موضوع الغلاف

عملية عبرا العبرة لمن اعتبر

للجيش مع الإرهاب والعصابات المسلّحة حكاية مسطّرة بدم الشهادة، كتب الفصل الأكبر منها في مخيم نهر البارد. ذلك الفصل حمل بين سطوره آيات مجد وعنفوان وتضحية واستبسال في سبيل الدفاع عن الوطن، واختتم بنصر غالي الثمن...لكن أيادي الشر والفتنة شاءت أن تخط فصولًا أخرى، وهذه المرة كان المسرح في عبرا - صيدا، وتحديدًا في داخل المربع الأمني للشيخ المزعوم أحمد الأسير.
ختام الحكاية معروف، فالنصر رفيق الحق، أما تفاصيلها فتحمل إلى جانب النصر الذي حققه الجيش، البطولة والشهادة والوجع... مقابل غدر الإرهابيين وخيانتهم وهروبهم المذلّ!

 

« الحكي مش متل الشوفة»
هذا القول كان أول ما خطر لنا عندما وطأت قدمانا مجمع الأسير في عبرا، حيث المسجد تحول إلى ترسانة حربية. لكن في الواقع كان ينبغي إضافة أشياء أخرى إلى القول المذكور، أشياء من نوع، ما تراه عبر الصور ليس هو نفسه ما يمكن أن تراه مباشرة. فقد شاهدنا الكثير من الصور على شاشات التلفزيون، وسمعنا الكثير من الأخبار، لكن الوجود في المكان أمر آخر.
فإلى مجمع الأسير في عبرا، إلى المسجد الذي تحول بؤرة للسلاح والإرهاب تحت ستار الدين، وإلى الرواية من أفواه أبطال شاركوا في وضع حد لظاهرة كادت تفجر ليس صيدا فحسب، وإنما كانت تهدّد أمن الوطن برمته، هذا الأمن الذي يُدفع ثمنه يوميًا عرق ودم.

 

من البداية
بتاريخ الثالث والعشرين من حزيران الماضي، في الساعة الثانية ظهرًا، قامت مجموعة مسلّحة تابعة للشيخ أحمد الأسير ومن دون أي سبب، بمهاجمة حاجز تابع للجيش اللبناني في بلدة عبرا - صيدا، ما أدى الى استشهاد ضابطين وأحد العسكريين وإصابة عدد آخر بجروج. هذا الإعتداء المجرم حمل غدر الإرهاب وخيانته وتوقيعه القذر. فالإرهابيون لم يواجهوا عناصر الجيش مواجهة الرجال وإنما اعتمدوا أسلوب الجبناء الخسيس، حيث عملوا على مباغتة العسكريين وقنصهم على غير استعداد منهم.
على أثر هذه الجريمة، تم حشد عدد من الوحدات العسكرية التابعة لفوج المغاوير والألوية الأول والسابع والثامن، وأعطت قيادة الجيش الأمر بالسيطرة على المربّع الأمني للأسير في مدينة عبرا.
حادثة الغدر المفاجئة، والعملية العسكرية المطلوبة من الجيش من دون استعداد مسبق، لم تؤثّرا إطلاقًا على جهوزية العسكريين أو استعدادهم للمواجهة، «فالجيش يتدرب طوال العام استعدادًا للطوارئ»، كما يؤكد أحد الضباط الذين شاركوا في العملية. ويتابع: «المعركة كانت شرسة من دون شك، لكن العسكريين أظهروا شجاعة فائقة وحاربوا باحتراف وبسالة على الرغم من أن عامل المكان لم يكن في صالحنا على الإطلاق. فالحرب كانت على أرض العدو الذي كان يتمركز في شقق سكنية عالية مجهّزة بكاميرات مراقبة دقيقة للغاية, ما يمكّنه من رصد جميع تحركاتنا وتقدّمنا على مختلف المحاور، كما يعطيه القدرة على الرمي بسهولة على الآليات العسكرية وقنص العسكريين من الأعلى. أما الأصعب، فكان وجود المدنيين داخل عدد كبير من الأبنية ما يجبرنا على التأكد تمامًا من الهدف ومصادر النيران كي لا نؤذي المواطنين الأبرياء».

