيلين في كتابه »ملامسة السلام« الصادر في لندن عام 1999، فإن مفاوضات عقدت على مدى عامين بين شخصيات أكاديمية فلسطينية وإسرائيلية وتوصلت الى مبادئ بشأن قضايا التسوية النهائية، في حين كان نتنياهو يواصل عمله الدؤوب للقضاء على أي أمل بالتسوية السلمية، فبدأت مرحلة مأساوية جديدة من الإنهاك والاستنزاف المادي والمعنوي والسياسي. وإثر سقوط نتنياهو بسبب ممارساته الشخصية الاستعلائية في الدولة والحزب ومجيء ايهود باراك، تجددت أجواء التفاؤل والترقب والانتظار إلا أن »غودو« لم يأت، وتبين أن باراك أسوأ من نتنياهو على صعيد الأطماع الصهيونية التي لا حدود لها، وخيمت على المنطقة من جديد أجواء التشاؤم في ظل اتفاقيات لم توقع وتوقيعات لم تنفذ وتسوية معطلة غير قابلة للإقلاع، إلى أن كانت لقاءات واي بلانتيشن في الولايات المتحدة ثم توقيع اتفاقية شرم الشيخ أو »واي ريفر« لتنفيذ بعض ما كان اتفق عليه ووقّع في اتفاقات سابقة وذلك من خلال ضمانات قدمتها وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت. ومع ذلك جاء منتصف عام 2000 ولم ينفذ الإسرائيليون أياً من التزاماتهم، فحصلت لقاءات كامب ديفيد الثانية والمفاوضات المضنية التي ذهبت هي أيضاً هباء وبلا نتيجة، مما أدى إلى تراكم الإحباط لدى الفلسطينيين الذين وجدوا أنفسهم يفاوضون الإدارة الأميركية بصورة مكشوفة ومباشرة وأحسوا أنهم مطبق عليهم من مجموعتين يهوديتين متطرفتين إسرائيلية وأمريكية، ومع ذلك كان باراك أضعف من السلام وكان عرفات أضعف من الصدام. فتحولت كامب ديفيد الثانية الى مجرد لقاء أطراف لا تجرؤ على أكثر من اللقاء خصوصاً بسبب الخلافات الجذرية القاتلة المتعلقة بموضوع السيادة على القدس. وقد وصف الدكتور عزمي بشاره تلك المرحلة بقوله: »لقد انتخب باراك لكي يجلب السلام، فقرّب المنطقة من حافة الحرب، وانتخب لكي يدفع بعلمنة المجتمع (الثورة العلمانية) والدولة الى الأمام، فتعرجت طرقه بين التحالف مع المتدينين ومعاداتهم في الإعلام، بالاضافة الى الإصرار على نقل مولد كهربائي في يوم السبت بشكل أغاظ المتدينين، وقبول إعفاء تلاميذ المدارس الدينية من الخدمة بشكل أغاظ العلمانيين«، الى أن خرج باراك من الحكم وجهاً بلا ملامح، وزمناً بلا تاريخ، وذلك لحساب ومصلحة آرييل شارون المعروف ببطشه ونزعته الإجرامية (من دير ياسين وقبية وصبرا وشاتيلا ووصولاً الى جنين).

وتفجرت في المجتمع الإسرائيلي نزعات وغرائز حب الانتقام والانتصار وارغام الفلسطينيين على قبول ما يعطى لهم من الفتات. وكان شارون قد بدأ معركته منذ تدنيسه باحة المسجد الأقصى في أواخر أيلول 2000، ولدى تسلمه السلطة باشر بتدمير كل البنى التحتية الخاصة بالسلطة الوطنية الفلسطينية من خلال الاغتيالات وقصف القرى والمدن بالطائرات النفاثة المتطورة وطوافات الأباتشي، بهدف إغلاق أي باب من الأمل أمام الفلسطينيين. وانتفض الفلسطينيون داخل وخارج الخط الأخضر، وتوالت أحداث الانتفاضة الثانية لتضيف الى الأولى المزيد من الشهداء والأبرياء والمزيد من المعاناة. وتبين للفلسطينيين أن »أوسلو« لم تكن أكثر من شراب مفروض عليهم تناوله وأعينهم مغمضة، فإذا به يقطع أحشاءهم ويضعهم على شفا الموت ذلاً، أو اختيار الشهادة انفجاراً.

ومع ذلك قاوم الشعب الفلسطيني بكل ما لديه من الوسائل البدائية، وشارك عرب 1948 في مسيرة الجلجلة والعذاب، وقدموا الضحايا والتضحيات في العام الأول لانتفاضة الأقصى. وبدلاً من الذهاب الى الحلول السياسية راح شارون يوغل في وحول الدم والجريمة خصوصاً اثر أحداث 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة التي أتت في أعقاب تصريح الرئيس بوش الابن الذي يؤيّد فيه قيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة مما جعل شارون يستشيط جنوناً بقوله أنه ينبغي على الولايات المتحدة عدم تكرار خطأ الديموقراطيات الأوروبية عندما ضحت بتشيكوسلوفاكيا من أجل الوصول الى حل مؤقت مع هتلر. وأعلن شارون أن »إسرائيل لا تملك سوى الاعتماد على نفسها والعودة إلى سياسة الاغتيالات من دون مراعاة لأي ضبط للنفس وصولاً الى القضاء على بن لادن الشرق الأوسط -عرفات«.

