حكايات الجبهة

على الطرقات الصخرية...
إعداد: باسكال معوّض بو مارون - ندين البلعة خيرالله

اصطحبنا النقيب نبيل بو زغيب رئيس الفرعين الأول والرابع في الكتيبة 62 في جولة ميدانية إلى الجرود. مشوار جعلنا منهكي القوى بسبب الطرقات الصخرية المتعرّجة، الغبار والطقس الحار... وهذه الطرقات أو بالأحرى المسالك الترابية الوعرة المشقوقة في الجبال، هي التي يتنقّل عليها العسكريون يوميًا.
من طريق عام جديدة الفاكهة توجّهنا شمالاً على المسلك المؤدّي إلى الجرود. هذا المسلك هو طريق للآليات العسكرية فقط. نبحث عن إرسال في الهواتف فلا نلتقطه سوى في نقاط قليلة محدّدة على التلال. نشاهد ملالات عائدة من الميدان، لونها من لون الأرض وقد رفعت صور الشهداء الذين سقطوا خلال هذه المعركة، والأعلام اللبنانية.
العسكريون يقفون في ملالاتهم رافعي الجباه. خلفهم صفحة بشعة لجرود شوّهها الإرهاب، وأمامهم صفحة أملٍ وطمأنينة لأهالي المنطقة، وبين الصفحتَين دمعة لرفاق أحباء...


استمتعوا بالألوان
أقلّنا العريف أول علي المصري الذي شارك في المعارك، ومعه العريف محمد قدّور. كانا يوميًا يقلاّن العسكريين وينقلان الحاجيات إلى الكتيبة وسط الجرود.
سرنا وسط غبار وشمس حارقة وعطش... أغلقنا الشبابيك لنخفّف تسرّب الغبار والرمل إلى عيوننا وصدورنا. يمازحنا النقيب بو زغيب: تتدرّج ألوان الغبار على طول الطريق من الأبيض إلى الرمادي فالأصفر والبني والأحمر، بحسب نوع التربة التي نمرّ عليها... استمتعوا بالمشهد، لكن اشربوا ماء...
على مسلك واحد وحيد ومحدّد، ثلاث آليات الواحدة تسير خلف الأخرى، ممنوع الخروج عن المسلك المؤرّف والآمن 100% يقول النقيب بو زغيب. نتوقّف عند مركز الكتيبة 62، هنا كانوا يجهّزون المنقل والمشاوي، فقد انتهت المعركة وهدأ بالهم و«صار بدّا قعدي مع الشباب». يدعوننا لمشاركتهم ولكننا نتابع جولتنا، ونشكرهم على الحلويات والمشروب والمياه.

 

سندرّس هذه المعركة في الكلّيات
سألنا النقيب بو زغيب عن مشاركته في هذه المعركة فأخبرنا: كنا ننفّذ مهمّة هجومية بحتة بدأت من حقاب خزعل، الأمر الذي فاجأ العدو، فحين دخلنا مراكزه ودشمه لاحظنا أنها موجّهة باتجاه الغرب أو الشمال أو الشمال الغربي، في حين كنا نضربه من الجنوب والجنوب الغربي، أي المحور الأقل تدشيمًا، ما كبّده خسائر كبيرة، فاضطر إلى إخلاء أماكنه باتجاه الشرق.

 

• ماذا عن التحضير لهذه المعركة والتدريبات وكيف ذللّتم الصعوبات؟
- حين تلقينا أوامر المهمة باشرنا بالتحضير لها وبتدريب العسكريين على هذا النوع من القتال قبل حوالى 20 يومًا من المعركة. وقبل ذلك كانت وحدات اللواء تشارك في مخيم تدريبي على طرق القتال في الجرود وفي الأراضي الوعرة، وعلى الرمايات الكثيفة بمختلف أنواع الأسلحة. لذلك كان العسكريون مؤهلين تمامًا لهذا النوع من القتال.
بالطبع واجهتنا صعوبات نظرًا إلى طبيعة الأرض والمناخ، بالإضافة إلى أعطال في الآليات، لكن هذه الأعطال كانت تعالج فورًا. الاتصال كان مؤمّنًا من خلال عدّة وسائل داخل كل آلية... مشاكلنا كانت محدودة وتعالج مباشرةً مع قيادة المجموعة العملانية.
مشاركتنا في هذه المعركة عزّزت خبرتنا، وعلّمتنا أمورًا مهمّة. نحن نشعر بالفخر للمشاركة في هذه العملية الكبيرة التي أدّت إلى طرد مجموعة إرهابية هي الأخطر في العالم وفي وقت قياسي... ويومًا ما سوف نتقدّم في حياتنا العسكرية وندرّس هذه العملية في الكلّيات العسكرية.