 

سير المعركة
بعد أن تم تركيز وحدات الجيش وتقسيمها على محاور التقدّم، وبعد هجمات مركّزة لفوج المغاوير مدعومة بنيران الألوية المساندة، تقدّم الجيش على محورين باتجاه مسجد بلال بن رباح، مقر أحمد الأسير. الوضع لم يكن سهلًا أبدًا، «فالرصاص كان ينهمر علينا كالشتاء» يقول أحد الرتباء، «وكان علينا الرد على مصدر النيران بدقة وهذا ما قمنا به حيث عملنا على تدمير شقة يحتلها المسلحون في أحد الأبنية من دون أن نمس بالشقق الأخرى التي يسكنها المواطنون».
خلال عملية التقدّم، خسر الجيش عددًا من العسكريين الذين استشهدوا في ساحة الشرف، كما جرح عدد كبير منهم، غير أن هذا الأمر لم يشكل عائقًا أمام تقدّم السرايا، وإنما على العكس زاد العسكريين شراسة في القتال كما أكد أحد الجنود، إذ قال: «أقسمنا على إتمام المهمة بنجاح كي لا تذهب دماؤهم هدرًا».
وقال جندي آخر من الذين أصيبوا في المعركة: «تعرضت للإصابة بشظايا وجروح خلال المعركة، لكنني كابدت الألم وواصلت القتال من أجل روح الملازم الشهيد طانيوس الذي درّبنا على فنون القتال وعلّمنا معنى البطولة، فكنت أهديه كل طلقة نيران وأسأله إذا كان راضيًا عن أدائنا علّ روحه تفرح بنجاحنا».
ويقول أحد الرتباء وقد خسر رفاق سلاح في المعركة: «دفعنا ثمنًا غاليًا للحفاظ على هيبة الجيش، وكان سقوط رفاقنا ضربة لنا في الصميم، لكن هذا الأمر متوقع في الحرب ضد العصابات، ونحن لن نسمح بأن يغتصب وطننا، وأن تستباح أرضنا لأعمال العنف، فلا تهاون في الدفاع عن الأرض وعن أرواح شهدائنا الذين سبقونا الى الشهادة».

 

التقدم تحت النار
الهجمة الأخيرة تميزت بالسرعة والضراوة، يقول أحد الضباط. «قمنا بتطويق المربع الأمني، وتقدم المغاوير بالملالات والدبابات تساندهم نيران الألوية المشاركة، في شارع مكشوف على المسلحين. كانت نيران المسلحين تنهمر على الجيش كالمطر من دون أن يؤثر ذلك على تقدّمه، وقد تمكنّا من الدخول الى المربع الأمني والسيطرة على مقر الأسير تحت صدمة النيران المركّزة».
 ويضيف: «في هذه المرحلة، كان عملنا في غاية الدقّة، فخلال اقتحامنا أحد المباني والإشتباك مع مسلّحين فيه ومن ثم القضاء عليهم، سمعنا نحيبًا في الطابق الأول، وصرخة استغاثة من قبل إحدى النساء وكانت تسأل: « إنتو الجيش، دخيلكن ساعدونا!»، فهرع قسم منا إلى مصدر الصوت حيث كانت إمرأة تحضن طفلًا لا يتجاوز عمره الأشهر، كما كان هناك واحد وعشرون مدنيًا بينهم عدد من الأطفال، وكان الجميع يعاني حالة من الرعب تجاه ما يحدث. غمر العسكريون الأطفال بالدروع وطمأنوا الأهالي إلى أنهم سيخرجون محاطين بالعسكر الذين سيشكلون حزام أمان لهم، ومن ثم تم الإتصال بإمرة السرية لإيقاف النيران لحين إخلاء المدنيين، وهذا ما حصل حيث تم نقلهم بالملالات إلى خارج بقعة العمليات».

