بحث وإنقاذ

عرق ودموع وركام
إعداد: ريما سليم ضومط - الرقيب كرستينا عباس

في ذلك اليوم الرهيب، اختلط مشهد غروب الشمس على شاطىء بيروت بسحابة دخان ضخمة خلّفها انفجار هزّ العاصمة اللبنانية ومحيطها. لم ينم اللبنانيون يومها، ضاع ليلهم في ثنايا نهار أسود حزين، لم يشهدوا له مثيلًا رغم كل ما شهدوه من حروب وويلات.

أشرقت شمس اليوم التالي وسلّطت نورها على الدمار الحاصل، فأدرك اللبنانيون حينها هول الفاجعة.

 

المشهد من البحر مبكٍ، في الجولة التي نظّمتها مديرية التوجيه للصحفيين عاينّا الكم الهائل من الحطام والدمار والخراب الذي التهم كل شيء. مرفأ بيروت تحول في غضون ثوانٍ من أحد أهم مرافىء الشرق الأوسط إلى أطلال موحشة. أطلال كتمت صيحات الرعب وأنين العشرات من الموظفين والعمال والمواطنين الذين صودف وجودهم في المنطقة. كنا نتساءل من يا ترى من المفقودين يرقد تحت أكوام الباطون المسلح هنا؟ ومن منهم كان مصيره تحت أطنان القمح وسواه من الحبوب؟ وكنا نتساءل أيضًا هل يا ترى تنجح فرق البحث والإنقاذ في انتشال جميع من يرقدون هنا وهناك؟ وكيف السبيل إلى رفع كل هذا الركام؟ هل من أمل بوجود ناجين بعد؟

 

في قلب الدمار

على الأرض لا مجال للأسئلة، الوقت كله للعمل الذي بدأ فور وقوع الكارثة. توجهت إلى موقع الانفجار قوى من الجيش، وأخرى من الدفاع المدني والصليب الأحمر وفوج الإطفاء. الواقع رهيب وموجع، والعمل صعب، لكن الأمل بوجود أحياء وإمكان إنقاذهم ظل موجودًا، وهذا ما اقتضى اعتماد تقنيات دقيقة. التحق بالقوى التي باشرت العمل اثنا عشر فريق إنقاذ أجنبي. هؤلاء هرعوا إلى المساعدة في البحث عن المفقودين، آملين في إنقاذ أحياء من تحت الأنقاض. تمّ تنسيق عمل مختلف فرق الإنقاذ التي قُسّمت إلى أحد عشر قطاعًا، وكان التواصل مستمرًا على مدار الساعة بين الأطراف العاملة على الأرض جميعها، بهدف تأمين الآليات والمعدات الملائمة، واتخاذ الإجراءات اللازمة في كل موقع بحسب الأوضاع فيه.

 

غرفة عمليات

يوضح القائد العسكري لمرفأ بيروت العميد الركن جان نهرا أنّ القوى التي كانت موجودة في المرفأ عند وقوع الانفجار، تولت عملية حفظ الأمن، كما قامت بعزل موقع الحادث إلى حين بدء عملية البحث والإنقاذ. وقد تم تأليف مجموعة عمل ضمت سرية من فوج المغاوير وسرية من فوج التدخل الثالث، وفوج الهندسة، بالإضافة إلى مجموعة من فوج الأشغال المستقل، وأخرى من المكافحة، وفوج الإطفاء والدفاع المدني والصليب الأحمر اللبناني، والهيئة العليا للإغاثة، بمشاركة مجموعات من فرق الإنقاذ الأوروبية والدول الشقيقة التي تساعد بدورها في البحث والإنقاذ. وقد تم توزيع القوى على قطاعات بغية تسهيل عمليات الإنقاذ وتسريعها.

ويشير العميد الركن نهرا إلى التنسيق التام في العمل بين الجيش والقوى الأخرى، إذ يتولّى الجيش تأمين جرافات وعتاد هندسي (فوج الأشغال المستقل اختصاصه عتاد هندسي، وفوج الهندسة اختصاصه هندسة عسكرية وقد قام بتفحّص المنطقة مرارًا للتأكد من خلوها من المواد المؤذية)، فيما يزوّد الدفاع المدني الفريق أشخاصًا متخصصين في عمليات البحث والإنقاذ، ويتولى الصليب الأحمر عمليات الإخلاء.