وسرعان ما زال سوء التفاهم الأميركي - الإسرائيلي وأطلقت يد شارون مجدداً ليقضي على الانتفاضة من دون أي أفق حقيقي لقيام تسوية عملية، ثم جاءت أحداث العراق فاكتملت الصفقة الإسرائيلية الأميركية بالقضاء على ديكتاتورية صدام حسين من دون التعويض على الشعب العراقي ولا الشعب الفلسطيني بأي قول أو عمل يهدئ من أجواء اليأس القاتمة التي خيمت على المنطقة بأكملها ولا سيما فلسطين والفلسطينيين، حيث اقفل المشهد على حرب بلا انتصار وانتفاضة عصية على الانكسار. وتصرف عرب 1948 عبر كل هذه المتغيرات المأساوية قومية متماسكة أكثر من أي وقت مضى على خلفية قومية ووطنية تأبى التشويه أو الزوال وذلك من خلال المعطيات التالية:

1-    التلاحم النضالي بين عرب 1948 وعرب 1967 عبر المشاركة في فعاليات الانتفاضة بمسيرات وصلت الى حد تقديم الشهداء.

2-    انتقال فلسطينيي الداخل (1948) من حالة السكون والهدوء الى حالة المشاركة الفاعلة في دعم إخوانهم في أراضي الضفة والقطاع، حتى في العمل الأمني والعسكري. وهذا ما أبرزته التحقيقات في العديد من العمليات الجهادية التي قام بها الفلسطينيون في أراضي 1948 ولا سيما عملية اغتيال الوزير الصهيوني العنصري رحبعام زئيفي.

3-    أحيت أحداث الانتفاضة الثانية وانتصار المقاومة في لبنان (أيار 2000) فكرة إمكانية تحدي إسرائيل بالرغم من جبروتها.

4-    مشاركة نواب عرب في الكنيست الإسرائيلي في مؤتمرات داخل عواصم عربية وإعلانهم دعم الانتفاضة علناً ووصفهم ممارسات إسرائيل بالإرهابية، وهذا ما فعله بالذات الدكتور عزمي بشاره أثناء زيارته لدمشق والقاهرة، مما عرضه لممارسات تعسفية أبرزها نزع الحصانة الديبلوماسية عنه وتعريضه للمحاكمة.

5-    المشاركة في أنشطة وتظاهرات قامت بها منظمات إنسانية وعربية لفك الحصار عن الرئيس ياسر عرفات، مثلما فعل النائب العربي في الكنيست أحمد الطيبي الذي تعرض للكمات الجنود الصهاينة.

6-    المشاركة في صلوات يوم الجمعة في حرم المسجد الأقصى تضامناً مع الشعب الفلسطيني.

7-    إحياء الهوية العربية في أوساط عرب 1948 بعدما اعتبرت إسرائيل أنها نجحت في دمجهم بمجتمعها.

8-    مجاهرة الشخصيات الإسلامية من عرب 1948، ولا سيما في الحركة الإسلامية، بعدم اعترافهم بوجود الكيان الصهيوني، وبأنه كيان غاصب يجب العمل على إزالته.

9-    اكتساب المزيد من الخبرات السياسية والنضالية مع إمكانية استثمارها مستقبلاً في المعارك الانتخابية داخل إسرائيل بما ينفع مصالح العرب هناك، بدلاً من هدر الطاقات والصوت العربي خدمة للأحزاب الصهيونية([25](

 

خلاصة واستنتاجات:

ساعد عرب 1948 بتمسكهم بهويتم القومية والوطنية ونضالهم، إلى جانب إخوانهم في الأراضي المحتلة عام 1967 وفي الشتات، على تثبيت الهوية الفلسطينية، وأسقطوا مقولة شارون المعروفة أن »الأردن هو فلسطين« وهم من خلال نضالهم السياسي والاجتماعي والثقافي، كشفوا زيف وفساد المزاعم الإسرائيلية الخاصة بديمقراطية الصهاينة العنصرية. وإذا كانت هناك مشكلة لاجئين فلسطينيين في المنفى لابد من مواجهتها وحلها من قبل سلطات الاحتلال الصهيوني، فقد أثبت عرب 1948 بأنهم، هم أيضا، لاجئون في وطنهم، ولهم بالتالي حقوقهم في الحياة والكرامة الإنسانية داخل الكيان العنصري.

والانتفاضة التي يمارسها الفلسطينيون من دون كلل أو ملل على مدى أكثر من ثلاث سنوات في ظل حكومة شارون اليمينية المتطرفة، كافية للتدليل على وحدة المصير ووحدة القضية بين عرب 1948 وسائر المجتمع الفلسطيني.

