ملف العدد

عواقب الإستعمال العشوائي للمبيدات الزراعية
إعداد: د. حسين محمود
أستاذ محاضر في كلية الزراعة - الجامعة اللبنانية

المبيدات جزء من حياتنا اليومية، بإرادتنا ندخلها بيوتنا لمكافحة الحشرات والقوارض... لكن أن تصبح بقايا هذه المبيدات جزءاً غير قليل من طعامنا، فتلك كارثة. ما العمل؟

أمراض خطيرة تصيب الإنسان والحيوان والبيئة فما هو الحل؟

 

 

بقايا المبيدات الزراعية


سعى الإنسان دائماً الى حماية محاصيله الزراعية من الحشرات والأمراض الجرثومية والأعشاب الطفيلية وغيرها، وبالرغم من التطور الكبير للكيمياء العضوية تبقى حقيقة بارزة وهي أن حوالى 40٪ من مصادرنا الغذائية هي فريسة الجراثيم والآفات، كما يبقى الوجه الآخر لهذه الحقيقة والذي يتمثّل بالآثار السّامة المباشرة لهذه المبيدات على المستهلك وغير المباشرة منها على البيئة العامة.
لقد أدّى الإستخدام العشوائي والكثيف للمبيدات الكيميائية خلال العقود المنصرمة الى ظهور أضرار جسيمة طالت الإنسان والحيوان والبيئة العامة. فالاستخدام العشوائي للمبيدات أدى الى تلوّث الأطعمة نتيجة الآثار السّامة المتبقية من المبيدات، كما أدى الى ظهور خلل في أنظمة الطبيعة والتوازن البيولوجي، وقضى على مجموعات كبيرة من الحيوانات البرية والطيور، وعلى أنواع عديدة من الأعداء الطبيعيين للآفات الحشرية والمسبّبات المرضية (الرسمان البيانيان الرقم 1 والرقم 2).

 

أين تكمن أسباب المشكلة؟
تعود مشكلة تراكم بقايا المبيدات الزراعية في لبنان الى أسباب عديدة، يمكن حصر أهمها في النقاط الآتية:
1- عدم إهتمام الدولة اللبنانية الرسمية بالزراعة، ويتجلّى ذلك بوضوح من خلال حصة وزارة الزراعة في الموازنة العامة والتي بالرغم من نداءات الإغاثة التي يطلقها هذا القطاع منذ سنوات عديدة ما تزال في حدود الأقل من 1٪.
2- عدم وجود مؤسسات فعّالة للبحث العلمي في الزراعة، ويعود ذلك الى تخصيص مبالغ رمزية لهذه المؤسسات لا تفي إلا بجزء بسيط من إحتياجاتها.
3- الأزمة الإقتصادية العامة التي يعانيها الوضع الزراعي منذ سنوات طويلة، الى جانب غياب الدور الفعّال للدولة في مراقبة المبيدات الزراعية، مما ساعد على انتشار المبيدات التقليدية التي تشكّل حوالى 85٪ من مجموع المبيدات المتوافرة في السوق اللبنانية، والتي تتميّز بالكلفة الأقل والسمّية الأعلى مقارنة مع المبيدات الحديثة الإنتقائية والتي لا تسبّب أي مخاطر صحية للإنسان ولا تلوّث البيئة.
4- ضعف دور مراقبة الحدود وتفشّي ظاهرة التهريب بحيث أن معظم المبيدات الزراعية والمحظّر استيرادها بسبب سميتها العالية وآثارها الخطيرة على صحة الإنسان والبيئة، هي متوافرة في الأسواق اللبنانية.
5- عدم وجود مراقبة فعّالة لأجهزة الدولة على مؤسسات ومحلات بيع الأدوية الزراعية وخصوصاً في المناطق والقرى النائية، وحيث تسود ظاهرة بيع المبيدات الزراعية في محلات المواد الغذائية مع ما ينجم عن ذلك من حالات تسمّم.
6- عدم توافر مختبرات وطنية لإجراء الفحوص المخبرية الكيميائية والبيولوجية على المبيدات كشرط لتسجيل المبيدات الزراعية المستوردة من الخارج، والإكتفاء بشهادة تحليل صادرة عن مختبر معترف به رسمياً من قبل المنظمة الدولية للقياسات (ISO) أو عن إحدى شركات مراقبة الجودة والنوعية المعترف بها عالمياً.
7- حالة الفوضى العارمة التي تتخبّط فيها الصيدلة الزراعية بحيث يعمل هذا القطاع بعيداً عن أنظار الدولة ومن دون أي معيار علمي أو قانوني، فالأغلبية العظمى من بائعي المبيدات الزراعية لا يحملون أي شهادة تخوّلهم ذلك، الأمر الذي يساهم الى حد كبير في تسمّم الإنسان وتلوّث البيئة اللبنانية بسبب الإستعمال العشوائي للمبيدات وعدم معرفة خصائصها الفيزيائية والكيميائية، كدرجة التبخر والذوبان في الماء وطريقة التأثير وقدرة التحرك والإنتقال داخل النبتة والتربة ودرجة الإلتصاق والترسّب في التربة وغيرها.
وباختصار إن عدم الخبرة في إنتقاء المبيد المناسب لكل مرحلة من مراحل نمو النبات يؤدي في معظم الحالات الى ترسّب بقايا المبيدات في المنتوجات الغذائية والتربة والمياه، مع ما ينجم عنها من أمراض خطيرة كالسرطان والشلل والعاهات الوراثية وتلوّث البيئة العامة.

