رحلة في الانسان

عيوننا مقيّدة فلمَ لا نحرّرها؟
إعداد: غريس فرح

منذ قرون, إعـتاد سكان المـدن على الإكتـفاء بالنظر عبر المسافات المحدودة, والتي لا تؤمن سوى رؤية إسفلت الشوارع, وحيطان المنازل وسطوحهـا, إضافة الى الأرقام والحروف, وشاشات التلفزة وسواها.

هـؤلاء جردوا منذ الصـغر من لذّة الإحساس بعمق المرئيات وأبعادها, ومؤثرات تشابك ألوانها في أعماق المشاعر. فلا يلامون إذن إن هم أداروا ظهورهم لهـذه التفاصيل. إلا أنّ من يتاح له التعرّف الى أهمـيـتها, فلا عـذر له إن هـو حصـد سلبـيات لا مبالاته.


التجاذب بين الإنسان والطبيعة

الحياة في المدن والتأثيرات السلبية لضيق أفق الرؤية, كانت محور آخر الدراسات التي تناولها علماء النفس والبيئة والطبيعة. أما أكثر ما شغل بالهم فكان إنحسار إهتمام الجيل المعاصر على العموم, بجمال الطبيعة والألوان والظلال, والحياة البرية بكائناتها كافة.
هذه الظاهرة كما تؤكد الدراسات, جاءت كنتيجة طبيعية لنقص أو إنعدام تدريب البصر على رؤية جمال الموجودات والتفاصيل والأبعاد, وما تبعها من مقدرة على التركيز أو تحديد الأهداف الطبيعية لهذه الأبعاد ووقعها الإيجابي في النفوس. بمعنى آخر, إنها ظاهرة تعكس بوضوح إنحسار الرومانسية المجسدة للتجاذب الطبيعي بين الإنسان والبيئة البكر.
وبالحديث عن الحياة في المدينة, وحتى في الضواحي والقرى والبلدات القريبة من المدن, لا بد من الرضوخ لواقع العصر الذي فرض نفسه, وخصوصاً في الآونة الأخيرة.
فطرق التسلية الحديثة المرتبطة بالأجهزة التقنية وشاشات التلفزة وسواها, إضافة الى النوادي المغلقة المجهزة بالآلات ووسائل الترفيه المصطنعة, انتزعت من الجيل المعاصر الإحساس الفطري بقيمة الطبيعة, وبالتالي الإستمتاع بجمال كائناتها, الأمر الذي حرمهم الإسترخاء والتوازن وحشرية التلذذ برؤية الأشياء الصغيرة.
ولمساعدة أبناء المدن على إستعادة توازنهم وتركيزهم وحسن أدائهم العلمي والمهني, سعى دعاة “العودة الى الطبيعة” الى تعميم فائدة “التركيز البصري”, أو إعادة تدريب العين لرؤية التفاصيل الجمالية.

 

مفهوم التركيز البصري

التركيز البصري من حيث المبدأ, هو مفهوم علمي شامل وفلسفة طبيعية أساسها وحدة الوجود, ودور البصر في تحقيق هذه الوحدة أو تجزئتها.
وباعتبار الموجودات المرئية المصدر غير النهائي للمعلومات التي نحصل عليها, فإن وقوعها في مجال البصر, يعطيه دوره الفعال من حيث مقدرته على قياسها وتقييمها للحصول على المعلومات الضرورية للحياة.
والمعلومات التي نحصل عليها, لا تقاس من حيث وجودها الحسي فحسب, بل من حيث الإحساس بمضمونها وما تختزنه من معان. وهو إحساس يستمد من سبر أعماق الأشكال والألوان والتجاذب الطبيعي مع تدرجاتها وذبذباتها وتقاطع حفافيها وخفايا أبعادها.
من هنا أهمية التركيز الحالي على ضرورة تدريب العين منذ الصغر على رؤية أدق التفاصيل والإستمتاع بمعانيها, حتى في الشقق المغلقة, والشوارع المكتظة بالبنيان.
والعين كما تؤكد الدراسات, ليست مجرّد عضو لإستقبال الضوء ورؤية المحيط الخارجي, لأن دورها أكبر من ذلك بكثير.
فالرؤيـة الفعلية هي عمـل مثير وتجربة تشمـل أعضاء الجسم بأكمله. وبلوغها لا يتطلب موهبة أو إبداعاً, بل تدريـباً وتركيـزاً ووعياً لأهمية هذا الدور في تحقيق الوحـدة مع الكائنات المرئية, وجني إيجابيات هذه الوحدة على الصعيدين النفسي والجسدي.
من هنا الفرق بين سكان الريف المدربين منذ الصغر على الرؤيـة البعيدة والشاملـة, وسكان المدن الذين يشيحون بأبصارهم عن كل ما يخرج عن صلب إهتماماتهم الجافة والعملية.

