رحلة في الإنسان

عندما يتحول المستوى المادي الى قاعدة للصداقات والعلاقات الاجتماعية
إعداد: غريس فرح

الطيور لا تغرّد خارج أسرابها، وكذلك الإنسان فهو لا يهنأ له العيش إلاّ في بيئة تتناسب ومستواه الاجتماعي والفكري والمادي، الأمر الذي يحول دون بروز فروقات تزعزع علاقته بمحيطه الخارجي.
والإنسان على العموم يختار أصدقاءه من مستواه المادي نفسه، وخصوصاً إذا كان ينتمي الى الطبقة الفقيرة أو الوسطى، لكي يتجنّب الإحراج الذي قد يواجهه تجاه مَن هم أكثر ثراءً، وبالتالي مقدرة على صرف المال. لكن يحصل في عدة حالات أن تهبط الثروة على أحد الأصدقاء المحدودي الدخل والمقيمين في بيئة إجتماعية فقيرة أو متوسطة، الأمر الذي يضع العلاقة بينه وبين أصدقائه على المحكّ، ما قد يتسبّب بزعزعتها أو قطعها.
فعلى مَن تقع المسؤولية في حال كهذه؟ أهي غيرة الأصدقاء القدماء وتقوقعهم غير المبرّر لتجنب الاصطدام بما يثير حساسيتهم تجاه المال، أم هو انشغال المعنيّ بالثراء، وابتعاده تدريجاً عن أجواء لم تعد تتناسب وتطلعاته المستجدة؟ وما هو رأي الاختصاصيين النفسيين في هذا المجال؟


هل المال مقياس للنجاح؟
لا يخفى على أحد أن المال، وخصوصاً في مجتمعاتنا المعاصرة، أصبح مقياساً عالمياً للنجاح والقوة، علماً أنه لا يزال من المواضيع البالغة الحساسية، أو من الخصوصيات التي يتعيّن عدم المساس بها. الى ذلك، تعتبر الفروقات المادية من أهم الفروقات التي تؤثر في العلاقات الاجتماعية لأسباب نابعة من طبيعة تعامل الإنسان مع محيطه منذ أقدم العصور.
فحسب الإحصاءات والأبحاث الحديثة التي تناولت الفروقات بين الناس، تبيّن بوضوح أن الجنس البشري قد أبدى منذ القدم حساسية بالغة تجاه الفروقات العرقية، وهو شعور تجذّر في جيناته لأسباب تتعلق بالمحافظة على بقاء العرق المنتمي اليه. وبحسب نتائج الدراسات، فإن الإنسان المتطوّر، الذي أخذ العبر من اختباراته البدائية، والتي تأصلت ايضاً في جيناته، تعلّم مع الوقت كيف يخفي حساسيته تجاه هذه الفروقات لتجنّب الإحراج الاجتماعي، وكذلك الاحتكاكات التي تشكّل خطراً على حياته. لكن هذا الإنسان بالذات لم يتمكّن حتى الآن من التستُّر على أحاسيسه اللاّواعية تجاه الفروقات الطبقية والمالية، لأنها لم تكن موجودة في البيئات البدائية التي شهدت تطوّر وظائفه الذهنية، الأمر الذي حال دون اختبار مشاعره الفطرية تجاهها، وبالتالي اكتساب المناعة للتحكّم بتفاعلاتها السلبية.
الإنسان إذن غير محصّن لاحتواء ردّات فعله العفوية تجاه الفروقات المادية. لذا، فعندما تنشأ هذه الفروقات بشكل مفاجئ، وخصوصاً بين المنتمين الى طبقة اجتماعية واحدة، يصعب على المعنيين بها من الطرفين كبت واحتواء ما ينجم عنها من تفاعل الأحاسيس المتعلقة بامتلاك المال والافتقار اليه، الأمر الذي يؤدي في معظم الأحيان الى إحداث هوّة عميقة بين الأصدقاء، وبالتالي انقطاع علاقة الصداقة.


