بلى فلسفة

على مشارف البطن
إعداد: العقيد أسعد مخول

طويت معالجة هذا الموضوع منذ حرّ الصيف حتى قرّ الشتاء الذي نحيا الآن في حماه, لكي أجرّبه بارداً, تماماً كما جرّبته حاراً ساخناً مشويّاً في هجير الشّمس, مقليّاً على نار الرّمال.
قلت آنذاك إن سخونة الجو تدفع كل إنسان, بشكل أو بآخر لأن يخفّف ثيابه, ولأن يتمنّى انتزاعها كاملة عن جلده, لكن الليّاقة, بنسب متفاوتة بالتأكيد, تمنعه من ذلك. أما المرأة, في بعضها, فقد استثنت نفسها واختصرت ثيابها ولوّنتها وشففتها, وعدّلت في هندستها, الى أن قررت أخيراً نشرها في جزءين اثنين يفصلهما بطن آمن مستقر.
كنت في ايام الهجير أظنّ أن سخونة الطقس هي الدافع لذلك التّعديل, وأنّ الكيان الجغرافي المعروف عندنا يسمح للمرأة, في بعضها أيضاً, بأن توزع “نشاطها” بين البحر والجبل, فترتاد الأول ساعات قليلة, ثم تبتعد عنه الى قدمي الثاني, وتمرّ بعدهما بصدره, الى أن تصل الى رأسه, تاركة رأسها هي في مخبأ بحري يسمّونه “شاليه”, إذ أنها لا تحتاج إليه في الجبل, فقد تجد هناك رأساً أو رأسين أو رؤوساً تفكر عنها, وما عليها هي إلاّ أن تصطفي وتختار المفكّر. أمّا لماذا تحتاج لرأسها في الموقع الأول فالسّبب واضح, وهو أنّ ذاك الرأس يحميها من الغرق, بينما يكون الغرق في الموقع الثاني من نصيب غيرها, وليس لها عندئذ إلاّ أن تتأوه وتبدي أسفاً.
كان في ظنّي إذن, أنّ ثياب البحر قد تصلح مع بعض الزيادات التي تفرضها الظروف, ويؤدّي اليها واقع الحال, وأنّ ما يُرى عند الشاطئ يطبع في الذاكرة لا محال, ولا تمحوه ظلال الأشجار والصّخور التي يدلف إليها الدالفون. إذ ما الدّاعي لأن تشدّ المرأة فستانها ­ وقد أصبح نادراً ­ الى الأعلى أو الى الأسفل, أو أن تشدّه أفقياً نحو جارة لها أو جار, وقد كانت تقترب قبل لحظات من العودة, في حضرة البحر والبحّارين, الى الحالة التي خلقها بها اللّه؟
ويذكّرني ذلك, على طرف آخر, بصاحب قديم, أبعدت الأيام بيني وبينه, رأيته مرة قاصداً البحر بكامل هندامه, لا بل مع بعض السّتائر الإضافية, فقلت له:
­ ما لك وللبحر وأنت على هذه الحال. دعه لأصحابه يا رجل.
قال: إنّه مفيد, مياهاً وشمساً. لقد نصحني به الطبيب.
قلت: وما نفعك فيه وأنت مصطحب معك دكّان ألبستك؟
قال: أفعل ذلك احتشاماً.
قلت: ما دام هذا هو العنوان, فوجّه جسدك الجميل الى شاطئ خال كي لا يراه أحد.
قال: إن لم يرني “العبد”, ألا يراني الله؟
وقد سألني الصاحب بدوره:
­ وأنت, لم َلا تذهب الى البحر سابحاً مستجماً من وقت لآخر؟
قلت: إنني لا أملك أدب البحر.
