ثقافة وفنون

عمر الزعني فولتير العرب
إعداد: وفيق غريزي

شاعر شعبي، حمل هموم الشعب ومعاناته الإجتماعية والمعيشية والسياسية، وعبَّر عنه. فليس كل من ادّعى أنه على اتصال بالشعب، ومنتسب إليه، كان له ما أراد في الإتجاهين. ولكن الشاعر الشعبي الخلاّق - الإنتقادي عمر الزعني، الذي لقّب بموليير الشرق حيناً وبفولتير العرب حيناً آخر، «كان له ذلك على مدى نصف قرن في بيروت، من تأليف شعري - موسيقي، وغناء شعبي مباشر. إنه «إبن الشعب» أو «إبن البلد» الأعز من الولد. عمر الزعني، الموصوف بأنه «فيلسوف الشعب ومرشده» كان ظاهرة فريدة في عصره.

 

حياته

ولد عمر الزعني وعلى وجهه «بُرقع» يرمز الى «الحجة والقوّة والذكاء» ويبشر حامله بمستقبل رفيع من العزّة والمجد. ولد في بيروت في العام 1895، وفي العام 1900 دخل المدرسة العباسية، بتوجيه من والده الشيخ محمد، صديق الشيخ أحمد عباس الأزهري (المنسوبة المدرسة إليه). وفي العام التالي، التحق عمر بفرقة المدرسة الموسيقية، وظل فيها حتى تخرّجه في العام 1913. بعد ذلك عمل مدرساً في مدرسته حتى العام 1914، حيث اندلعت الحرب العالمية الأولى. إثر ذلك سافر عمر الزعني من بيروت إلى حمص في سوريا، والتحق بالمدرسة الحربية، التي تخرّج منها بعد ستة أشهر برتبة ضابط إداري. وبعد انتفاضة 1916 واعدام الشهداء على يد جمال باشا السفاح في 6 أيار، جرى إبعاد عمر الزعني إلى فلسطين. ولم يعد إلى مدينته إلاّ مع نهاية العهد العثماني سنة 1918.
هذا المبرقع وُلد شاعراً من «كعب» الشعب؛ يحرّك دسته بلا تردد ولا تخوّف». وراح ينتقد ما دار من معارك لفظية في مصر بين أنصار الحجاب وأنصار السفور، فيقول في هذا الصدد:
«الدنيا قايمة والشعب غافل      راحت بلادكم ما حدّ سائل
شوفوا البلايا، شوفوا الرزايا      والشعب قايم على الملاية»
 

عمر وشعره

يذكر فاروق الجمال في كتابه «حكاية شعب» أن عمر الزعني أحب مرمورة، لكن الزواج كان ممنوعاً، ما دام «المدني» لم يحضر حتى اليوم، فعاش حبهما، ولم يجمعهما سقف واحد. هو غنّى لها: «روح بسبيلك وتسهّل». وهي لم تسكت له:
«من بعد ما قطفت الزهرة      حوّلت مجرى حبك عنّي
يا ما ربّيت بقلبي الحسرة        يا ما دلالك لوّعني»
في فلسطين عمل عمر مدرّساً، وبعد عودته إلى بيروت عمل مديراً على رأس الكلية الإسلامية في العام 1919، ومدرساً للموسيقى في مدرسة ماري كسّاب، ثم عمل موظفاً (كاتب ضابط) في المحكمة البدائية، وبدأ دراسة أكاديمية في الجامعة اليسوعية. ولكن رحلته الحقيقية في الشعر بدأت مع قصيدة «الحجاب» واستمرت حتى وفاته في العام 1961، مخلفاً تراثاً كبيراً يضم أكثر من ألف قصيدة انتقادية فولتيرية، ولكن بلسان الشعب، باللغة المحكية (العامية) والكلام اليومي، الواضح والجارح معاً.