وعن سير العمل داخل حرم المرفأ، والضوابط التي فرضها الجيش، يقول: «في البداية جرى مسح أولي من الجنوب باتجاه الشمال لإيجاد الجرحى والمصابين وإخلائهم بسرعةٍ، وقد تم حينها ضبط المداخل، ومنع الجميع من الدخول بمن فيهم الموظفين والعاملين في المرفأ. وذلك لعدة أسباب أبرزها تفادي إعاقة عملية البحث والإنقاذ، وعدم المس بالأدلة، إضافةً إلى الحفاظ على موجودات المواطنين المحفوظة في المرفأ. وفي المرحلة اللاحقة، اقتصر منع الدخول على منطقة العمليات، في حين سُمح لأصحاب الحقوق في المنطقة الحرة بالدخول إليها وتفقّد بضائعهم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مالكي البواخر الذين تفقّدوا بواخرهم.

استمر العمل بصورةٍ متواصلة ليلًا ونهارًا طوال ٢٤ ساعة. ويشير العميد الركن نهرا إلى أنّ عددًا كبيرًا من الجثث والأشلاء تم إيجاده في أثناء العمل الليلي. وإذ يؤكد أنّ عملية البحث والإنقاذ تتم بطريقةٍ حرفية، فإنّه يذكر في الوقت نفسه أنّها ترتكز على معايير إنسانية مشيرًا إلى تعاطف الجيش اللبناني مع أهالي المفقودين، وموضحًا أنّ الجرف يتم بطريقةٍ مدروسة، فلدى الاشتباه بوجود جثة، يحفر العناصر بأيديهم احترامًا لها.

من جهةٍ أخرى، يشير العميد الركن نهرا إلى الصعوبات الكثيرة التي واجهت فرق البحث والإنقاذ بسبب انهيار الإهراءات، وبالتالي وجود كميات كبيرة من الباطون المسلح حيث كانت غالبية الجثث، لكن القرار كان واضحًا: استمرار عمليات البحث والإنقاذ حتى إيجاد المفقودين جميعًا.

 

العمل الدقيق

في السياق نفسه، يقول قائد فوج الهندسة في لواء الدعم العقيد روجيه خوري الذي أشرف على عمل فرق الإنقاذ الأجنبية إنّ العمل على رفع الأنقاض والبحث عن مفقودين كان صعبًا للغاية، وأيضًا دقيقًا للغاية. ويوضح: «ثمة كميات هائلة من الباطون المسلّح والردم وحمولة الإهراءات التي انهارت وغطّت أرض المرفأ، فبقي الضحايا والأشلاء تحتها». لذلك، كان على فرق الإنقاذ كافة التروّي في العمل وتوخي الحذر حرصًا على حياة من ظلوا أحياء، وعلى عدم تشويه جثث الضحايا أو فقدان الأشلاء وسط الركام المرفوع.

العمل الصعب استمر نهارًا وليلًا، والمشاركون بذلوا جهودًا لا توصف. كان كل منهم يعمل وكأنّ ابنه أو أباه أو أخاه تحت الركام يستغيث به لمد يد العون.

في البحر كما في البر، عمليات البحث على مدار الساعات. غطاسون من القوات البحرية وفوج الهندسة في الجيش، ومن الدفاع المدني يبحثون عن ضحايا قد يكون الانفجار قذفهم إلى البحر، وعن أي مواد غريبة ممكن أن تكون متناثرة في البحر أو في الفجوة المائية قرب الإهراءات. بعد أيام انتشلت سيارة أحد المواطنين وجثته داخلها.

أيام وساعات لن ينسى الذين عاشوها أيًا من لحظاتها الصعبة ومشاهدها القاسية. لن ينسى الواحد منهم دموعًا رآها في عيون عناصر فوج الإطفاء وهم يصارعون الركام لعل وعسى... لن ينسوا دموع الأهالي وصراخهم، ولن يغادر غبار الركام حناجرهم.

مع فقدان آخر أمل بوجود أحياء انتهى الجزء الأول من المهمة، واستمر البحث عن جثث المفقودين. «لن نتوقف قبل العثور على آخر مفقود بلّغت عنه عائلته» يقول العقيد خوري.

 

ليس وحيدًا في محنته!

لم يكن لبنان وحيدًا في هذه المحنة. فرق الإنقاذ الأجنبية التي وصلت تباعًا شاركت بفعاليةٍ، ونفّذت مهمتها بدقةٍ متناهية وتنسيق دائم مع الجيش وباقي الفرق. لقد كان عددها اثنا عشر فريقًا ولم يتوقف أي منها قبل إنهاء العمل المطلوب منه. بعض هذه الفرق عمل في البحث والإنقاذ فقط، وبعضها الآخر ساعد في عمليات مسح الشوارع وغيرها من المهمات المرتبطة بالأضرار الناجمة عن الانفجار. وكانت روح التعاون حاضرة بين الفرق كلّها. من ينهي العمل في قطاعه يقدّم المساعدة في قطاع آخر.

