سياحة في الوطن

عينطورة
إعداد: باسكال معوض بو مارون


«عين الجبل» المكتحلة بنور المعرفة وبلدة العيد المقيم في قرميد السطوح

لا نعلم إن كانت عينطورة التي تقول أغنية فيروز أنها «ملفى الغيم وسطوح العيد». هي عينطورة - كسروان. أم عينطورة - المتن... لكن في أي حال فإن عينطورة - كسروان التي كانت محطة سياحتنا في الوطن، هي عيدٌ بسطوحها القرميد، وهي «عين الجبل» وحاضنة ثقافة وتاريخ.
قرية هادئة وادعة تغفو في قلب وادٍ تستيقظ كل صباح تدغدغها أشعة الشمس وتسكب عليها طيفاً من نشاطها وحيويتها. إطار من الصنوبر والسنديان يحيط بها ويرسم حدودها ويرتفع على جنباتها كالحارس الأمين. تلك هي عين طورا، حيث «العين» هي النور والمعرفة، و«الطور» هو الجبل رمز الشموخ. اجتمعت الكلمتان فكانت بلدة عينطورة.
لعينطورة تاريخ عميق الجذور. مغاورها وعذوبة مياهها جعلاها موئلاً للسكان منذ أقدم الوجود. أما في التارخ الحديث فيعود عهد التمركز السكاني في جنباتها الى العام 1300م، يوم أمّ العسافيون الشواطئ اللبنانية لحمايتها من غزوات الصليبيين واستطونوا الازواق، ثم سكنوا قرب العين على الجبل حيث الماء عذب والمورد خصب.

 

عين الجبل
يعود أصل تسمية عينطورة الى اللغة السريانية ومعناه «عين طورا» أو عين الجبل. لقد توافق جميع الباحثين على هذا التفسير الذي يعود الى النبع الذي يقع في أعلى البلدة، والذي اشتهر وذاع صيته في ما مضى.
تقع البلدة في وادٍ صغير تحيط به الجبال من ثلاث جهات وتطلّ على البحر غرباً. يحدّها شمالاً زوق مكايل وشرقاً عين الريحانة، جنوباً جعيتا ومزرعة الراس وغرباً زوق مكايل وزوق مصبح.
مناخ عينطورة معتدل شتاءً وحار صيفاً، وهي، غنية بالخضرة وتغمر بيوتها أشجار اللوز والزيتون والليمون والتين ودوالي العنب، اضافة الى السنديان والسرو والصنوبر.

 

قالت الكتب
ذكرت عينطورة عدة كتب تاريخية؛ ففي كتابه «الآثار» قال المستشرق فولني الذي زار البلدة ومكث فيها مع اللعازاريين الأوائل: «على حدود كسروان شرقي نهر الكلب تقع قرية عينطورة الصغيرة حيث أسس اليسوعيون بيتاً جميلاً يشبه البيوت الأوروبية يتحلّى بالبساطة الى جانب النظافة. الماء العذب يترقرق حوله ويروي أرضه المخضرة بالتوت والكروم. يطلّ على الوادي الجميل ومنه على البحر. وما أروعه محبسة يتوق اليها النسّاك. حلّ فيه الآباء اللعازاريون بعد رحيل اليسوعيين وعينوا عليه رئيساً وخوري رعية يهتم بالرسالة بكل محبة ونزاهة وإخلاص...».
وفي كتابه «أخبار الأعيان في جبل لبنان» يثبت الشيخ طنّوس الشدياق ان تاريخ سكن بلدة عينطورة هو العام 1307 ويقول: «أمر الملك محمد ناصر، أتباعه التركمان أن ينزلوا من الكورة الى ساحل كسروان ليحافظوا عليه من الافرنج، وكان دركهم من حدود انطلياس الى مغارة الاسد وجسر المعاملتين... وكانوا يقطنون في زوق العامرية وزوق الخراب وزوق مصبح وزوق مكايل، وقد جددوا عمائر وبساتين وجنائن في عين طورا وعين شقيف لإقامة أمرائهم شتاءً وصيفاً».
وفي كتابه «المقاطعة الكسروانية» يتحدث الخوري منصور الحتوني عن عين طورا أي «عين الجبل» التي كانت مركز الامراء العسافيين: «ثم ترك العسافيون عين طورا الى بيروت وعادوا اليها  العام 1515، وبعد ذلك تركوها نهائياً الى غزير ولا يزال بعض برك المياه تحت العين وفي محلة الرويس، وبعض أكوام الحجارة على تلة الرويس تدل على آثارهم. بعد ذلك أصبحت الارزاق ملكاً لمشايخ آل الخازن وذلك على ايام الأمراء المعنيين. وفي هذه الفترة لم يكن هناك بلدة بل كانت حقول وكروم تحتوي على بعض الاقبية، وكان الناس يقيمون حول دير حرش في بقعة دعيت باسم مزرعة حراش (1641)».