 

قد يأتي العمران إلى الجرود
هنا منزل بناه أحد «الدواعش» وكان قد جهّز غرفةً فيه وزيّنها بالورود وكأنها لعروس جديدة... وهناك غرفة فردية، خيم للمزروعات، أوعية لإطعام الماشية، خزان مياه، بيك آب معطّل، شاحنة نقل منفجرة، سيارة محطّمة... مبانٍ متفرّقة بعضها مدمرّ، وبعضها الآخر اخترقته طلقات المدفعية والرصاص... ومع تقدّمنا بدأنا نشاهد التلال التي كان الجيش يتقدّم عليها، حليمة قارة وحليمة القبو وما بينهما وادي مرطبيا، هذا الموقع الوحيد الذي نرى فيه اللون الأخضر وسط الصحراء القاحلة.
120 كلم2 من الجرود تحتاج كلها للتنظيف من الألغام والتفخيخات... قد يأتي يوم أشتري فيه قطعة أرضٍ هنا وأبني منزلاً قرويًا، وربما قد تعمر هذه المنطقة وتُشيَّد فيها المشاريع السكنية، يقول النقيب بو زغيب.
وصلنا إلى تلّة الخشن (ضهور التينة)، حيث مركز الكتيبة 63، من هنا يظهر الكف ومرتفع خزعل من الغرب والجنوب الغربي باتجاه الشمال. عسكر مع آلياتهم وملالاتهم ينتظرون الأوامر، منهم من ينظّف سلاحه وآخرون يتبادلون الأحاديث. الملازم جاد زغيب من هذه الكتيبة تخرّج من الكلّية الحربية في العام 2016. يقول: كانت مشاركتي في هذه المعركة التي انتصر فيها الجيش، ربحًا لي واختبارًا لن أنساه أبدًا كونه أول مهمّة في مسيرتي العسكرية. لم نشعر بالخوف ولكننا كنا نحمل همّ العسكريين، فأنا آمر فصيلة مؤلّفة من 30 عنصرًا، يعني هناك 30 عائلة في رقبتي.
ويتابع قائلاً: تقدّمنا على التلال وتمركزنا، كنّا نحزن كلّما أصيب عسكري، ولكن ذلك لم يكن يحدّ من عزيمتنا بل كان يحثّنا على المتابعة لتحقيق النصر وفاءً لدمائهم. أصعب ما واجهناه هو الألغام، كان علينا الهجوم والتقدّم، والنظر في الوقت عينه تحت أقدامنا وأمامنا، فالخطوة الأولى قد تكون الأخيرة...

 

جنود وسط النار
هناك حيث نصبوا خيمهم تحت الشمس الحارقة، كانوا يرتاحون قليلاً، سُحناتهم ملوّحة بالشمس، ووجوههم معفّرة بتراب الوطن جلسنا في ضيافتهم قليلاً وتحدثنا عن معركة ما زال هديرها في آذانهم، عن لحظات لن تنسى، وعن رفاق غابوا وما زالوا حاضرين. المؤهل أول سالم ديب من اللواء السادس (الكتيبة 62) يقول: هنا كانوا، ومن هنا طردناهم إلى غير رجعة... كان يومًا مجيدًا يوم صعودنا إلى تلّة شميس عجرم، وهجومنا على قلد الثعلب وكان آمر الفصيلة، يتقدمنا. اشتبكنا مع الإرهابيين، انسحبـوا تحت وطـأة نيراننا هاربين، فاحتللنا تلال قارة، ورفعنا العلم اللبناني على آخر نقطة على الحدود اللبنانية – السورية. والمعنويات كانت نار... وقد عالجناهم بالنار، وكنّا نتمنى أن نأخذ بثأر رفاقنا.