في مؤتمر صحافي عقدته في وزارة الدفاع الوطني، تحدّثت الفرق الأجنبية عن عملها، وشرحت طبيعة المهمات التي نفّذتها. ومن بين جميع الفرق التي شاركت بمهمات الإنقاذ، كان الفريق الإيطالي الوحيد الذي كُلّف مهمة الكشف على بقعة الانفجار برًا وبحرًا، وتقييم مدى خطورة المواد المتسربة. وقد أوصى الاختصاصيون بمعالجة بعض المواد التي كانت متناثرة قرب الإهراءات، فيما طمأنوا بأنّ البحر آمن، وكذلك البقع الأخرى الموجودة في أرض المرفأ.

نفّذ عدد من الفرق أعمال مسح في المناطق المحيطة بالمرفأ بوجود خبراء متخصصين. الفريق الألماني ساعد في عمليات رفع الأنقاض في السفارة الألمانية والمنطقة المحيطة بها. وعمل الفريق التشيكي على مسح الأضرار في منطقة الرميل، بينما تولى الأمر في الجميزة الفريق الإسباني. أما الفريق البولندي فقد قدّم الإسعافات الأولية للجرحى في محيط المرفأ. وفي أثناء البحث، وجد الفريق اليوناني خمسة صناديق في قطاعه، كان أحدها مفتوحًا؛ وبعدما تم تفحصها أُرسلت إلى أماكن التخزين الخاصة بها.

 

ليس بهذا الحجم...

بقعة الانفجار مدمّرة بالكامل، والركام ضخم وهائل، وبالتالي فإنّ الفرق العاملة في البحث والإنقاذ واجهت الكثير من الصعوبات. ويقول قائد الفريق الفرنسي Colonel Vincent Tissier: «الأرض متغيرة المعالم بالكامل ما يصعّب الوصول إلى منطقة الإهراءات. في كوارث من هذا النوع تقع المباني بشكلٍ عمودي en mille-feuille، لكن في انفجار بيروت وقعت الإهراءات إلى الأرض المحيطة بها وغطّتها». ويوضح أنّه شارك في عمليات الإنقاذ بعد انفجار نيترات الأمونيوم في منطقة تولوز في فرنسا، مشيرًا إلى أنّهم واجهوا صعوبات مماثلة ولكن ليس بهذا الحجم.

وينوّه Colonel Tissier بما قدّمه الجيش اللبناني من تسهيلات للفريق الفرنسي، بحيث خصّص ثكنة في محيط المرفأ ليقيم الفريق فيها مستشفى ميدانيًا، على الرغم من أنّها كانت متضرّرة بشكلٍ كبير. ويقول: «في هذه المهمة التقيت برفاق السلاح الذين كانوا قد شاركوا بدوراتٍ في فرنسا. وقد كان عملنا إلى جانب ضباط وعسكريي الجيش اللبناني يسير بشكلٍ متناغم».

من جهته، يقول مساعد قائد الفريق القطري المقدم مبارك الكعبي: «كان الموقع يشكّل أحيانًا خطورة على أمن فرق الإنقاذ التي تعمل في محيط الإهراءات. فبعض عواميد الباطون المسلّح الضخمة ما زالت معلّقة بالمبنى، وهي يمكن أن تنهار في أي لحظة». ويضيف بأنّ فريقه بدأ العمل في مجال الإنقاذ اعتبارًا من العام ٢٠٠٥، وشارك منذ ذلك الحين في العديد من المهمات المشابهة، من بينها واحدة عقب حرب تموز ٢٠٠٦ في لبنان، وزلزال هايتي في باكستان وغيرها... وفي المهمات كلها ثمة صعوبات، فالدمار هو نفسه في الكوارث، يختلف فقط من حيث الكمية.

ويلفت المقدم الكعبي إلى أنّ: «الجيش كان جاهزًا لتأمين أي نقص في المعدات؛ فعندما احتجنا إلى رافعات وجرافات سارع إلى وضعها بتصرّفنا. كما أنّ التنسيق كان متواصلًا بيننا وبينهم، وكانوا يسارعون إلى حلّ أي معضلة قد تطرأ خلال سير العمليات».