 

مغاور سكنها الانسان القديم
من الثابت تاريخياً وجغرافياً ان الانسان في العصر الحجري بعد سكنه في مغارة معاملتين ومغارة انطلياس تسلّق صعوداً نحو وادي نهر الكلب ومغارة جعيتا، ومنها اخذ يفتش في الجوار عن المغاور وعيون الماء. واذا به يكتشف عين الماء النابعة من الجبل في عينطورة الحالية وبقربها مغارة، ومغارة حراش ونبعها شمال شرق عينطورة.
وقد أثبتت هذا الوجود للانسان الحجري حملة التنقيب التي قام بها فريق بقيادة الاب زينوفن العام 1960، الذي عثر في بعض هذه المغاور على حجارة صوّان مصقولة ومعها بقايا هياكل حيوانات تعود الى عصور مختلفة.
توسّع التنقيب في الاعوام التالية (1962-1964) بقيادة الاب فرنسيس أور اليسوعي داخل المغاور وخارجها، ودلت الاكتشافات على ان الانسان سكن هذه المغاور في العصرين الحجريين الحديث والمتوسط. وهنالك مجموعة من حجارة الصوان في مختبر مدرسة عينطورة كان الاب جوفروا اللعازاري قد جمعها من هذه المغاور العام 1925.
عين الماء التي تنبع من سفح الجبل في عينطورة والتي حملت البلدة اسمها القديم، كانت محور وجود الانسان، يقصدها ليروي غليله بمائها. فبعد نبع مغارة جعيتا في الوادي كانت هذه العين نقطة جذب الانسان في العصر الحجري، خصوصاً انها تقع قرب الشاطئ وقبل الداخل والجبل، وفي جوارها مغاور طبيعية يلجأ اليها الانسان البدائي الباحث عن الامان.  
من أشهر المغاور في منطقة عينطورة مغارة الشاوية وهي بطول عشرة امتار يراوح عرضها ما بين مترين وثلاثة، وعلوها متران ونصف المتر وطول مدخلها حوالى ثلاثة امتار وعرضه متران وعلوه متر ونصف.
كانت المغاور ملجأ للهاربين أيام الحرب، ومأوى المبعدين عن المجتمع بسبب امراضهم المعدية، وايضاً مأوى للرعيان وقطعانهم.
وكما غالبية المغاور حيكت حول مغارة الشاوية الاساطير والخرافات، فقيل انها مسكن الجنّ والغول. ويروى ان الفتيان الصغار كانوا يصعدون اليها ويدقون على جدرانها بالحجارة داعين الجنّ الى الظهور أمامهم.

 

دير مار يوسف
في منتصف القرن السابع سافر احد الرهبان اليسوعيين فرانسوا لمبرت مع اثنين من الرهبانية عبر البحر قاصدين صيدا او طرابلس حيث كان لليسوعيين دير في كل من المدينتين. إلا أن زوبعة شديدة قذفت بمركبهم الى شاطئ زوق مكايل، ظنهم الأهلون قراصنة او جواسيس فقبضوا عليهم واقتادوهم الى الشيخ ابو نوفل الخازن. كشف هذا الاخير على اوراقهم وعرف انهم مرسلون يسوعيون فأحسن استقبالهم وأنزلهم في دارته بكل ترحاب. حصل ذلك في شتاء العام 1652، فأرسل الاب لمبرت الى رئيس الآباء اليسوعيين في صيدا يخبرهم بما حصل لهم. واعتبر الشيخ ابو نوفل الخازن الامر تدبيراً الهياً لمجيء اليسوعيين الى كسروان. فقدم لهم قطعة ارض من املاكه في عينطورة وبنى لهم فيها من ماله الخاص ديراً من ثلاث غرف سفلى وثلاث علوية، مع كنيسة صغيرة يجاورها بستان كرمة وأمدّهم بكل ما يلزم لمعيشتهم.
وذكر أحد المرسلين في رسالة له ان «الاهلين كانوا يساعدون الآباء في بناء الدير وتطوير جرّ مياه العين وتحسين البستان».
من هذا المركز كان الآباء ينطلقون الى السواحل واعالي الجبل لممارسة نشاطهم الديني والتعليمي.
العام 1773 ألغى البابا كليمنطوس الرابع عشر جمعية اليسوعيين، وبعد مشاورات تقرر ارسال اللعازاريين الى جبل لبنان.
وفي عينطورة خدم الآباء الرعية وعلموا التعليم الديني وجددوا الاخوية، لكن الدير تعرض لعدة نكسات الا انه عاد الى نشاطه وازدهاره اعتباراً من العام 1827.