 

«بحياتها ما صارت»
العريف علي محمود من الكتيبة نفسها، هو عامل الإشارة في اللواء، يخبرنا انّ عمليات المراقبة المستمرة، والإحداثيات التي كان يتمّ التبليغ عنها أولًا بأول، منعهتم من تشغيل نيرانهم.
يصمت العريف قليلاً، ثم يقول: العماد قائد الجيش، كان هنا، أتى إلى الجبهة، هذه سابقة. «بحياتها ما صارت». رسالة رئيس الجمهورية أعطتنا أيضًا دفعًا معنويًا كبيرًا.
كان فرحنا كبيرًا عند إعلان النصر، كلّفنا قائد اللواء برفع العلم اللبناني، فصعدت الملّالة المدرّعة «غرندايزر» حاملة عناصر من اللواء وزرعت العلم على التلة، وكانت أرضنا لنا.
الكتيبة 63، كانت كتيبة احتياط في ثانوية اللبوة يقول الرقيب أحمد السيد لكن عندما نادانا واجب الدفاع عن أرضنا لبّينا النداء وصعدنا إلى جرود رأس بعلبك، حيث كانت مهمتنا السيطرة على تلال محددة في هذه الجرود.
اشتبكنا مع الإرهابيين وحاربنا بشراسة يصعب تصوّرها؛ كنا مصممين على تدمير هذا «البعبع» المزعوم. لم نخف أبدًا فقد تدرّبنا جيدًا، قيادتنا قدّمت لنا كل الدعم؛ رؤساؤنا كانوا أمامنا في مقدمة الصفوف، وأكثر من ذلك نملك خبرة في مواجهة الإرهابيين، ونحن نؤدي رسالة مقدسة.
مبروك النصر لقيادة الجيش وأهالي الشهداء وأهلنا وعائلاتنا وللبنان كلّه، ونحن مستمرون حتى آخر نقطة دم، وحتى آخر شبر من أرض الوطن.

 

كنّا يدًا واحدة
نتابع جولتنا، نلتقي الرقيب أول علي خضّور آمر حضيرة في الكتيبة 63 «تحياتنا حضرة الرقيب». يبتسم ويقول: في المعركة يصبح الجميع واحدًا. الضباط والرتباء والعناصر، يتحركون كجسم واحد لتحقيق الهدف.
ويتابع قائلاً: كانت المدفعية تضرب على الأهداف البعيدة، ومن ثمّ نرمي بالسلاح الثقيل الدشم والتحصينات، لنتقدّم بعدها في طرقات محفوفة بالألغام. على الرغم من كل شيء كانت معنوياتنا «تمام التمام»... لأنّ ما واجهناه كان الأصعب وتغلّبنا عليه.
آخر من التقيناهم هناك، كان العريف قاسم فقيه من الكتيبة نفسها (63). هو يشعر بفخرٍ كبير لأنه شارك في معركة تاريخية انتصر فيها الجيش اللبناني على عدوّ لم تستطع الدول الكبرى الانتصار عليه. يقول: خلال المعركة كنّا يدًا واحدة، من أدنى رتبة إلى أعلى رتبة، تعاونّا وتقدّمنا بشجاعة واندفاع، ولذلك نجحنا في المهمّة.
أنا في الجيش منذ حوالى 10 سنوات، هذه المعركة الأولى التي أشارك فيها، وهي أعطتني خبرة كبيرة ومعنويات عالية. دمي فداء للوطن وسوف أقاتل لأحميه من كل عدو... ودّعناهم وانتقلنا إلى محطّة أخرى في فوج التدخل الأول.