 

وطنٌ لا يموت

الرابع من آب ٢٠٢٠ يوم لن ينساه اللبنانيون، اهتزّت الأرض وانهال الركام على الضحايا والأحلام والآمال. مع ذلك، أبى اللبنانيون أن يموت وطنهم، فأمسكوا المعدات وتوجّهوا مع شروق الشمس إلى لملمة الجراح وإعادة بناء ما تهدّم، محاولين النهوض ليحلّقوا مرة جديدة مثل طائر الفينيق، وينفضوا عن عاصمتهم غبار الردم والدمار.

 

الاستعانة بخريطة إعمار الإهراءات

يوضح العميد نهرا صعوبة العمل لدى فرق البحث والإنقاذ، ويقول: «من الصعوبات التي واجهتنا في أثناء البحث عن الجثث، الكم الهائل من الركام. فهناك ثلاثة إهراءات مهدّمة يحتوي كل منها على ١٦ صومعة بسعة ٢٠٠٠ طن من القمح للصومعة الواحدة، إضافةً إلى ٢٦ صومعة يتسع كل منها لسبعمئة طن، و٣٠ صومعة يتسع كل منها ل ٣٠٠ طن. إلى ذلك، هناك المبنى الخاص بالموظفين وهو عبارة عن سبعة طوابق بسماكة خمسين سنتم من الباطون المسلّح هُدم بالكامل. لذلك كان علينا إيجاد وسيلة تمكننا من إيجاد الجثث العالقة تحت الردم، فأتينا أولًا بخريطة إعمار الإهراءات، واستعنّا بمدير عام الإهراءات الذي أرشدنا إلى موقع المكاتب الخاصة بالموظفين، حتى أنّنا دخلنا معه في تفاصيل دقيقة ساعدتنا في إيجاد الجثث في الموقع المذكور. أما بالنسبة إلى جثث عناصر فوج الإطفاء، فقد تمكنّا من إيجادها في الموقع نفسه تقريبًا بين العنبر رقم ١٢ والإهراءات كونهم كانوا قد اتجهوا لتأدية واجبهم في تلك البقعة».

 

أول من استجاب

بسبب موقعها في الحوض الأول من المرفأ مباشرةً خلف إهراءات القمح، تعرضت قاعدة بيروت البحرية لأضرارٍ بشرية ومادية جسيمة، لكنها كانت أول من استجاب للكارثة.

جهّزت القوات البحرية مراكبها وانطلقت إلى داخل المرفأ، مسح عسكريوها الأرصفة، وكل الأحواض، على سطح الماء وفي قعر البحر. انتشلوا ناجين من البحر، ولبّوا أصوات استغاثة ركاب إحدى السفن السياحية، فحاولوا إنقاذ عشرات الجرحى عبر النوافذ في ظروف صعبة ومن دون أي ضوء أو إنارة.

منذ اللحظات الأولى للانفجار بدأت عمليات البحث الدقيق عن مفقودين وأدلة، بعدما قُسّمت الواجهة البحرية إلى مربعات، واستُخدمت في هذه العملية حساسات لاكتشاف ما هو مدفون تحت الأنقاض. وضعت القوات البحرية الطفافات حول بقعة الانفجار، منعًا لأي تسرّب نفطي، بينما تولت طرادات الإنقاذ مهمة مسح الأحواض من خلال جولات متواصلة، إذ وضعت خطة تقضي بأن يُعاد التفتيش ومسح البقع نفسها عدة مرات.

مع الانتقال إلى الحوض الثالث بمواكبة طرادات الحماية البحرية، تكتشف فظاعة الأضرار، إذ تطل عليك الإهراءات أو ما تبقى منها، عند تخوم حفرة بعمق خمسة أمتار وبقطرٍ يتجاوز الخمسين مترًا. بواخر غارقة وأخرى منكوبة شهدت سلالمها على عمليات إجلاء عشرات الجرحى. الطفافات الصغيرة تدل على مكان وجود الونش والشاحنة اللذَين يُستخدمان في عمليات البحث تحت الماء. فبعد الانفجار بات القمح في قعر البحر ما ترك بقعةً سميكة حتّمت الحفر لاستكشاف ما تحتها.

٣زوارق و١٥ غطاسًا قاموا بعمليات مسح متواصلة على مدار الساعة، على طول المرفأ وعلى عمقٍ يصل إلى كيلومتر. لم يحدد وقت معين لتوقف عمليات البحث، فالقرار: «مستمرون في العمل حتى إيجاد آخر مفقود».