 

معهد عينطورة
كانت فكرة تأسيس مدرسة ثانوية في عينطورة تراود كثيرين من روما الى الدولة الفرنسية، مروراً بالشاعر الفرنسي الشهير لامارتين الذي حلّ ضيفاً على المرسلين في ديرهم وألحّ على رئيسه لتأسيس معهد. وما لبث الآباء ان قرروا فتح مدرسة ثانوية في الدير الذي كان على اسم القديس يوسف.
في تشرين الاول من العام 1834 فتح دير مار يوسف ابوابه لاستقبال التلاميذ للتعليم الثانوي وكان عددهم سبعة. ولما كان التعليم نادراً آنذاك كان الاقبال كبيراً على المدرسة فضاق الدير بالطلاب الداخليين وكان منهاج المدرسة: الآداب والحساب والتعليم الديني واللغتين الفرنسية والايطالية.
لكن المدرسة لم تعرف انطلاقتهها اللامعة الا على عهد ألفونس سالياج الذي عيّن رئيساً لها العام 1879 فخطط للبناء بمساعدة الاخ دولانوي وقد نفذ على مراحل، فجاء عند اتمامه تحفة رائعة. كما اهتم ايضاً بالدروس والاخلاق، فطارت شهرة المدرسة حتى بات تلميذ عينطورة مضرباً للمثل.
والعام 1895 تمّ بناء الكنيسة الجديدة للمدرسة وانشئت الطريق التي تربط مفرق الزوق بعينطورة.
عيّن الاب نعوم عطاالله رئيساً للمدرسة العام 1969 وكان اول لبناني يتولى هذا المركز فيها، وقد عمل على تحديث ادراتها، وتعزيز نشاطاتها خصوصاً الرياضية منها.
تضم مدرسة عينطورة اليوم حوالى اربعة آلاف تلميذ، وهي في سعي دائم لرفع المستوى الثقافي والحضاري ومتابعة المسيرة التي بدأها منذ اكثر من قرن.
ونذكر من تلامذة عينطورة الذين برعوا في الادب: الياس ابو شبكة والشيخ يوسف الخازن، ومن رجال السياسة الرئيس الراحل سليمان فرنجية، هنري لحود وكمال جنبلاط.

 

دير راهبات الزيارة
في الحادي والعشرين من شهر نيسان 1742 عقد اجتماع في دير مار يوسف - عينطورة، وتقرر تأسيس دير للراهبات في البلدة وقد بدأ العمل العام نفسه.
وانتعش الدير وازدهر بشكل كبير وما لبثت ان تأسست قربه مدرسة فتحت ابوابها للطالبات العام 1862 واصبح لها اسم كبير في المنطقة والجوار، وقد كانت الاديبة مي زيادة من تلامذتها.

 

كنيسة سيدة الانتقال
بعيد منتصف القرن التاسع عشر بدأ اهالي البلدة تشييد كنيسة سيدة الانتقال، وبعد شراء قطعة ارض قرب دير مار يوسف بدأوا بجمع ما مكنهم من المال لبنائها. كان الميسور منهم يدفع مساهمة نقدية، وغير الميسور يعمل مجاناً في البناء الذي اخذ يرتفع ببطء.
وعلى امل انجاز البناء علّق الاهالي جرساً في سنديانة عتيقة عند مدخل الكنيسة كانوا يقرعونه في المناسبات. وفي اثناء ذلك ظلوا يترددون الى الكنيسة المتواضعة قرب دير الراهبات.
واستمرت الحال على هذا المنوال حتى العام 1879 حين تسلّم الاب سالياج رئاسة مدرسة عينطورة، فساهم مساهمة كبرى في إنجاز كنيسة الضيعة التي دشنت العام 1888.

 