كيف يحدث هذا التفاعل؟
من هذا المنطلق، يرى الباحثون أن التوتّر اللاواعي الذي يسود عموماً علاقة الأصدقاء المعنيين بالفروقات المادية المستجدة، يُعتبر حالة طبيعية ينبغي تناولها من المنظور الإنساني العام، وكذلك تحليلها وصولاً الى تذليل مؤثراتها السلبية، وخصوصاً لدى المتأذين نفسياً من تأثير المال على أصدقاء كانوا يتقاسمون وإياهم الهموم والتطلعات نفسها. وهنا يجدر بالإشارة أن معظم الذين يستفيدون من فرص النجاح والثروة قد يقعون ايضاً، وللوهلة الأولى تحت تأثير المشاعر السلبية، والتي تنشأ عموماً عن الشعور المفاجئ بالتغيير وعبء تحمّل مسؤوليات جديدة.
فمثلاً، إن الشخص الذي ينال ترقية في عمله، ويصل من دون زملائه الى منصب إداري أو رئاسي هام، يشعر بأن أنظار الجميع أصبحت مصوّبة تجاهه، وبأن رفاقه أصبحوا يحسدونه ويشعرون تجاهه بالنقص، الأمر الذي يجعله يتحصّن آلياً لمواجهتهم. ومن ناحية أخرى، فهو قد يشعر بالعزلة وبالقلق تجاه التغيّرات الطارئة على نمط تعاطيه مع رفاقه، وخصوصاً في حال تسلّمه منصباً يعطيه حق السلطة عليهم. وهو ما يزيد من نقمة الأصدقاء وشعورهم بالنقص، ويشعر المعني بالنجاح بالأهمية من جهة، وبالوحدة والذنب من جهة ثانية، وهذا الشعور ينطبق ايضاً على بعض الذين يرثون المال أو يحصلون على الربح من خلال صفقات تجارية غير متوقعة.

 

كيف نعالج الحساسية تجاه الفروقات المادية؟
إذا ما أخذنا بالاعتبار أن المال قد تحوّل في المجتمعات الحضارية المعاصرة الى مقياس للنجاح والقوة، نرى أن المشاعر السلبية التي ترافق الأصدقاء الأقل ثراءً، هي مشاعر طبيعية مرتبطة بردّات الفعل الغرائزية غير الناضجة،  والتي تضع على المحكّ معايير القيم الذاتية في الميزان الاجتماعي.
ومن ناحية ثانية، فقد تكون هذه المشاعر لدى البعض، ناشئة من عقد طفولية متجذّرة في النفس نتيجة اضطرار المعنيين بها في إحدى مراحل طفولتهم الى معاشرة رفاق أكثر ثراءً ومباهاة بصرف المال. وهو واقع قد يولّد لديهم شعوراً بالنقص يلازمهم طوال الحياة. واللافت كما يشير الإختصاصيون أن هذا الشعور يزداد حدة عندما يُجبر هؤلاء على خوض التجربة الطفولية من جديد، عن طريق رؤية هبوط الثروة بشكل مفاجئ على أصدقاء كانوا من مستواهم المادي. ومن هنا يُنصح معانو هذه المشكلة بسبر أعماق ذواتهم، ومصارحة أنفسهم قبل الاستسلام الى مشاعر الغيرة، وما ينجم عنها من انسحاب إجتماعي، وزعزعة لعلاقات صداقة هم بأمس الحاجة اليها.
في هذا السياق رأي للكاتب الأميركي جان جاغر، عبّر عنه في كتابه «تغيرات علاقات الصداقة»، وأكّد من خلاله أن الغيرة تجاه الصديق الأكثر ثراءً هي شعور إيجابي وبالغ الفعالية، يتعيّن توظيفه للتقرّب من الصديق الذي نشعر تجاهه بالنقص، وصولاً الى تحسس مجالات نجاحه واعتمادها لتحقيق الأهداف التي نصبو اليها.
في هذا السياق، يسدي الإختصاصيون بعض التوصيات المقترحة للتأقلم مع الفروقات المادية المستجدة بين الأصدقاء، والاستفادة منها لتدعيم علاقات الصداقة وتوطيدها على المدى البعيد. وهنا أهمها:
• الإعتراف بأن الغيرة هي شعور نابع من عدم الاستقرار الداخلي، لذا من الضروري التنبّه الى سلبياته وتوجيهه لإحداث تغيرات حياتية بالغة الأهمية.
• التركيز على أهمية الصداقة في تعزيز الدعم الاجتماعي والمعنوي. والأهم الاعتراف بأهمية الصلات الحميمة التي توفرها هذه العلاقة على الصعيد النفسي، والعمل على إحيائها باستمرار.
• الاعتراف ضمناً بالمسؤوليات المستجدة التي يواجهها الصديق المعني بالثراء على الصعيدين المهني والاجتماعي، الأمر الذي يحول دون الابتعاد عنه باعتباره متكبّراً والعمل على التواصل معه ومشاركته سعادته بالنجاح.
• العمل على بناء مدماك علائقي جديد يتناسب وتغيرات حياة الصديق، مع المحافظة على أواصر الصداقة القديمة وعدم المساس بصدقيتها. وهنا يجدر بالإشارة أن المجاهرة بشعور النقص تجاه الصديق المعني بالثراء، هو أكثر ما يدمّر علاقة الصداقة ويؤجّج الفروقات الطبقية.
• من الأفضل أن نتذكر على الدوام أن الصديق الناجح قد يجرّنا الى النجاح في حال تعلّمنا أن نتعامل مع التغيّرات التي طرأت على حياته.