 

وسقطت التلال...
إلى ضهور الخنزير مجددًا... ما شهدته تلك التلّة يروي بعضًا منه الرائد فادي بو عرم آمر السرية الرابعة في فوج التدخل الأول: مهمتنا بدأت في 16 آب وكانت تقضي بمهاجمة ضهور الخنزير وحقاب خزعل واحتلالهما. كُلِّفَت سريتنا بتأمين التغطية النارية لدخول السرية الثالثة إلى ضهور الخنزير من تلة 1690. صعدنا إلى التلة بواسطة الـUTV. انقلبت بنا الآلية بسبب وعورة الطريق، أُصبت والعسكريين بجروح طفيفة، لكننا أكملنا...
عند وصولنا إلى أعلى التلة، انهمرت علينا النيران، اشتبكنا مع الإرهابيين، وكنّا في الوقت نفسه نفكّك العبوات التي زرعوها حول الدشم أعلى التلة. في أثناء الاشتباك أصيب عنصر من فوج الهندسة برصاص الإرهابيين، استطعنا سحب الجريح بالرغم من كثافة النيران. وسيطرنا على ضهور الخنزير فمنعنا وصول الإمدادات إلى المجموعات الإرهابية.
ويشرح الرائد بو عرم: في مرحلة لاحقة صعدنا إلى تلال خربة الشميس المطلّة على سهلات خربة داود بينما كان الفوج المجوقل واللواء السادس قد سيطروا على التلال عن يسارنا. راحت التلال تتساقط الواحدة تلو الأخرى. تقدمنا بسرعة كبيرة، «العسكر» كان يصل راجلًا بعدما توصله الملالة إلى أسفل التلة، فيصعد ويستولي عليها، ومن ثم تصعد الجرافات والملّالات.
آخر مهمة نفّذناها كانت مهاجمة قراني مكيال فرح، وحقاب الحمام، وقراني العقيب، التي تبعد عن مركز الإرهابيين في راس الكف حوالى 1800 متر. هاجمناهم من الشمال الشرقي باتجاه الجنوب الغربي. كانت المهمّة تتطلّب مزيدًا من التيقّظ والحذر بسبب وجود قوات صديقة على يسارنا.
بعد أن دخلت السريتان الأولى والثانية ووصلت سريتنا، حصلت اشتباكات عنيفة، فقد تمركزنا قريبًا جدًا من عقر دارهم في سهول حورتا والمدقّر؛ استخدمنا كلّ أنواع الأسلحة، وأصيب عنصر في صدره، لكنه أسعف بسرعة كبيرة.

 

كميات هائلة من الأسلحة والذخائر
تابعنا احتلال التلال، قتل وهرب عدد كبير من الإرهابيين، فدخلنا مراكزهم، وبدأنا تمشيط المنطقة. وجدنا كميات هائلة من الأسلحة والمتفجرات في المغاور والمخازن. بعدها أصبحت مهمتنا تأمين الدعم الناري للقوى المهاجمة.
وعن نقاط القوة في أداء الجيش خلال المعركة، قال الرائد بو عرم: الخطط التي وضعت والمناورات التي نفّذت، أربكت الإرهابيين. فقد هاجمناهم على عدة محاور، وكانت كثافة النيران نقطة لصالحنا، وكذلك عديد القوى الراجلة.
لم يقصّر العسكريون لا بل اضطررنا إلى التخفيف من اندفاعهم حفاظًا على سلامتهم، كان المكلّفون منهم بتموين الذخيرة يطلبون المشاركة في القتال على الخطوط الأمامية. لقد أظهر العناصر خلال هذه المهمة احترافًا كبيرًا هو ثمرة تدريب مكثّف.

 

التسلق عاموديًا: كما في الأفلام
الرقيب أول حسين ناصر من سرية المدرعات في فوج التدخل الأول كان آمر حضيرة، وهو يقول: كان علينا احتلال تلة ضليل الأقرع والتي مكّنت الجيش من السيطرة بالنار على المعبر المؤدي إلى وادي حميّد. بعد تفتيش التلّة أقمنا، قاعدة نيران. وفي مرحلة لاحقة تقدّمنا وتمركزنا في الوادي، ثم صعدنا لاحتلال ضهور الخنزير، حيث واجهنا تشريكة نصبها الإرهابيون وكان يمكن أن تطيح بفصيلتنا بأكملها لولا تنبّه العسكر ويقظته؛ فقد ملأ الإرهابيون بالمتفجرات دلاء حليب بحوالى 25 كلغ في كلٍ منها، وقاموا بتوزيعها وطمرها على التلة، وإخفاء أسلاكها بواسطة الصخور.. أكملنا طريقنا نحو أعلى التلة، فصرخ أحد العناصر مبلّغًا عن لغم، توقّف الجميع بانتظار خبير الألغام الذي حضر وفكك هذه التشريكة الخطيرة.
الخطر الأكبر الذي واجهناه كان الألغام، والقنص. مع ذلك تقدّمنا، تسلّقنا تلالاً تكاد تكون عامودية حاملين جعبنا وأسلحتنا، ونفّذنا مهمتنا.
وقال أخيرًا: منذ تبلغّنا قرار المعركة كان همّنا الأساسي معرفة مصير رفاقنا الأسرى، وقد تأثّرنا كثيرًا عندما تأكدنا أنهم استشهدوا، عزاؤنا أنّ مصيرهم انكشف وأنّهم عادوا إلى تراب وطنهم الذي احتضنهم شهداء يشرّفون أهلهم ووطنهم.

