عمليات عسكرية

عملية دينامو.. معجزة دنكيرك!!
إعداد: المقدم باسم شعبان

مع الاجتياح الألماني لبولندا في الأول من أيلول ١٩٣٩ اندلعت الحرب العالمية الثانية، وهي الحرب التي شكَّلت حتى يومنا هذا أكبر كارثة بشرية في التاريخ بكلفةٍ قاربت ٨٠ مليون قتيل عدا عن الجرحى والدمار الذي أصاب مدنًا بأكملها، ولم تنتهِ إلا بعد استخدام السلاح النووي كأداة قتل غير تقليدية حاسمة.


سارعت كل من فرنسا وبريطانيا إلى إعلان الحرب على ألمانيا بعدما ضاقتا ذرعًا من تمادي هتلر في التوسّع، وتجاهله موقفهما الرافض لأي توسّع يتجاوز ضمّه النمسا ومقاطعة السوديت في تشيكوسلوفاكيا.
وأطلق الفرنسيون والبريطانيون ما اصطلح على تسميته بالـ«حرب الزائفة»، وهي الحرب التي اقتصرت على فرض حصار اقتصادي على ألمانيا النازية لإرغامها على وقف عدوانها والانسحاب من بولندا. رد الألمان على هذه الحرب بـ«معركة الأطلسي» التي أقدموا خلالها على مهاجمة السفن التجارية في المحيط الأطلسي. في هذه الأثناء كانت بريطانيا قد دفعت بقوةٍ من حوالى ٤٠٠ ألف جندي إلى فرنسا، عُرِفَت بقوات الحملة البريطانية British Expeditionary Forces - BEF، لدعم القوات الفرنسية في مواجهة أي هجوم ألماني.
لم تستمر الحرب الزائفة طويلًا، ففي العاشر من أيار ١٩٤٠، وبالتزامن مع تولّي ونستون تشرشل رئاسة الحكومة البريطانية خلفًا لنيفل تشامبرلين، اندفعت مجموعة الجيوش الألمانية «ب» بقيادة الجنرال فيدور فون بوك شرقًا، واجتاحت اللوكسمبورغ وهولندا وبلجيكا. سقطت الأولى بعد ساعات والثانية بعد أربعة أيام أما الثالثة فصمدت ١٨ يومًا. أمام هذه التطورات وضع القائد الأعلى لقوات الحلفاء الجنرال موريس غاملان الخطة «دال» موضع التنفيذ، والتي كانت تقضي بتدعيم خط «ماجينو» والتمركز دفاعيًا خلفه لمنع الألمان من دخول الأراضي الفرنسيَّة.
تألَّفت قوات الحلفاء الموضوعة بإمرة غاملان من الجيشَين الفرنسيَين الأول والسابع وقوات البعثة البريطانية. تنفيذًا للخطة «دال»، دخلت قوات الحلفاء بلجيكا بهدف الوصول إلى هولندا ومواجهة الألمان هناك، إلا أنّ الألمان كانوا قد سبقوهم واحتلوا معظم هولندا قبل وصولهم. انتهج الألمان الحرب الخاطفة (أو الصاعقة)، وفي ١٣ أيار استفادوا من السقوط السريع للوكسمبورغ وهاجمت مجموعة الجيوش «أ» بقيادة الجنرال غيرد فون رونشتيد الأراضي الفرنسية ونفَّذت عملية التفاف ضخمة على خط ماجينو مرورًا بسيدان، ومن ثم اندفعت إلى العمق الفرنسي.

 