 

أهمية الأشكال والألوان

للدخول في تجربة الرؤية الفعلية المشار إليها, لا بد من التدرب التدريجي على الإهتمام بالأشكال والألوان والتعرّف الى دقائق تفاصيلها.
ومعرفة هذه التفاصيل لا تقتصر بالضرورة على الفنانين وعشاق الطبيعة ومراقبي كائناتها, لأن باستطاعة مطلق إنسان أن يبلغ هذه المرحلة بسهولة فائقة في حال رغب برؤية الحياة بحلة جديدة.


كيف يتم ذلك؟
علماء الطبيعة ينصحون المعانين من ضغوطات السكن في المدن بتخصيص أوقات للتأمل بجمال الموجودات, والأفضل تخصيص أوقات الفراغ للنزهات الطبيعية. أما إذا ما حال ضيق الوقت وضغط العمل دون ذلك, فمن المجدي إيلاء الإهتمام بتدريب البصر على الإستمتاع بجمال الأشياء الموجودة بمتناول اليد. وهذا يتأمن بالشكل التالي:
في أوقات الفراغ, وحين يتعذر الخروج من المنزل أو تحول الضغوطات المادية دون الإنتساب الى أحد النوادي الصحية, أو ممارسة الهوايات المفضلة, يوصي الإختصاصيون المعانين من التوّتر والضغط النفسي, وحتى الأصحاء, بالإستلقاء في مكان مريح, ومحاولة الوصول الى حالة الإسترخاء التام. بعدها ينصحونهم بالنظر الى مطلق شيء أمامهم, والأفضل لوحة فنية زاهية الألوان, أو نبتة خضراء مزهرة, ومن ثم التركيز على تفاصيلها بعمق من دون التفكير بشيء آخر.
ولدى الوصول الى أقصى درجات التركيز المتمثلة بالتوّحد مع الهدف المعني, يمكن للناظر أن يغمض عينيه بهدوء, ويبقيهما مغمضتين حتى لا يعود قادراً على تمييز النور الخارجي وخيالات الأشياء من حوله. وقد يحتاج ذلك الى ثوان معدودات يمكنه على أثرها أن يفتح عينيه من جديد ليرى عالماً آخر. إنه بدون شك سيرى الألوان والأشكال والحفافي وحتى تقاطع الأبعاد بشكل أوضح وأجمل. وسيتمكن من التدقيق في تفاصيل لم يرها من قبل, والإستمتاع بأحاسيس لم يتسنّ له إدراكها.
وتكرار هذا التمرين مرات عدة في اليوم, إن في المنزل أو المكتب أو الشارع, يشعر ممارسيه بالبهجة, ويعيد إليهم الإحساس بقيمة الوجود وجماله.
العلماء وضعوا اليد على الجرح, محاولين مساعدة من يهمه الأمر, ومن يسهل عليه الإقتناع بقيمة البصر وتأثيره في البصيرة. وعيوننا هي ملكنا, فلماذا لا نجرّب؟