 

«الله يرحم الشهدا»
شارك الرقيب أول عمر النابوش من السرية المؤللة الثالثة (رامي رشاش 14.5) في مهمة تلال ضهور الخنزير القاسية كما يصفها ويقول: اضطرت الجرافات لشق طريق للآليات، ثم صعدت الحضائر راجلة لتثبيت قواعد النيران للأسلحة المتوسطة، وتبعتها الملالات فسيطرت على التلة... اشتبكنا مع المسلّحين، فارتبكوا وتضعضعوا، بعد أن قتل وأصيب الكثير منهم...
كان العسكر متيقّظًا ولم يتلكأ أو يتعب، المعنويات «في الجو» الجهوزية نهارًا وليلًا. أعمال التسلل والمحاولات الإنتحارية تركّزت بشكل خاص خلال الليل. لذلك، كلما لاح ضوء في البعيد كنّا نعالجه فورًا، فالتنسيق بين المراقبة والرمي كان تامًا.
وختم بالقول: «الله يرحم الشهدا»، وهذه العملية حصلت بشكل أساسي لمعرفة مصيرهم ولردّ الجميل لهم. شهادتهم ثمينة ونفتخر بها جيشًا ومواطنين.

 

قاتلنا باندفاع لا مثيل له
في المحطة الأخيرة لنا في فوج التدخل الأول، كانت بانتظارنا مفاجأة: الجندي محمد عواضه من السرية المؤلّلة الثالثة يروي لنا كيف أحبط بواسطة آر بي جي محاولة تسلّل شاحنة مفخخة لو وصلت إلى هدفها لأحدثت كارثة. يقول «حين كانت السرية تتقدّم في معبر اللزّابة، اشتبكنا مع الإرهابيين بالأسلحة الثقيلة، وفي هذه الأثناء راحت تقترب من مركزنا شاحنة مصفّحة. على الرغم من التغطية النارية الكثيفة التي كانت تؤمّنها مدفعيتنا، تابع سائقها تقدّمه غير آبه بالقصف الكثيف، وبما أنني رامي قاذف آر.بي.جي مضاد للآليات، تقدّمت إلى الأمام حوالى 150 مترًا بأمر من آمر السرية الرائد سمعان معوض لمعالجة الوضع. ورميت من القاذف وأصبت الشاحنة إصابة مباشرة. كان انفجارها هائلًا، لقد كانت مفخّخة بكميات كبيرة من المتفجرات وقوارير الغاز لزيادة عصفها وأذيتها...».
ويتابع قائلاً: عندما كنا في منطقة ضهور الخنزير، كان الانتحاريون يتسلّلون ليلًا في محاولة لتفجير مراكزنا، لكنهم لم ينجحوا بذلك أبدًا. فبفضل التدريبات التي تلقيناها، واستباق المشاكل ذهبنا إلى المعركة ونحن مستعدون لأي طارئ أو عائق يصادفنا، خصوصًا وأن رؤساءنا كانوا بيننا، فقاتلنا باندفاع لا مثيل له.

