تحت الضوء

عودة الدولة «القوية»
إعداد: لمياء المبيّض بساط

عضو لجنة خبراء الأمم المتحدة للخدمة العامة.

رئيسة معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي وأستاذة محاضرة في كلية العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف في بيروت

 

فيما يتخبّط العالم في مواجهة جائحة كورونا، تتعرض الحكومات لضغوطٍ غير مسبوقة لوضع خطط استجابة من شأنها التخفيف من تأثير الأزمة على الناس والاقتصادات والمجتمعات. لهذه الخطط تكلفة إضافية على الموازنات العامة لم تكن في الحسبان، خصوصًا لجهة الزيادة غير المتوقعة في الإنفاق الصحي، الحماية الاجتماعية، مكافحة الفقر والبطالة، ودعم القطاعات الاقتصادية وغيرها. هذا الوضع يشكّل تحديًا غير عادي في الدول التي تعاني شحًا في مواردها الذاتية أو مديونية عالية، وكل ذلك في ظل انكماش اقتصادي عالمي قد يدوم سنوات.

 

يلقي هذا الوضع بثقله على خطط الدول وآمال شعوبها في تحقيق التقدم على «أجندة الأمل – أجندة ٢٠٣٠» وأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر. هذا وكانت السيدة أمينة محمد، نائبة الأمين العام للأمم المتحدة، سبق وأشارت خلال انعقاد المنتدى السياسي الرفيع المستوى في أيلول من العام ٢٠١٩ وقبل الجائحة إلى تعاظم فجوة التمويل المقدرة بمقدار ٢.٥ تريليون دولار أميركي. كما حذّرت من أنّ ٤٠٠ إلى ٧٠٠ مليون شخص قد يجدون أنفسهم تحت خط الفقر، ما سيدفعهم إلى اللجوء إلى حكوماتهم من أجل تأمين بقائهم.

إذًا الدول جميعها أمام أوضاع غير مسبوقة، دعت العديد منها لاتخاذ إجراءات جذرية وقرارات غير شعبية، بعضها تجاوز مبادىء حقوقية تدعو لها أجندة التنمية المستدامة. أسئلة كثيرة يتداولها اليوم المعنيون بشؤون الحوكمة والمراقبون لمسار الهدف ١٦: السلام والعدل والمؤسسات الفعالة الشفافة والخاضعة للمساءلة. فكيف ستغيّر هذه الأوضاع من مسارات التقدم؟ وهل ستعمد الدول تحت ضغط الأزمة إلى تجاهل مقاصد الهدف ١٦ في تعزيز فعالية المؤسسات فتختار مثلًا العودة إلى التوظيف الاجتماعي لاحتواء البطالة؟ هل ستختار توسيع دور الدولة الأمني أم دور الدولة في الحماية الاجتماعية؟ كيف ستتأمن الاستدامة المالية لهذه القرارات؟ وكيف ستعالج تبعات الجائحة في ما يتعلق باحترام الخصوصيات وصون الحقوق الشخصية واحترام سيادة القانون التي من دونها لا يمكننا أن نأمل في تحقيق التنمية المستدامة؟

 

التوسع السريع لسلطة الدولة

في أجزاء كثيرة من العالم، تسبب تفشّي كوفيد -١٩ بأكبر توسع لسلطة الدولة منذ أجيال، وبشكلٍ يتعارض أحيانًا مع أهداف التنمية المستدامة لا سيما المقصد ١٦.٦ الذي يتمحور حول «تطوير المؤسسات الفعالة الشفافة والخاضعة للمساءلة على المستويات كافة». وفي بعض الحالات، يفرض عدم وجود سياسة مالية محددة مسبقًا لمواجهة الأزمات أو أطر مؤسسية كافة واضحة للتدخل، تغييرًا آنيًا في دور الدولة ومؤسساتها قد يصبح دائمًا. ويحدث ذلك بسرعةٍ كبيرة جدًا ومن دون أي نقاش أو مساءلة تقريبًا من قبل المجتمع، وخصوصًا ما يتعلق باتخاذ قرارات صرف الأموال العامة والتوظيف وغيرها. الخوف أن يؤدي هذا التغيير الموضعي إلى تغييرات دائمة في شكل الدولة وإجراءاتها وحدود سلطتها من دون نقاش ديموقراطي كاف يصوّبها حيث يلزم، ويؤمّن استدامتها. فضمن الجهود  المبررة لإنقاذ الاقتصاد وحماية العمال مثلًا، ستعمد الدول إلى زيادة الإنفاق على الرعاية الصحية وبرامج شبكات الأمان. كما ستعمد العديد منها إلى السير بتوجيهات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فتتدخل لتقديم المليارات لإنقاذ الصناعات المنكوبة، وخفض أسعار الفائدة، وغيرها من التدابير من ضمن إجراءات الطوارئ المقرّة مركزيًا، ووضع حزم التحفيز الاقتصادي التي تضمن صمود الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتخفيف أثر الانكماش الاقتصادي الحالي والمستقبلي على الفئات الأكثر ضعفًا.

