سياحة في الوطن

عين كفاع منها وجوه مارون عبود وحكاياته
إعداد: باسكال معوّض بو مارون

« العين المخفية » ملتقى القــــــوافل والجمالات

 

«هناك حيث تنتهي حدود الزمن، ومقاييس الناس، وعرف البشر وتقاليدهم»... تقع عين كفاع.
هي لوحة خطتها يد الطبيعة في اطار من الجبال الخضراء، بخطوط من نور وبألوان التراب وقوس القزح...
«عين كفاع في نظري نبع وحي كبير» يقول مارون عبود، كيف لا وهي القرية الوادعة الهانئة والتي من فرط هدوئها ودعتها سميت عين كفاع؛ واللفظة سريانية مركّبة تعريبها العين المخفية، وقد وافق الاسم المسمّى كما قال مارون عبود حتى خفيت القرية على الحكومة فكانت كأبي نواس حين قال:
تحجبت عن دهري بظل جناحه             فصرت أرى دهري وليس يراني

 

عين مخفية

يقول الدكتور انيس فريحة أن جذر «كفع» لا اثر له في اللغات السامية وقد تكون العين مقلوبة عن همزة أي أن الجذر كفأ وقد يكون الاسم أصلاً عين القبو أو المقبية، غير أنه يرجح أن يعني الاسم عين الملقى أو الملتقى.
ويقال انها دعيت بهذا الاسم لوجود عين مخفية في السهل (الوطا) اسمها عين الوطا.
تقول الاسطورة القروية انها مغطاة بسبعة لحف والحقيقة أن في قلب «الوطا» موضعاً منخفضاً ومقفراً يدعى «عين الوطا»؛ كانت على عهد لبنان معبر القوافل القادمة من جبيل وجونية وبيروت وصيدا ودمشق، مثقلة بالبضائع إلى بنادر الشمال: دوما وبشري واهدن وغيرها من دساكر لبنان.

 

« جزيرة برية »

موقعها الطبيعي يصفه مارون عبود قائلاً: «جزيرة برية على رابية مخروطية مفرطحة قليلاً»، وتعلو عين كفاع حوالى 053 متراً عن سطح البحر وتطل عليه من الجهة الشمالية حيث يمتد نهر شتوي طويل ومتعرّج يدعى نهر المدمون وغرباً واد وشرقاً سهل مقعّر قليلاً هو «الوطا».
في هذا السهل الصغير الذي يمتد عند اقدام القرية تتزاحم اشجار الزيتون والتين والسفرجل والاجاص واحراج السنديان والعفص والبطم تتعرّش عليها الكرمة.
تجثو عين كفاع امام الجبال المنتصبة حولها وتزخر بالغابات الكثيفة وجل أشجارها السنديان، وهي تبدو كمربعات ومثلثات على جوانبها الكروم، وفي الجهة الغربية غابة تكسو الجبل من قمة رأسه إلى أخمص قدميه بينما ينتشر الآس في الجبهة الشمالية.
وحول القرية كهوف ومغاور تعد بالعشرات أشهرها مغارة سيدة القطين ومعنى القطين الكهف العظيم وهناك بنى الأب بطرس من «خشكار» ديراً للرهبان وذلك في العام 555 وأسماه دير القطين، وقد استعمل في البناء خشب الأرز المقتطع من جبل جاج. ولكنه احترق ولا تزال آثاره قائمة في قلب الصخر وفيه اليوم مزار للسيدة العذراء يحج إليه سكان المنطقة طالبين الشفاء من أمراضهم.

 

من أيام الرومان

في بلدة عين كفاع منطقة تعج بها الكنائس وذات تاريخ أثري يخبرك عنه العارفون، فيقولون ان مساحتها حوالى ألفي متر مربع وتحتوي على آثار قديمة تدل على تاريخ هذا المكان منذ عصور الرومان، اذ انها كانت محطة من محطات تنقلاتهم البرية خصوصاً بين جبيل والقلاع الموزعة في المناطق المجاورة.
وتشهد على ذلك كنيسة القدّيس روحانا التي بناها الخوري يوحنا ابن الخوري فرج الحداد، وقد عثر على قرطاس في كنيسة تحوم يؤيد ذلك وهو مؤرخ في 15 آذار سنة 1972.
وكنيسة مار روحانا ذات بنيان فخم متين مشيّد على بقايا برج قديم آثاره ما زالت ماثلة، فزاويته القبلية الغربية راسخة على حجارة ضخمة كأنها من قلعة بعلبك وإن كان دون الكبرى ضخامة، إلا أن حجارة الهيكلين من مقلع واحد. اما درج الكنيسة فداخلي وهي أشبه بحصار منها بهيكل، وفي خاصرة حنية الكنيسة حجرة مخفية أعدّها القدماء مدفناً لكنوزهم.
وبالقرب من هذا المعبد، اكتشف الأثريون مدافن قديمة واستدلوا على منزلة مهمة لمن سكن في هذه الأماكن الأثرية.
وقد زار بيار مونته سنة 1922 هذه الآثار وكان أثناءها يتولّى الحفريات في مدينة جبيل، وقد انتهى مونته إلى أساس الهيكل الذي قال عنه بأنه روماني الفن والعمارة وفيه سراديب طويلة كانت تجمع بين أطراف الموقع.
وقد عثر مونته على ناووس كبير في زوايا غطائه الثلاث قاعدتان، فيهما نقوش بديعة، وقد نقل هذا الناووس إلى أماكن الحفريات في جبيل. كما عثر على بعض الصحون والكؤوس من الفضة والبرونز، وهذا ما كان يستعمله الرومان.