 

سرية المهمات المتقدّمة: جندي مجهول خلف ستار المعركة
كان للفوج المجوقل دور أساسي في هذه المعركة إذ سبق أن نفّذ سلسلة مهمات في المنطقة اعتبارًا من العام 2013، وبالتالي فهو يعرف طبيعة الأرض وقد اكتسب خبرةً في مواجهة الإرهابيين.
سرية المهمات المتقدّمة في الفوج اضطلعت بدورٍ محوري، فقد كان عليها تعريف الوحدات الكلاسيكيّة المشاركة بطبيعة الأرض وأساليب العدو وفق ما أفادنا آمرها النقيب جورج الحصري. وهو يضيف: ساهمنا في تصحيح رمايات المدفعية وتحديد أهداف في العمق لا تستطيع القوى المهاجمة رؤيتها، ولكنها أهداف دقيقة ومهمة. ولكن ما سرّع إنجاز هذه المهمة، هو سلسلة عمليات خاصة نفّذناها في الجرود خلال السنوات الأربع الماضية، إذ نفّذنا إغارات على أهداف للعدو جعلته في موقع الدفاع بدلاً من الهجوم. ومن جهة ثانية اختبرنا جيّدًا ردّة فعله QRF- Quick reaction force وبنينا خطّة نيراننا استنادًا إليها. ويتابع قائلاً: سريتنا هي التي بدأت باستخدام الـ Copper Head (قذائف موجّهة بالليزر) وقامت بتعليم أسلوب استخدامها لباقي القوى. هذا السلاح كان جديدًا في معركتنا ضدّ الإرهابيين، وبواسطته بدأنا منذ سنة تقريبًا تحقيق الأهداف خلف خطوطهم.
 

• ما هو أكثر ما أثّر بك في هذه المعركة، وما هي الدروس التي استقيتها منها؟
- تأثّرنا كثيرًا حين وصلنا إلى المرتفع 1564، حيث رفعت السرية صورة الرقيب الشهيد محمد السبسبي الذي استشهد خلال تنفيذنا إغارة على هذه التلّة في 9-10/3/2016. وشعرنا بالفخر عندما اكتشفنا أنّ العمل الذي قمنا به خلال السنوات الأربع الماضية لم يذهب سدًى. فما جمعناه وحلّلناه كان صحيحًا ودقيقًا، وصراعنا اليومي مع الإرهابيين أكسبنا خبرة مهمّة، وهذا ما تحقّقنا منه على الأرض.
أمّا أبرز ما تعلّمناه من هذه المعركة، فهو أهمية معرفتنا بالأرض، فمن يعرفها ويسبق إلى مفاتيحها هو الذي يربح. لقد جهّزنا للأصعب ولكن المهمة كانت أسهل ممّا توقّعنا، وهذا نتيجة التحضير الجيّد الذي سهّل المهمّة. فما حقّقته «فجر الجرود» كان استثمارًا لعملٍ على مدى أربع سنوات.

 

المجوقلة الرابعة في حقل ألغام
يخبرنا النقيب ناصيف بو حنّا آمر السرية الرابعة عن مهمّة سريته في المعركة، فيقول: لقد أوكلنا بمهمة الجهد الرئيسي من جهة الجرش ومخيرمة 1 ومخيرمة 2 وحتى تلال 64 وخلف. انطلقنا عند الثالثة فجرًا من الجرش، نفّذنا تسلّلاً راجلاً مستخدمين المناظير الليلية ومدعومين من قنّاصي القوة الضاربة.
وصلنا إلى المخيرمة 1 متجاوزين صعوبة الأرض الوعرة، خصوصًا وأننا كنا نتسلّل ليلاً. سيطرنا على هذه التلة يدعمنا قصف مدفعي وجوي على الأهداف أمامنا، ثم انتقلنا إلى المخيرمة 2 حيث بدأنا بمواجهة الصعوبات والمشاكل. كان الوقت مازال ليلاً، تعرّض أول عسكري من القوة الضاربة لانفجار لغم. تمركز العناصر ومنعنا الجميع من التحرّك تحسّبًا لأي أفخاخ أخرى. ومع طلوع الفجر اكتشفنا أننا وسط حقل ألغام، حيث النسفيات مشروكة إذا انفجرت واحدة، فجّرت معها سلسلة أفخاخ وتسبّبت بضرر أكبر، وبدأنا نواجه إطلاق نار كثيف من العدوّ أمامنا.