 

الآثار السلبية للمبيدات الزراعية في ظل الوضع الراهن
بصفته عضواً في شبكة الإنترنت (PIC) التابعة لمنظمة الأغذية والزراعة والمختصة بتبادل كل المعلومات المتعلقة بالأدوية الزراعية وخصوصاً لناحية سمّيتها للبيئة، يقوم لبنان رسمياً ومن خلال لجنة الأدوية الزراعية في وزارة الزراعة، باتخاذ قرارات بشأن إلقاء المبيدات ذات الترسبات العالية والطويلة الأمد، وتلك التي تسبب أمراضاً خطيرة وتلوّث البيئة العامة. ولكن الأمر الذي يدعو الى القلق هو وجود معظم المبيدات المحظّر استيرادها في السوق اللبنانية. نذكر على سبيل المثال المبيد الحشري لمكافحة العصفور في فترة نضوج العنب مونوكروتوفوس (Monocrotophos) الذي تمثّل ترسّباته مصدراً للتسمّم وتلوّث الإنتاج الزراعي والبيئة وعائقاً أمام تصدير العنب الى الدول الأوروبية حيث تمّ قبل عدة سنوات إتلاف كمية كبرى من العنب اللبناني كانت قد صُدّرت الى الدانمرك وبريطانيا، كما أُتلفت كمية كبرى من الفواكه والخضار اللبنانية كانت قد صُدّرت الى بلجيكا وهولندا والمانيا بسبب إحتوائها على بقايا عالية من المواد السّامة.
من جهة أخرى كانت لجنة الأدوية الزراعية قد ألقت قبل حوالى 6 سنوات مبيد Cihexatin عندما تبين بأن بقاياه تتسبّب بأمراض سرطانية كما ألقت مبيد Leptophos عندما تبيّن بأن بقاياه تسبب أمراض الشلل، وكذلك الأمر بالنسبة لمبيدي Dicofol وlindon الخطيرين جداً على البيئة والمبيد الحشري Methyl Parathion الذي حصرت لجنة الأدوية إستعماله في أشهر الشتاء فقط وبنسبة لا تتعدى 10٪، أو مبيد Oxamyl الذي حصرت إستعماله بشكل محبحب فقط (Granulé) وقبل الزرع بسبب سمّيته العالية، أو Carbofusan الذي حظرت إستعماله على الأشجار بسبب سمّيته العالية للإنسان والحيوان.
إن ما يثير القلق الأكبر هو وجود معظم هذه المبيدات في السوق اللبنانية بالرغم من قرارات الإلقاء أو الحظر أو حصر الإستعمال. كيف يمكن ذلك؟ وأين أجهزة المراقبة وماذا تفعل حيال هذا الأمر؟ لأن الصمت على ذلك يعني اللامبالاة بصحة المواطن اللبناني وقطع الطريق على أجيالنا القادمة من خلال التلاعب بمصيرهم ومستقبلهم.