ضربة المنجل
تفاجأ الحلفاء من سرعة الهجوم الألماني، وعلى وقع الانتصارات الألمانية المتتالية لم يجدوا بدًا من الانسحاب، غير أنّ الألمان نجحوا بتطويق القوات المنسحبة. وقد شبَّه الجنرال الألماني إيريك فون مانشتاين ما حصل بـ«ضربة المنجل» التي حصدت قوات الحلفاء بالجملة. حاول الحلفاء كسر الطوق بشنّ هجمات مضادة في أكثر من مكان، لكنّ الزخم الألماني كان أقوى من قدرة هكذا هجمات على صدّه. تابع الحلفاء انسحابهم والألمان في أثرهم يحيطون إلى أن طوَّقوهم في منطقة على القنال الإنكليزي طولها ٩٥ كلم وعرضها بين ٢٠ و٢٤ كلم.
بحلول ٢٠ أيار، عزل الألمان القوات البريطانية والجيش الفرنسي الأول والقوات البلجيكية عن عظيم القوات الفرنسية ووصلوا إلى ساحل القنال الإنكليزي وانعطفوا شمالًا لقطع أي اتصال للقوات المحاصَرة مع الخارج. لكن، وعلى الرغم من كل التوقعات باستمرار التقدّم الألماني لتدمير قوات الحلفاء، صادق هتلر والقيادة العليا للفيرماخت على قرار مفاجئ قضى بوقف التقدّم. في الواقع لم يجد أحد تفسيرًا لهذا القرار، إلا أنّ البعض اعتبر أنّ هتلر كان يأمل أن يجد تسوية مع البريطانيين، فتجنَّب الإقدام على عمل يضعهم أمام خيار وحيد وهو الاستمرار بالحرب.
سارع الحلفاء للاستفادة من وقف الهجوم الألماني لبناء خط دفاعي عن المنطقة التي يتموضعون فيها، تمهيدًا للبدء بأكبر عملية إخلاء في التاريخ من ميناء دنكيرك. تقع دنكيرك في شمال غرب فرنسا في منطقة التقاء القنال الإنكليزي ببحر الشمال، وتُعتبر ميناءً فرنسيًا حيويًا ومركزًا صناعيًا نشطًا. بلغ عديد قوات الحلفاء المحاصَرين حوالى ٣٧٠ ألف جندي مع كميات ضخمة من الأسلحة المتنوّعة والذخائر.
صدرت الأوامر البريطانية في ٢٦ أيار من وزير الحرب أنطوني إيدن إلى قائد قوات الحملة البريطانية الجنرال لورد غورت بضرورة الاستعداد للقتال التراجعي نحو الغرب، وتحضير خطة للإخلاء، من دون إعلام الفرنسيين أو البلجيك بذلك. كان الجنرال غورت قد توقَّع أن يُطلب منه ذلك، فحضَّر الخطط اللازمة بانتظار تلقّي الأمر للتنفيذ، غير أنّ الهجوم الألماني الذي انطلق في اليوم نفسه خلط الأوراق وفاجأ الجميع.
اضطرت القوات البريطانية إلى القيام بقتالٍ تأخيري لتأمين انسحاب سريع وصولًا إلى شاطئ دنكيرك حيث يتم التحضير للإجلاء، وقد تكبَّدت هذه القوات خسائر ضخمة في الأرواح والمعدات والأسلحة والذخائر، وبخاصةٍ تلك التي كان لا بد من تلفها لعدم إمكان اصطحابها. لم يكتفِ الألمان بالهجوم البري، بل واكبوه بهجومٍ جوي عنيف وحرب نفسية مكثَّفة كان من أحد وجوهها إلقاء منشورات من الجو مكتوب عليها باللغتين الإنكليزية والفرنسية: «أيها الجنود البريطانيون! انظروا للخريطة لتعرفوا حقيقة وضعكم! قواتكم محاصرة بالكامل- أوقفوا القتال! ارموا أسلحتكم».
سارع البريطانيون لبناء خطٍ دفاعي حول دنكيرك لحماية انسحاب ما أمكن من القوات البريطانية. وفي منتصف يوم ٢٧ أيار، أطلق الألمان هجومًا شاملًا بثلاث فرق. كان الهجوم صعبًا على المهاجم والمدافع على حد سواء نظرًا لطبيعة الأرض الحرجيَّة وأيضًا المناطق المبنيَّة التي اضطرت القوات الألمانية إلى اجتيازها، كما عانى البريطانيون ضعف الاتصالات، إذ كانت الخطوط السلكيَّة مقطوعة ولم تكن الاتصالات اللاسلكية متوافرة في الرعائل ما دون الكتيبة. لجأ الألمان إلى تكتيك التسلل فنجحوا في توجيه ضربات قاسية للبريطانيين.
في اليوم نفسه، أي ٢٧ أيار، باشر الحلفاء تنفيذ عملية «دينامو» لإجلاء القوات من ميناء دنكيرك إلى البر البريطاني، وكانت عمليات صعبة ومحفوفة بالمخاطر. فالأحواض كانت شبه مدمَّرة والبنية التحتية للميناء لم تكن بأفضل حال، مع ذلك نجح الحلفاء بإجلاء الجنود بوتيرةٍ يومية بواسطة ٨٦١ مركبًا من مختلف الأنواع والأحجام (سفن حربية، مدمرات، كاسحات ألغام، قوارب مسلَّحة، حتى سفن الصيد واليخوت وكل ما توافر من زوارق مزوَّدة محركات بعد استجابة مئات البريطانيين لمناشدة رئيس وزرائهم لتقديم المساعدة). استمرت عمليات الإجلاء على وقع ضغط الهجوم الألماني، ولم تتوقَّف طوال تسعة أيام اعتبارًا من ٢٧ أيار ولغاية ٤ حزيران ١٩٤٠.