 

من صخرة إلى صخرة
كان العدو قدّ ركّز ثقله على هذه التلّة متوقّعًا أن ينصبّ الجهد الرئيسي عليها. تمركزنا وركّزنا الأسلحة الإجمالية MK19 و12.7 وقناصين، وتواجهنا مع العدو الذي كان يرمي علينا بالـPKC والمضادات من تلّة الكف، على مسافة حوالى 700 م. تدرّؤ العناصر وتراجعهم كان مثاليًا، سيطرنا من بعدها على التلّة وكان عناصر الهندسة (4 أرهاط) يعملون على تفكيك الألغام في دشمة أمامنا حيث انفجر لغم بعنصر وبُترت رجله. عندها حذّرنا كل العسكر من السير على التراب، واعتمدنا التنقّل على الصخور، كنا نقفز من صخرة إلى أخرى لنتقدّم.
تابع عناصر الهندسة عملهم لكن عسكريًا آخر أصيب. كان يتقدّم متجنّبًا نسفية ظاهرة، فداس على لغم مخفي يصعب كشفه حتى بالكشّافة لأن الذخيرة كانت في كل مكان. تقدّم الرقيب أول الشهيد وليد فريج ليفكّك اللغم فانفجر به. وحين دخل المعاون سيبوح وهو مسعف متقدّم من سريتنا، لإسعاف المصاب، تعرّض أيضًا للغم وبترت رجله.
كان المشهد صعبًا جدًا يقول النقيب بو حنا، لكننا حافظنا على رباطة الجأش والمعنويات العالية. وضعنا نصب أعيننا أنّ هذه التلّة (المخيرمة 2) لنا، وممنوع التخاذل أو الإنسحاب مهما اشتدّت الصعاب.
تقدّمت الجرافة وفتحت الطريق لإيصال الآليات ومدّنا بالذخيرة. سيطرنا على التلّة وتابعنا التقدّم. في هذا الوقت كان على يميننا الجهد الثانوي حيث تلّة العش (السرية الثانية)، وعلى يسارنا جهد تضليلي بالملالات في وادي رافق (السرية الثالثة)، ما أربك العدو.
اليوم الأول كان الأصعب بسبب التفخيخات ونيران العدو، ولكن الأيام الباقية كانت تقتصر على التنظيف وفتح الطرقات. تقدّمنا وتابعنا أخذ المراكز مع باقي القوى، في طريقنا وجدنا الكثير من الأسلحة والقنابل والأفخاخ والألغام الأرضية، والأحزمة الناسفة التي تركها العدو خلفه.

 

مرّ وقت طويل
يتحدّث الملازم أول رياض الذبياني مساعد آمر السرية الرابعة عن أيام وساعات كان أصعب ما فيها القلق على سلامة العسكريين وسط ظروف المعركة الصعبة: الأفخاخ، الأرض، الطقس، والغبار الذي سبّب حالات ربو وحساسيّة للعديد من العسكريين، عدم النوم... في بعض الأماكن لم يكن من الممكن إشعال النار، الحرس مستيقظ طوال الوقت ومنتشر على الأرض، البقاء في الملالة مستحيل، فقد تتعرّض لنيران الصواريخ والمدفعية.... وعلى الرغم من كل المخاطر، كان العسكـريــون يتمتّـعــون بالإرادة القوية وملتزمون واجبهم إلى أقصى الحدود، في بعض الأوقات كنت أضطر لتهدئتهم فالاندفاع الزائد مصدر خطر خصوصًا وأننا في أرض مزروعة بالألغام.
بالنسبة إلى الملازم أول جنيد درويش (آمر فصيلة في السرية الرابعة) أي مهمة يكلّف بها الفوج مستقبلاً ستكون سهلة نظرًا إلى الخبرة التي اكتسبها على مدى سنوات في الجرود وخلال المعركة الأخيرة. أما حاليًا فأكثر ما ترغب به الفصيلة كما سواها من الوحدات، هو العودة إلى مقر الفوج «حيث نجتمع مجددًا، نتدرّب، نمارس الرياضة، مرّ وقت طويل من دون أن نلتقي سوى عند تبديل المأذونيات...».