وفي هذا المجال يقول المؤرخ الإسرائيلي جاكوب تالمون: »في ما يتعلق بنا، فعلى النقيض مما اعتبرته بعض الأجيال هبة منفردة خاصة بنا تجاه الإنسانية، وهي فكرة حكم الروح وليس حكم القوة، فاننا الان نستخدم حكم القوة في تطبيق حقوقنا التاريخية. وهي حقوق في تفسيرها ليست مقدسة عند الأغيار أو عند الغالبية العظمى من اليهود. وتبعاً لذلك، فنحن لم نعد نتوقع من العالم أن يهتم بحقوقنا باعتبارها ملحة بحيث يضطر إلى تجاهل حقوق الفلسطينيين في تقرير المصير. ومن دون تلك القاعدة الأساسية المتمثلة في كتابات أنبيائنا، فنحن لسنا غير مجموعة من قبائل غريبة الأطوار لم تقدم شيئاً للإنسانية غير المتاعب، وتطالب الآن بالتوسع على حساب شعب آخر، وتجعل حرية هذا الشعب الآخر أقل أهمية وشأناً من احتياجاتها الأمنية، سواء أكانت احتياجات حقيقية أم خيالية«([26](

اما الباحث الاسرائيلي بوعاز عفرون فيورد في كتابه »الحساب القومي« فقد قدّم دلالة كافية على روح العدوان الصهيوني التي تعمل الحكومات الصهيونية على ترسيخها انطلاقاً من نزعة التوسع حيث جاء: »ما دامت العلاقات القائمة على العداء بين اسرائيل وجيرانها مستمرة، وهي علاقات يحرص النظام السياسي على استمرارها، لكي لايضطر الى التخلي عن جزء من المناطق التي احتلها،او عنها جميعاً في اطار اية تسوية، فلن يكون لدى اسرائيل أي استعداد للانفتاح على العناصر غير اليهودية داخلها، وستكون اضافة سكان غير يهود لدولة اسرائيل بمنزلة اضافة سكان معادين لها بصورة فعلية او منظورة، ويعني ذلك اضعاف للدولة«([27](

 

[1] لورانس ماير، ترجمة مصطفى الرز، اسرائيل الآن صورة بلد مضطرب، مكتبة مدبولي ص 272.

[2] المصدر نفسه ص 276.

[3] المصدر نفسه ص 277.

[4] باروخ كيمرلينغ، يوئيل شموئيل مفدال، ترجمة محمد حمزة غنايم، الفلسطينيون صيرورة شعب، المكتبة الاهلية ص 245.

[5] المصدر السابق ص 247.

[6] المعطيات الديموغرافية للصراع مع العدو الصهيوني، مركز إلاسراء للدراسات والبحوث سبتمبر/ايلول 1988 ص 5.

[7] رضى سلمان، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 2 ربيع 1990 ص 158، عرب فلسطين 1948 مرحلة النهوض من الصدمة.

[8] انظر في هذا الشأن (gershon shafir and yoav peled zcitizenship and stratication in an ethnic democracy "ethnic and racial studies vol 21 nb" 3 may 1998).   

[9] المصدر نفسه 129.

[10] لورانس ماير، اسرائيل الآن ص 282.

[11] المصدر نفسه .

[12] المصدر نفسه .

[13] المصدر نفسه ص 283.

[14] من حديث شامل مع عزمي بشارة عن مأزق أوسلو والتطورات الاخيرة، اجرته مجلة الدراسات الفلسطينية، خريف 1996 العدد 28 ص 58.

[15] المصدر نفسه

[16] الاسبوعية، نشرة محدودة التوزيع، حقوق العرب المدنية، العدد 53 تاريخ 21/4/2001 ص 12.

[17] احمد مسلماني، ما بعد اسرائيل، بداية التوراة ونهاية الصهيونية، ميريت للنشر والمعلومات، القاهرة ط1-2003 ص 125.

[18] المصدر نفسه.

[19] المصدر السابق ص 126.

[20] لمزيد من التفاصيل انظر د.عزمي بشارة، الانتفاضة والمجتمع الاسرائيلي، مركز دراسات الوحدة العربية، ةانظر ايضا د.سميح فرسون، فلسطين والفلسطينيون مركز دراسات الوحدة العربية ص 250 وما بعدها.

[21] د.سميح فرسون، فلسطين والفلسطينيون ص 318.

[22] المصدر نفسه ص 320.

[23] المصدر نفسه.

[24] المصدر نفسه.

[25] لمزيد من التفاصيل انظر، ياسر زغيب، فلسطينيو 1948، مصدر سابق ص 258 وما بعدها.

[26] لورانس ماير مصدر سابق ص 329.

[27] د.رشاد عبد الله الشامي، اشكالية الهوية في اسرائيل، عالم المعرفة رقم 224 ص 126.