 

1000 سنة قبل المسيح

في سنة 1926 زار هذا الموقع العالم دونان الذي كان مسؤولاً بدوره عن حفريات جبيل، فأكد على وجود المدافن وعمقها حوالى 01 أمتار خالية من أي أوان أو عظام، وقد حدد دونان أماكن السور القديم المهدّم مما يدل على أن هذا المركز كان ضمن سور كبير لحمايته.
هذه الأعمال الأولية التي قام بها بعض المنقبين عن الآثار كشفت موقعين كبيرين ومستودعات مؤلفة من غرفتين مستطيلتين متلاصقتين كسيت جدرانها بطلاء من الكلس. وهذه الجدران هي كل ما تبقى من الغرفتين، لأن الغرف كلها مع بقية أقسام المعبد قد أتلفها الزمن خصوصاً في الحروب.
معظم هذه الآثار يرجع تاريخها إلى الفترة الممتدة إلى ألف سنة قبل المسيح وألف بعده، عندما تحوّلت الامبراطورية إلى بيزنطية فتأثرت بالأشكال الهندسية البيزنطية.
على الجبال المحيطة بعين كفاع هياكل عدة يتهددها الدمار ومنها مار عبدا ومار سمعان ومار سركيس. وفي ديار مار عبدا تخفّى المطران يوسف اسطفان حين أهدر الأمير بشير دمه بعد «عاميتي انطلياس ولحفد» ولم يبق من هذا الدير حالياً إلا بقايا قليلة.
وقد أورد الأباتي بطرس الحداد الانطوني في مخطوطة «أصول تاريخ عين كفاع» ما حرفيته «اشتهرت عين كفاع بهياكلها ومدافنها القديمة التي اكتشفها الأثريون واستدلّوا على منزلتها كمحطة تاريخية بين الجبل والساحل وفي الطريق الممتد من الشمال حتى الجنوب فبنوا فيها:
- هيكلاً معالمه ما زالت حتى هذه الساعة وقد بنيت عليه كنيسة مار روحانا.
- كنيسة مار صوما التي ابتناها متري وولداه جبرايل وبشير الحداد.
- كنيسة سيدة النجاة التي شادها بشير بن متري الحداد، اما اليوم فقد خربت وهي ملك الشيخ نعوم الحداد.

 

سماؤها وثمارها والخمر...

طبـيعة عين كفاع مميزة، فالاخضرار دائم فيها في كل الفصول وسماؤها صافية فلا ضباب ولا رطوبة، والافق فيها مشرق صاف «كعين الديك»، ومناظرها خلابة، وهي على حد قول مارون عبود «مجرى هواء وللريح فيها هيمنة ازلية، وثمارها استبدت باللذاذة وفيها خمرة دونها خمرة شمبانيا بوردو، ذاقها أجانب كثيرون فأعرضوا عن خمرتها واحتسوها متمطقين».
ومحصول عين كفـاع من الزيتـون كبـيـر وتأتـي بعده زراعـة التـين والعنـب واللـوز والسفرجـل، الا ان التبـغ والتـوت اللذيـن اشتهـرت بهمـا فانقرضـا إلى غيـر رجعـة.
ولا ننسـى أن عين كفـاع صدّرت أدباء كباراً عظماء، ويتمـتع أهالـيها بثقافة عالية لذلك عرفـت بأنها بلدة الثقافة والفكر. إلى جانب هذه الثقافة حاز معظم أبنائها شهادات واختصاصات منوّعة، فمنهم القضاة والأدباء والشعراء والمحامون والمعلمون والمهندسون وأصحاب المهن الحرة كافة.

 

عين كفاع ومارون عبود

في التاسـع من شهر شـباط من العام 1886 ولد مارون عبود في عين كفاع التي كان لها اثر كبير في ادبه. ومما قاله في هذا المجال: «أنا لا أستطيع أن أكتب قصة إلا مستوحاة من جو لبنان، لبنان العتيق، «جبل لبنان...» فإني ابن القرية اللبنانية، أستطيع أن أصوّر حياتها ونفسيات أشخاصها، فإذا كتبت في هذا الموضوع جاء نتاجي طبيعياً بعيداً عن الزيف».
خـلّف مارون عـبود ما يزيد عن 52 كتاباً ما بين مـجلّد وكتيب، عدا المقالات في الصـحف والمجلات ومن أهم مؤلفاته: «وجوه وحكايات»، «زوبعـة الدهور»، «الرؤوس»، «أقزام جبابرة»، «بيـروت ولبـنان منـذ قرن ونصف قرن»، «أحاديث القرية»، «نقدات عابر»، فارس آغا». وقد توفـي مـارون عبود في 3 حزيران 1962.

 

السكان

عين كفاع بلدة من بلاد جبيل يبلغ عدد سكانها حوالى 8500، ويتوزعون على خمس عائلات رئيسية في البلدة وهم بحسب تاريخ سكنهم في البلدة:
 الحداد (1709)،
عبــود (1741)،
فرحات (1750)،
ناضــر (1785)،
منصور (1810).

تصوير: المجند متري كرم