 

أفضل انسحاب في التاريخ
في ٢٨ أيار، وفي مسعى للحد من الاندفاعة الألمانية وتوفير حيّز زمني إضافي يسمح بإجلاء أكبر عدد من القوات البريطانية التي باتت محاصَرة بشكلٍ تام في جيب دنكيرك، قرَّر الجنرال غورت تنفيذ هجوم معاكس على الألمان. نجح الهجوم المعاكس في إرباك الألمان، وبالتالي انخفض زخم هجومهم وحقَّق البريطانيون هدفهم من الهجوم. لم تكتمل فرحة الجنرال غورت، إذ أعلنت بلجيكا الاستسلام في التاريخ نفسه، وبما أنّ تمركز القوات البلجيكية على خط الدفاع كان ما بين القوات البريطانية والبحر، فقد خلق هذا الاستسلام فجوة عرضها حوالى ٣٠ كلم.
حاول الجنرال غورت سد الفجوة التي خلَّفتها القوات البلجيكية، ورغم بسالة قواته والقوات الفرنسية في القتال على خط الدفاع لمنع الألمان من اختراقه، إلا أنّ زخم الهجوم الألماني كان أقوى بأضعاف. في الواقع بذلت القوات البريطانية والقوات الفرنسية جهودًا استثنائية لتأخير سقوط الجيب المحاصَر بيد الألمان، قبل إتمام عملية الإجلاء وإنقاذ قوات الحملة البريطانية من الإبادة الحتمية، فكان لهم ما أرادوا في عملية شهدت أفضل انسحاب منظَّم في التاريخ لدرجة أنّ البعض أسماها «معجزة دنكيرك».

 

٤٠ ألف جندي في الأسر
في الثالث من حزيران، تم إجلاء آخر الجنود البريطانيين، إلا أنّ العمليَّة لم تتوقَّف، بل أصرَّ رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل على متابعة إجلاء ما أمكن من القوات الفرنسية. استمرَّت العملية لليوم التالي، أي ٤ حزيران، وفي هذا اليوم تمّ إجلاء أكثر من ٢٦ ألف جندي فرنسي كان يمكن إجلاؤهم بينما بقي تحت الحصار الألماني ما يُقارب الـ ٤٠ ألف جندي فرنسي وقعوا جميعهم في الأسر.

 

الخسائر
شملت عملية الإجلاء من دنكيرك ٣٣٦٢٢٦ جندي منهم ١٣٩٩٩٧ من جنسيات غير بريطانية (فرنسية، بلجيكية، بولندية وهولندية). سقط للحلفاء نحو ١٦ ألف جندي فرنسي وألف جندي بريطاني في حماية وتأمين عملية الإجلاء، كما خسروا ٢٤٣ مركبًا من أصل ٨٦١ تمّ استخدامها، إضافة إلى حوالى ١٥٠ طائرة. أما الأسلحة والذخائر والمعدات والآليات التي تركوها خلفهم وغنمها الألمان فيُقدَّر بأنّها تكفي لتجهيز عشر فرق. وفي ما يلي جدول يبيّن أبرز هذه الخسائر:

النوع

الكميَّة

مدفع ميدان

880

بنادق آلية

11.000

مدفع ثقيل

310

دبابات

700

مدفع مضاد للطائرات

500

دراجات نارية

20.000

مدفع مضاد للدروع

850

سيارات وعربات

45.000

المراجع:

- Battle of Dunkirk From Wikipedia, the free encyclopedia
- Operation Dynamo at Dunkirk ends, History.com editors.
- انسحاب دونكيرك، من ويكيبيديا الموسوعـة الحرة.
- مواقع متعدّدة ذات صلة على شبكة الإنترنت.