 

مضار البيوت البلاستيكية
أظهرت نتائج البحث العلمي الذي أجرته كلية الزراعة - الجامعة اللبنانية حول تفكك المبيدات الزراعية على الخيار في البيوت البلاستيكية أن الفترة الزمنية الضرورية لتفكك هذه المبيدات من ثمار الخيار تراوح بين 3 و7 أيام.
وما يقلق هو أن معظم المزارعين يستعملون في فترة نضوج الثمار مبيدات ذات سمية عالية وتتطلب فترة طويلة للتفكك إلا أنهم بسبب ظروفهم الإقتصادية الصعبة وارتفاع كلفة الإنتاج وعدم قدرتهم على الإنتظار (لكي لا تبلغ ثمار الخضار والخيار بشكل خاص حجماً كبيراً غير صالح للإستهلاك) يضطرون الى قطف خضارهم ونقلها الى السوق قبل أن تتفكك المبيدات المعاملة بها.

 

ما هي الحلول لمشكلة بقايا المبيدات الزراعية في لبنان؟
إنطلاقاً مما ورد، وحرصاً على صحة الإنسان وحفاظاً على سلامة البيئة، يتوجّب على الجهات المختصة في مجال المبيدات (كلية الزراعة ومصلحة الأبحاث العلمية الزراعية ووزارة الزراعة)، مدعومة بالتشريعات القانونية والقرارات الحكومية التنسيق وتحقيق ما يلي:
1- وضع برامج وقائية وعلاجية للنبات على أساس معيار تصنيف المبيدات حسب الفترات الزمنية الضرورية لتفكّكها الى ثلاث مجموعات:
الأولى، تضم المبيدات التي تتطلب أطول فترة زمنية للتفكك وهذه المبيدات يتوجب إستعمالها في المراحل الأولى لنمو النبات.
الثانية، وتضم المبيدات التي تتطلب فترة زمنية أقصر من الأولى وتستعمل في المراحل الوسطى لنمو النبات.
الثالثة، وتضم المبيدات التي تتطلب فترة زمنية قصيرة للتفكك وهي بشكل عام من المبيدات الهرمونية أو الميكروبيولوجية أو من خلاصات النبات القابلة للتفكك خلال فترة قصيرة جداً أو هي من دون أي ترسبات بحيث لا تشكّل خطراً على الإنسان والبيئة.
إن الدور الحاسم في ذلك هو للدولة التي ينبغي أن تتبنّى برامج الوقاية التي تضعها المؤسسات العلمية المذكورة (بالتعاون مع الشركات الزراعية) وتفرض تطبيقها على المؤسسات الزراعية الخاصة لأن هذا هو السبيل الوحيد للحفاظ على الإنسان والبيئة.
2- إنشاء مختبرات وطنية لإجراء الفحوص اللازمة محلياً كشرط لتسجيل المبيدات التي يراد استيرادها من الخارج.
3- تنظيم الصيدلة الزراعية بتشريعات قانونية وقرارات حكومية جديدة تحصر مهمة بيع المبيدات الزراعية بأهل الخبرة فقط من حملة الشهادات الجامعية والمتخصصين بوقاية النبات وبذلك تنحصر مسؤولية تبعات ذلك فيهم.
4- وضع مشروع وطني لترشيد إستخدام المبيدات الزراعية والمكافحة المتكاملة. إن تنفيذ مثل هذا المشروع في جميع المناطق اللبنانية يعتبر رائداً في مجال البحث العلمي ويتمثّل بإجراء أبحاث ميدانية ومخبرية في آن واحد كما يعتبر مشروعاً تنموياً واجتماعياً يساهم في تأمين فرص العمل للفنيين والباحثين ويساعد على الحد من الهجرة وزيادة الإستثمارات الزراعية تحت مظلة النهوض الإقتصادي العام، يرمي هذا المشروع الى الإنتقال عبر مراحل من المكافحة التقليدية التي لا تتقيد بالإرشادات العلمية الى المكافحة القائمة على أساس التوجيهات العلمية، ثم الى المكافحة التي تتم على أساس درجة أضرار الآفة، وأخيراً الى المكافحة المتكاملة الزراعية والفيزيائية والحيوية والمبيدات المتخصصة وغير الضارة بالأعداء الطبيعيين.
هذا المشروع الوطني الكبير هو السبيل الوحيد لوضع حد نهائي للأخطار الناجمة عن تراكم المبيدات الزراعية. إن تنفيذ هذا المشروع بما يشمل من مكونات وأقسام وخطط وبرامج وفترات لإنجازه هو في متناول الأساتذة الخبراء في قسم وقاية النبات في كلية الزراعة - الجامعة اللبنانية (الرسم البياني الرقم 3).