كلمتي

عودة النسور
إعداد: العميد الركن صالح حاج سليمان
مدير التوجيه

قدّر لهذا الوطن ان يستشهد أبناؤه في ربيع العمر وفي ربيع الفصول حيث يبلغ تفتّح الزهر مداه، ويكتسي الشجر بالأخضر الشامل «من الرأس حتى أخمص القدمين»، فكأنّ اللون الأحمر لا يطغى بين الألوان إلاّ بانسكاب الدماء الزكية الطاهرة فوق تراب الوطن، وكأنّ ورد الأحواض والحقول لا يرضي العيون بمفرده، ولا بدّ للشهادة أن تساعده في تخضيب وشاح لبنان الخالد بـ «القاني» الإنساني الغالي.
كنا نظن أننا اكتفينا بالمناسبتين الوطنيتين: 6 أيار (يوم شهداء الحرية والاستقلال)، و25 أيار (يوم المقاومة والتحرير)، فزيّنّا بهما أوراق روزنامتنا، وأوصينا المطابع بأن تكتفي بهما، لكنّ يوم 12 أيار أتى ليطرح طلب انتساب جديد الى الشهادة بإسم الشرف والتضحية والوفاء، وكان المنادى هذه المرة «سرب» من نسور الجو في جيشنا، ولم يكن بدّ من الإجابة، والـ «نعم» هي الكلمة الجاهزة على الألسنة وفي القلوب، و «لبّيك يا لبنان» هي العبارة المستنفرة دائماً. لا بد من تلبية النداء، وها هم أبطالنا هادي وألبير ونزار وريمون يقولون للقدر: ويحك قتلتنا... لكننا لن نتراجع. وهذا ما يذكّرنا بالمتنبي، حين تعرّض لتجربة البطولة، وحاول أن يؤجّل مصيره، فانبرى مرافقه يقول له: أتتراجع يا أبا الطيب، وأنت القائل:
«الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم»
فالتفت الشاعر العربي الى غلامه قائلاً: ويحك قتلتني، وأقدم يجابه مصيره وهو يعرف أنّ الأمر خطير وأنّ النتيجة غير سليمة. واستشهد معمّقاً رسوخه في الوجدان جيلاً بعد جيل.
نسور الجوّ عندنا نعرفهم جميعاً، ونعرف المصاعب التي يتعرضون لها والتي تحيط برسالتهم وتحيل الكثير من مهماتهم العسكرية والوطنية والإنسانية، والإنمائية... الى مغامرات ومجازفات. ونعرف أنهم يواجهون ذلك مبتسمين، فإن عادوا إلينا بالسلامة واصلوا الإبتسام، وإن لوى الدهر أجنحتهم هبّ رفاق لهم يحلّون مكانهم في الفضاء، فمن غير الجائز أن تبقى سماء لبنان مقفرة من أبنائها، كائنة ما كانت الأخطار، وكائنة ما كانت الظروف المادية والإقتصادية والتقنية.
بالأمس غير البعيد، كانت لرجال البحر عندنا مغامرات مماثلة مع الماء، حيث واجهوا غدره المالح واستشهد بعضهم. واليوم ينضمّ الى القافلة نسور جدد جعلوا من الشهادة تقليداً وطنياً وعائلياً، بحيث يتبع النسر رفيقه، وأحياناً أباه، الى أجواء الشرف، وإضافة الى ذلك كلّه يستمر حماة البر في الإستشهاد وهم يواجهون العدوان الإسرائيلي، ويقتلعون أشواكه واحدة بعد الأخرى من ترابنا الوطني المقدس، مواجهين في الوقت نفسه عدواً آخر يتربص بالوطن هو ضيق ذات اليد، وفراغ الجيوب، اللذين يحرمان هذا الجيش من اقتناء ما يليق بتضحياته من عتاد وسلاح. وقديماً قيل: «إن الفقر في الوطن غربة»، أما نحن، فنكتفي اليوم بالقول: لن نكون غرباء في وطننا حتى لو ابتعد الغنى عنا، وسنضحي بـ «اللحم الحي» كما علّمنا الأهل في مدارسنا الأولى.