وفي حين تلقى العديد من هذه الخطوات الترحيب الفوري، لا يبدو المجتمع حاضرًا لنقاش هذه القرارات وتقييم آثارها المستقبلية على الدين العام، وانعكاسها على الضرائب والعدالة الاجتماعية وتنافسية الاقتصاد والحاجات التمويلية المتوسطة المدى. النقاش شبه معدوم حول استراتيجيات التدخل وآلياته وقواعد الرقابة والمساءلة المتبعة ومدى تلاؤمها مع مبادىء الحوكمة، بحيث تكون استراتيجيات التدخل الآتية:

أولًا: مستدامة وفعالة وشفافة من الناحية المالية، لا سيما بالنسبة لعمليات الشراء وصرف الأموال في الظروف الاستثنائية.

ثانيًا: منزّهة عن الفساد والتواطؤ وتضارب المصالح والاستغلال السياسي.

ثالثًا: لا تسمح بالتهرّب الضريبي أو تترك مجالًا لتدفقاتٍ مالية غير مشروعة تستنزف الاقتصادات وتحوّل التمويل بعيدًا عن المستشفيات العامة ووحدات العناية المركزة إلى جيوب المحظيين.

رابعًا: دستورية ومتوافقة مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

التحديات التي تواجه حقوق الإنسان والحق في الخصوصية إلى مخاطر الاستدامة المالية، الشفافية والاستغلال، يشير التاريخ إلى أنّ الأزمات تؤدي إلى توسع حتمي في حجم الدولة ودورها، مع استئثارها غير المخطط له ربما لمزيدٍ من السلطات والمسؤوليات. وفي العديد من الدول، يطال التهديد خصوصية الإنسان وحقوقه، لا سيما المادة ١٢من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقد تابعنا بواسطة وسائل التواصل والإعلام كيف بدأت بعض الحكومات بالفعل باستغلال سلطاتها في الظروف الاستثنائية للجائحة لمراقبة تحركات الأشخاص وضبط طلبات شراء السلع الأساسية وغيرها، مع نتائج مشكوك فيها مرتبطة بفعالية هذه التطبيقات ومستوى الحوكمة.

ومع استخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي لضبط تفشّي المرض، وتأمين المواد الغذائية وغيرها من المواد الأساسية ومراقبة حركة التنقّل وغيرها، بدأت تنتشر ظاهرة جمع البيانات الشخصية بشكلٍ واسع، وفي غالب الأحيان من دون تنظيم واضح أو ضوابط صارمة في ما يتعلق باستخدام هذه البيانات وحقوق الخصوصية. وهذا يشمل البيانات الروتينية لتحركات الناس، والسجلات الإلكترونية بما في ذلك السجلات الطبية، والبيانات الأخرى غير ذات الصلة.

إن مسؤولية الحكومات في مكافحة جائحة كورونا لا يجب أن تتعارض مع احترام الحقوق الدستورية للمواطنين، ولا أن تكون سبيلًا للالتفاف على التزامات الدول بتحقيق الهدف ١٦، وتعزيز التقدّم على مسارات التنمية المستدامة بأبعادها الحقوقية الأساسية، وهي الأبعاد التي ميّزت أجندة ٢٠٣٠ عن سابقاتها، وجعلت من الحوكمة المستدامة المدماك الأساس للأمل.

وبينما تكافح المجتمعات لإصلاح الأضرار التي لحقت بحياة الناس وسبل عيشهم، من المرجح أن تبرز أسئلة جوهرية حول حجم السلطة التي أعطها الحكومات لنفسها خلال هذه الأزمة ونوعيتها.

جرأة أكبر وأطر تنظيمية فعّالة سوف يتسلّح بها المدافعون عن الحوكمة المستدامة وعن حقوق الإنسان في الفترة القادمة.