تطوّر البلدة
عاش معظم ابناء عينطورة قديماً شركاء عند الرهبان والراهبات في منازل وضيعة ملتصقة بعضها بالبعض الآخر وذاقوا شظف العيش ومرارة الحياة ليفخروا اليوم بقريتهم النموذجية، وقد ذهبت مضرب المثل بنهضتها وانتفاضتها على جميع الاصعدة وفي كل الميادين.
بعد الحرب الكونية الاولى في العام 1919 هبّ ابناء البلدة الى النضال والكفاح لكسب العيش الشريف بعرق الجبين وكدّ السواعد، بعد ان كانوا قد عانوا كما سواهم من اللبنانيين اهوال الحرب.
الفئة الميسورة دفعت بأبنائها الى التحصيل العلمي في معهد القديس يوسف الذي كان في اوج عزّه وعطائه الثقافي والوطني، فيما انصرفت الفئة الاخرى الى تعلم مهنة او صنعة تبعد عنها شبح الجوع والفقر وتشق امامها طريقاً للمستقبل.
كان همّ شباب البلدة اقتناء قطعة ارض في بلدتهم وبناء نزل عليها، وعلى الرغم من كل الصعوبات التي اعترضتهم، لأن معظمم الأراضي كان ملكاً للاوقاف، فقد آثروا توفير ما يلزم للشراء والبناء: وعلى رقعة لا تزيد على الكليومتر المربع الواحد، اقام اهالي البلدة ما يقارب الثلاثمائة بيت أكثرها على الطراز الحديث تتوافر فيها الكماليات واسباب الراحة.  
نمت القرية الصغيرة المساحة، القليلة السكان بسرعة كبيرة. والسبب في ذلك يعود الى ان المغتربين من اهالي عينطورة، والموزعين في القارات الخمس، لم ينسوا قريتهم فظلت حاضرة في ذاكرتهم، يمدونها بالعون المادي والمعنوي، ويدفعون بازدهارها قدماً مخصصين نسبة من اموالهم لامداد الوقف أو لبناء مدرسة او لإبراز بعض المعالم.

 

مشاريع وانجازات
الدكتور سمير صفير رئيس بلدية عينطورة يتذكر بلدته مطلع شبابه، حين كانت شوارعها محرومة من نعمة الكهرباء خلافاً للبلدات المحيطة بها. والامر نفسه يصح بالنسبة الى باقي الخدمات.
يقول صفير:
تغيرت الصورة في السنوات الاخيرة، وقد بذل المجلس البلدي كل ما يمكن من جهود للنهوض بالبلدة. واضاف:
نعمل في البلدة بدوام مسائي يبدأ في الخامسة بعد الظهر ويمتد حتى تنتهي الاعمال. هذه الضيعة تلائم الاهالي الذين يزورون البلدية مساءً فيصرّفون اعمالهم من دون ان يضطروا الى الانقطاع عن وظيفة او عمل لإنجاز معاملة.
وعن المشاريع التي انجزتها البلدية قال: لقد بدأنا عملنا بإقامة البنى التحتية للبلدة. فكانت اولوياتنا المشاريع الاساسية من تمديدات مائية وكهربائية وصحية الى توسيع الطرقات وانارتها واقامة ارصفة وحيطان دعم حجرية، وصولاً الى زراعة الاشجار والغازون.
والجدير بالذكر ان اعمالنا التأهيلية راعت الحفاظ على طابع عينطورة التراثي، حيث ابقينا معالمها القروية واضحة للعيان في الانحاء كافة.
كذلك اهتممنا بتحسين مقر البلدية مع مكننة الوثائق والمعاملات واستحدثنا داخل المبنى مستوصفاً طبياً يهتم بأهالي البلدة والجوار، حيث يؤمن حوالى 20 طبيباً من مختلف الاختصاصات دوامات دائمة، لمعاينات المرضى، كما توزع الادوية مقابل بدل رمزي.
قبل ان ينهي حديثه يخبرنا صفير ان عينطورة استقبلت اللبنانيين النازحين بسبب العدوان الاسرائيلي في تموز الماضي فاتحة لهم بيوت ابنائها وقلوبهم.
كما يخبرنا ان عينطورة تفخر بتاريخها ومدرستها العريقة وبأبنائها الساعين دوماً الى نهضتها.

 

السجل الذهبي

زار معهد عينطورة عدد من المستشرقين من ادباء وشعراء وباحثين ورجال سياسة امثال فولني، إلفونس دو لامارتين، آرنست رينان، جورج لوكونت والجنرال ويغان. وكانوا يدوّنون اسماءهم في «سجل المدرسة الذهبي». السجل كان بستان الليمون بجانب الدير حيث حفر كل زائر اسمه على جذع شجرة.
مع اضطرار المدرسة للتوسع تمّ قطع هذه الاشجار التي حملت جزءاً من ذاكرة المعهد. يومها انزوى الاب سالياج في غرفته حتى لا يرى اختفاء الاثر الثمين.


عائلات عينطورة

يبلغ عدد سكان بلدة عينطورة حوالى 4 آلاف يتوزعون على العائلات الآتية: أبي نخلة، خليفة، سلامة، متى، مسعود، بعينو، ملحة، مبارك، عقيقي، صفير، سالم، المدوّر، صافي، دفوني، الحاج يوسف، خليل، الاشقر، شمالي، ضوّ، لحود، سعادة، بولس، القاعي.