 

«الجيش أنقذنا»
في الثامنة مساء، حقق الجيش انتصاره على المسلّحين، وبقي عليه «تنظيف» الشقق المشبوهة بحسب ما أفاد احد الضباط، فالأسير استنفر الخلايا النائمة أي الإحتياط من المسلحين المزروعين في شقق مختلفة، وهنا أيضًا كان لا بد من مراعاة المدنيين وإخلائهم كي لا يصابوا بأذى. في هذا الإطار تؤكد مواطنة من سكان المربّع الأمني أن «الجيش أنقذنا من حالة الذل التي كنا نعيشها داخل المربّع. كان المسلحون يدخلون منازلنا ويثيرون الرعب في نفوسنا. وكانت نظراتهم العابسة وتعليقاتهم الجارحة، تلاحقنا في كل دخول الى المربع أو خروج منه. وقد حاولوا مرارًا دفعنا الى ترك منازلنا عبر الترهيب، عارضين شراءها بنصف قيمتها الفعلية».
وتعقّب سيدة أخرى بالقول: «إتخذ المسلّحون من بيتي مركزًا لهم ما ألحق به خرابًا كبيرًا، لكني لست آسفة طالما أن الإرهابيين قد رحلوا الى غير رجعة وصرنا في حمى الجيش. كنا محرومين من رؤية أهلنا وأقاربنا لأن المسلحين كانوا يمنعونهم من الدخول بممارسة مختلف انواع الضغط».
ويؤكد مواطن قولها موضحًا أن «جماعة الأسير كانوا يمارسون علينا الإرهاب داخل منازلنا». وروى أن ابنته الصغيرة كانت تلعب بالكاميرا على الشرفة فشاهدها المسلحون وصعد خمسة منهم إلى المنزل حيث قاموا بتكسير الكاميرا ووجهوا إلينا الشتائم والإهانات.

 

الأسلحة والمتفجرات: ما يكفي لتسليح فوج وإشعال بلد
بعد السيطرة الكليّة على المنطقة، باشر الجيش عملية تنظيف عبرا، فواجه في دخوله الى مراكز المسلحين الكثير من التفخيخ، فالأبواب مفخخة وكذلك المقاعد والكتب وصناديق الرعاية، وحتى المصاحف لم تسلم من التفخيخ، بحسب ما أشار العسكريون.
قامت الوحدات بتفريغ مخازن الأسلحة التي «احتوت على كميات ضخمة من مختلف أنواع الأسلحة والمتفجرات وبكميات تكفي لتسليح فوج من أفواج أي جيش في العالم، ولإشعال بلد بأسره»، بحسب ما أكد أحد الضباط. وكان من بين المضبوطات أسلحة من مختلف العيارات من رشاشات الكلاشنكوف التي تحمل أرقامًا تسلسلية، إلى مكعبات التي.ان.تي، والقناصات المجهزة بمدي، ومناظير الرؤية النهارية والليلية المتطورة جدًا، وبنادق البومب آكشن، ومدافع الهاون، والدوشكا، والبي.كي.سي. كما تم ضبط متفجرات معدّة للتفجير وأخرى معلّبة ومخزّنة. وقد قامت وحدات الهندسة بتفجير العديد من القذائف غير المنفجرة والأجسام المشبوهة.

 

صفعة على وجه الإرهاب
خلال الأيام التي أعقبت العملية، واصل الجيش اللبناني الإجراءات الأمنية لطمأنة المواطنين وترسيخ الاستقرار في المدينة، وبذل أقصى الجهود لتسهيل عودة الأهالي المتضررين إلى منازلهم، في الوقت الذي كان القضاء العسكري يتسلم الموقوفين بالعشرات.
بعد أيام من المعركة، عاد الهدوء إلى عبرا، وعادت الحياة إلى طبيعتها، بعد أن ختم جيشنا البطل الحكاية بالانتصار، هو انتصار الحق على الباطل، والعدل على الظلم، والشجاعة على الجبن. ولكنه أيضًا، نصر يحمل في طياته وجعًا مؤلمًا، هو وجع الأم التي لن تفرح بعرس إبنها، ووجع الطفل الذي لن يكبر في كنف أب حنون، ووجع الزوجة التي خسرت رفيق الدرب ومصدر الأمان، وهو وجع المؤسسة التي ضحّت بخيرة من أبطالها، ووجع الوطن الذي فقد نخبة هو بأمس الحاجة إليها...
عزاء هؤلاء وعزاؤنا أن دماء شهدائنا كانت صفعة على وجه الأرهاب، ولعلّها تكون عبرة لمن تسوّل له نفسه التطاول على هيبة الدولة وجيشها الأبي!