قال: لا أرى أنّه ينقصك الأدب. ثم, هل يوجد في البحر أدب؟
قلت: ما أعنيه هو أنّه كما للقلم والورقة أدب, هناك أدب للبحر. وللطعام أدب, وللسهر أدب, وللكأس أدب, وللحب أدب... إن الأدب هنا هو الأسلوب, هو مجموع التّصرفات والكلمات والابتسامات, والحسرات أيضاً والآهات, والنجاوى والمواعيد... فمن غير المقبول أن تحكي في البحر ما تحكيه في البيت. أو أن تلبس فيه ما تلبسه في مكان العمل. أو أن تأكل فيه ما تأكله في المطعم. ألا يلفتك القول المعروف “لكل مقام مقال”؟
... أعود الى الشتاء مقابلاً بين البطنين, بطنه وبطن الصيف, فإذا البطنان, في أكثر من مرة, واحد, وإذا المسـألة مسـألـة طبع لا مسألة حرّ وبرد, فكما أن هنـاك مكشوفاً تحتاج وأنت تراه في الشـتاء الى غصن سنديان تلفحه به, هناك أيضاً مغطّى مغمور تحتاج الى ملقاط, كذاك الذي يُلتقـط به الجمر, لتنـزع عنه النّار في هجيـر الصيف ولهيبـه. ففي الاحتجاب أحياناً غياب و”سرساب” وذهاب ليـس بعده إياب, كما أنّه في بعـض السّفـور نفـور لا تمحوه الدّهور...
لكنْ, ماذا رأيت في الشتاء؟ رأيت بطناً كذاك الذي كنت أراه في الصيف, بطناً بارزاً سافراً ناطقاً بما لا أفهمه, فائضاً عن سياجه, متخطياً ضفّتيه, يميل الى الطوفان بخطر, وينهمر فوقه المطر. وكانت صاحبته تسرع الخطى وقد قطّبت جبينها تقطيب من يتّقي الماء المتساقط لا تقطيب الحزن أو الغضب. نشأ المشهد في جوار مؤسسة تجارية “تبيع” العلم والمعرفة, وكنت أرى صاحبته تقترب مسرعة وهي تشدّ, لفرط البرد, سترة إضافية أضافتها الى جلدها ­ وهو الرداء الأساسي الذي تعتمد عليه. كانت السترة صغيرة قصيرة, ناعمة لامعة, تعلو فوق الخصر, غير مقفلة من الأمام شبه موصولة من الخلف, على جانبيها أزرار صالحة للإستعمال, لكنّ الإخلاص للمبادئ الجمالية الحديثة لا يسمح بذلك. إنّ على المرأة العصرية الأنيقة الشاعرة (أي تلك التي طفح كيل المشاعر لديها) أن تقاوم البرد وتواجه الصقيع, وأن تتحدى الطقس المطير, وأن تشرّع بطنها للريح والزمهرير, ويُسمح لها فقط لا بل يُطلب منها, أن تستسلم أمام سلطان وحيد هو سلطان الحر في البحر وفي البر, وأن تتكيف معه وتتفاعل وتتآكل وتتناقص وتتخاصر... وعليها أن تقاوم البرد وحده, وأن تعانده, وأن تهمله وتتناساه, وإن شعرت بقساوته ­ وهذا غير مرغوب أبداً ­ فما عليها إلا أن تتناول مسكّناً في حبة صغيرة من الدّواء, يلهب معدتها من جهة, فيشتعل بطنها من جهة أخرى, والإثنان, البطن والمعدة, وجهان لعملة بشرية واحدة, أحدهما مطوي مخفي, وثانيهما ظاهر بائن واضح, في وسطه نقطة مركزية تدور حولها الدوائر, وتُرفع عنها الحرائر, وتُنتهك السرائر, وتُضاء المنائر, وتُصوّب المحاجر, وتُسفك المحابر...
هذا ما رأيتـه في الشّتاء. إنّها رؤية تقيمني وتقعدني كرؤيةِ من نوع آخر ومختلفة تماماً, رأيتها في الصورة فقط, تقوم على شكلين اثنين يلف كلاً منهمـا قماش شامل وسيع, يقبـع أحدهما على الأرض, فيمـا الآخر يصوّب الى “ما يشبه رأسه” سلاحاً, في مشهد يعيد الى رؤوس الأحياء ما قاله شفيق المعلوف الأديب في زمن الأدب: “وَيحك يا إنسان!”.