قد يسهل تجاهل عمر الزعني، ولكن باستذكاره يصعب توصيفه وتعريفه. فهو حقاً مُبرقع فني: شاعر شعبي، زجّال، مونولوجيست، مغني مسرحي، هزلي، جدي، إنتقادي، كل هذه المميزات في شخص واحد. فمن هو؟

أول من أدخل الموسيقى الأجنبية إلى التخت الشرقي، وضحك في غناء باكٍ «ويسكي، لاكي، واضحكي»، هكذا رأى المرأة، ومن ورائها رأى دنياها: «جيبو تَتَر، جيبو نَوَر، جيبو مجوس. بس جيبو فلوس». وبدون لف أو دوران، أو بدون مواربة، لم يكن عمر الزعني يقوى على الطرب بلا جنس لطيف ولو «فستان بلا إمرأة، ولكنه لم يضيّع بوصلة الوطن، وما حل بالعروبة، بعد سقوط الدولة العثمانية.


ملأ عمر الزعني جعبة الشعر الشعبي بصور الواقع المرير، وجعل صندوق الفرجة في متناول الشعب، مستخدماً اللهجة العربية، واللبنانية والمصرية. فيقول:
«شوف ملوك بني عثمان    كانوا ملوك على الزمان
وناموا عامخدة أمان          علّوا ناس، وطّوا ناس
وطرفهم عمرو ما انداس    كانوا ملوك وصاروا ناس»
 

وبنظرة عميقة، فهم الزعني التطورات والتغيرات التي شهدها القرن العشرين، والتأثيرات التي تركتها هذه التطورات والتغيرات على البشر، وعلى علاقاتهم بين بعضهم البعض، فيقول:
«من زمان كنا عايشين        وكل واحد عارف حدُّو
وراضي فيه وواقف عنده    أما اليوم بعصر العشرين
كل العالم صاروا كبار         مصيبة كبيري وهم كبير»
 

ومن تأثيرات هذه التطورات والتغيرات، طغيان المادة على العقول والنفوس، الأمر الذي أدّى إلى تشويه القيم السامية الإجتماعية والأخلاقية، واستبدالها بقيم المادة التي سلبت الإنسان إنسانيته. وبرؤية عميقة يقول الزعني:
«الشرف اعطاك عمره     والحيا انتهى أمره
والوفا اختفى أثره         أما الدين باقي قشره»
 

إن التهافت على جمع الثروات، واعتلاء المناصب، حتى ولو كان على حساب الشعب، هما اللذين يسيطران على الحياة، حيث المصلحة الفردية - الأنانية هي التي تشكل روح العصر، وهذا ما أثار غضب الزعني ونقمته، فيقول:
«ما حدا بيعمل إحسان         غير للجاه وللإعلان
وان قدّم خدمة خفيفة         بكون طمعان بنيشان
يا موعود بوظيفة...
ما حدا اهتم بمشروع           إلا وقال: يا رب نفسي
وكل غايته من الموضوع       إنو يوصل للكرسي
قطيعة تقطع هالكرسي
.. والمصيبة كبار وصغار        واقعين بحب الكرسي»
 

ان الواقع في لبنان ما زال يتسم بطابع المحسوبية والخلل في ميزان العدل والعدالة بين أبناء الوطن، ولهذا كتب الزعني قصيدة «ألف حساب» يقول فيها:
«على أيام الإنتداب         عهد الظلم والإرهاب
ما كنت خاف ولا هاب      لا حكومة ولا نواب
أما اليوم ألف حساب       صرت أحسب للأرباب
بسكت بيقولوا قابض       بحكي، بيقولوا، معارض
لا مريض ولا متمارض      قاعد في بيتي ورابض
والمال بإيدي فايض       وعايش من علمي وفني»


الوطن يفتقد لمثل هذه المواهب النقّادة، ولكن «هل تتحمّل المسارح الثقافية في بلادنا شاعراً فولتيرياً شعبياً آخر، من طراز هذا المبدع عمر الزعني؟».