 

أنا بخير ساعدوا رفاقي...
المؤهل أول طوني يوسف من السرية نفسها، شارك في معركة نهر البارد. يقارن بين المعركتَين: الأولى كانت قتال شوارع، كنّا نجد أماكن لنحتمي ونتدرّأ ونتقدّم... في الثانية قاتلنا في الجرود حيث لا جدران ولا حتى شجرة تحمينا، كنّا نتقدّم في العراء. ولكن تكتيك الإرهابيين في المعركتين كان واحدًا، تفخيخ ونسفيات لعرقلتنا أو لكشف جهة تقدّمنا، وعلى الرغم من كل شيء، هزمناهم وحقّقنا الانتصار.
الرقيب أول بلال الخطيب مسعف ميداني ثانوي في السرية، أصيب رفيقه المعاون سيبوح (المسعف الأساسي) بينما كان هو يسعف مصابًا من الهندسة. حملته وأخليته، يقول، وعدت لإخلاء سيبوح و4 عناصر أصيبوا بعبوة داخل دشمة كانوا ينظّفونها. دخلت لمساعدتهم، لا يمكنني أن أصف هذا المشهد. لا أدري كيف استطعت استيعاب الصدمة. أحمد الله الذي أعطاني القوة لكي أسعف المصابين وأخليهم بمساعدة الرفاق. أخلينا الشهيد فريج والمسعف سيبوح الذي كان يعطينا معنويات ويمزح ويغني لكي ينسى وجعه. وكان يقول: أتركوني أنا بخير ساعدوا فريج وضعه أدقّ. على الرغم من إصابته ظلّ واعيًا ومتفائلاً، قال: لا تقف متفرّجًا أريد أن أعيش خلّصني! فرحت أفكّر إذا كان هذا المصاب الموجوع يعطينا المعنويات ويقوّينا، فأقل ما نفعله هو تحقيق النصر.

 

تفخيخ لم يرَ الأميركيون مثله...
آمر سرية خبراء الذخيرة والمتفجرات الرائد الياس حاتم شرح دور السرية في المعركة، موضحًا أنها تُعنى بتفكيك وتعطيل ومعالجة ذخيرة وعبوات غير نظامية. وقد توزّعت أرهاط من هذه السرية على المحاور مع جميع القطع المشاركة. فقبل تقدّم أي مجموعة كان رهط من الخبراء يفتّش البقعة ويؤمّن دخول القوى.
 

• ما هي أنواع التفخـيخـــات التـــي واجهتموها؟
- كان الجزء الأكبر من العبوات مصنّعًا يدويًا بالأسلاك والتلحيمات. لقد فخخوا كل نقاط المحاور بعبوات كبيرة متشابكة، مشكّلين بواسطتها عدّة خطوط دفاع: الخط الأول بالأسلاك، الخط الثاني حول الدشم بالألغام وهذا كان الأخطر بالنسبة إلينا، والخط الثالث عبوات تعمل على الطاقة الشمسية يتركها العدو خلفه عندما يندحر وينسحب، ويستمرّ عملها بعد أن يبتعد.
كنّا نواجه أمورًا جديدة وندخل أماكن خطرة، كالمغاور والخنادق قبل باقي القوى، والأصعب أنها أرض جديدة لا نعرف معالمها ولا تفاصيلها، بينما يعرف العدو كل دهاليزها. على الرغم من ذلك، حافظ عسكريونا على رباطة جأشهم وقاموا بعملٍ رائع.
وختم قائلاً: بشهادة ضباط أميركيين فإنّ ما واجهناه في هذه المعركة كان تكتيكًا مختلفًا عن كل ما استخدمه الإرهابيون في أي مكان آخر. لقد قالوا إنهم لم يروا مثيلاً لهذه التفخيخات لا في العراق ولا في أفغانستان ولا في أي مكان آخر. لكننا فهمنا طريقة عمل العدوّ وتفكيره منذ اليوم الأول وتأقلمنا مع الوضع، ما سمح بالحدّ من الخسائر والإصابات.
قبل الغروب بقليل كنّا نغادر، خلفنا جرود بزغ فيها فجر الانتصار والأمان، وأشرقت شمس أملٍ لغدٍ أفضل.