مبدعون من بلادي

عَلَم من أعلام الحقوق في لبنان ادمون كسبار
إعداد: تيريز منصور

"شيخ المحامين" الذي تنفس القانون وأغناه باجتهاداته ومرافعاته

عبقري سطع نجمه في عالم الحقوق، فأبدع في مجال المحاماة وترأس نقابة المحامين مرتين متتاليتين. حلّق في مجال السياسة فشغل منصب وزير الداخلية في عهد الرئيس الراحل اللواء فؤاد شهاب، ووزير التربية والتصميم في عهد الرئيس الراحل شارل حلو. إنه المحامي إدمون كسبار، الحقوقي اللامع الذي كان يتنفس القانون كما يتنفس الهواء، وكان مرجعاً استشارياً للعديد من المحامين والرؤساء والملوك والبطاركة في لبنان والعالم العربي، حتى إنه لقّب بالمحامي الأول أو بشيخ المحامين في منطقة الشرق الأوسط والعالم.

 

من هو ادمون كسبار؟

ولد الوزير السابق والنقيب ادمون كسبار، في العام 1903 في بلدة طورزا قضاء بشري، وتوفي في العام 1989. والده الياس كسبار (قاضي صلح في جبل لبنان)

ووالدته السيدة ليزا أبي اللمع، وزوجته السيدة لودي أبي اللمع. له ثلاثة أولاد: أسما (محامية تعيش في سويسرا، وناديا، والياس. شغل ادمون كسبار منصب وزير الداخلية في عهد الرئيس اللواء فؤاد شهاب، كما شغل منصب وزير التربية والتصميم في عهد الرئيس شارل حلو، فامتاز بنظافة كفه، وحكمته في إدارة وزاراته، وكان يعتبر أن نظافة الكف هي من أهم الميزات عند الإنسان. أنشأ مكتباً للمحاماة أولاً في منطقة الحمرا وثانياً في منطقة الأشرفية، وتدرّج في مكتبه عشرات المحامين البارزين، أمثال الرئيس كامل الأسعد، النائب السابق أوغست باخوس، رئيس المجلس الدستوري والوزير ونقيب المحامين سابقاً وجدي الملاط، إميل بجاني، روجيه عاصي، جوزف فرح، الياس كسبار، ميشال معوض وسواهم... شغل المحامي كسبار منصب نقيب المحامين مرتين، فطعّم النقابة من عبقريته القانونية والحقوقية، ولمع اسمه في أنحاء العالم. وهو من مؤسسي جمعية متخرجي كلية الحقوق والعلوم الإقتصادية في جامعة القديس يوسف، وكان أول رئيس لها.

 
 كسبار والإبداع

ترعرع ادمون كسبار في جو حقوقي أثّر على شخصيته، لدرجة أنه كان يتنفس القانون تماماً كما يتنفس الهواء، وكان غذاؤه الأساسي مطالعة المراجع والكتب القانونية في العالم، فكان لا يدع دقيقة واحدة تمرّ في حياته من دون الاستفادة منها، لا سيما خلال سفره، بحيث أنه كان يقصد دور النشر ومكتبات الدول التي يزورها، ليطلع على آخر الإجتهادات والمطالعات القانونية. ويقال أن الوزير والنقيب السابق ادمون كسبار توفي فجراً وهو يطالع في مكتبه الخاص، ويحمل في يده المصباح الذي يعمل على البطارية أثناء انقطاع التيار الكهربائي خلال الحرب في العام 1989.

 معالجته للقضايا القانونية انحصرت في المدنيّة منها، وقد اشتهر بقوة حكمه القانوني، اذ كان يستفيض في تحليله ويغوص في عمق الإجتهادات القانونية. ذاع صيته في العالم، لا سيما في قضايا الإرث، وبات وكيلاً للعديد من الشخصيات العربية واللبنانية من بينها: الملك سعود بن عبد العزيز، الأمراء طلال وهيفا ومنيرة وهيّا سعود، الكاردينال بولس بطرس المعوشي، البطريرك أنطوان عريضة، إضافة الى إدارته شؤون القصر في الكويت، وتوليه رئاسة محكمة الوقوف في الجزائر. ولقد لقّب بشيخ المحامين، واعتبره النائب السابق أوغست باخوس المحامي الأقوى في الشرق الأوسط.

 
أهمية المرافعة

كان النقيب ادمون كسبار يعتبر أن المرافعة في الدعوى ضرورية وبخاصة لدى وجود نقاط بحاجة الى التفسير. ولم تقتصر مرافعته على لبنان فحسب بل تعدتها الى بلدان أجنبية كثيرة في سوريا والأردن ومصر وبريطانيا، وخصوصاً في فرنسا. وأمام محكمة بداية باريس التجارية كانت للنقيب كسبار مرافعة رائعة في قضية مهمة نترك له سرد وقائعها:

"استدعاني البطريرك عريضة ذات يوم وأخبرني بأن محكمة بداية باريس التجارية أصدرت حكماً ضده بالصورة الغيابية وألزمته بدفع مبالغ كبيرة بحجة أنه خالف عقداً بينه وبين أحد التجار الفرنسيين. وأنه أوكل الى النقيب تولوز (من كبار المحامين الفرنسيين) أمر الإعتراض على الحكم والدفاع في الدعوى. وطلب مني غبطته أن أسافر الى باريس لأنني محامي البطريركية وأن أتعاون مع النقيب تولوز في تلك الدعوى المهمة. وفي باريس، اختلفت مع النقيب تولوز بشأن دفع قانوني يتعلق بعدم صلاحية المحكمة التجارية، لأن البطريرك ليس تاجراً بل هو مرجع ديني، ولا يجوز أن تكون الدعوى أمام محكمة التجارة. وكان النقيب الفرنسي ينظر اليّ نظرة فوقية متعالية، وكأنه يريد أن يقول: "أنت من بلد صغير كان في حمايتنا منذ عدة سنوات وتريد أن تعلمنا القانون".

وإزاء الإصرار من قبلي وافق النقيب تولوز على مضض على إثارة هذا الدفاع القانوني، وطلب مني أن أترافع أمام المحكمة بشأنه. ولا أنكر أنني تهيّبت الموقف وبقيت نهاري السبت والأحد في غرفتي أحضّر المرافعة، وعندما دخلت المحكمة نهار الإثنين وجدت القاعة تغصّ بالمحامين الفرنسيين الذين جاؤوا "يتفرجون" على هذا المحامي الآتي من بلد صغير ليترافع في فرنسا. وترافعت مركّزاً على أن البطريرك هو رئيس طائفة ومسؤول عن الأوقاف. والوقف الذي لا يعرفه القانون الفرنسي هو مؤسسة قانونية دينية مستمدة من الشريعة الإسلامية، الهدف منه عمل الخير لا المتاجرة. ترافعت ساعة كاملة، وعندما انتهيت بادرني رئيس المحكمة وخلافاً لكل عرف أمام المحاكم بالقول: "إن المحكمة تسمح لنفسها بتهنئة النقيب كسبار الآتي من لبنان هذا البلد العظيم".

ويضيف النقيب كسبار: "انفجرت القاعة بالتصفيق بعد هذا الثناء من رئيس المحكمة، وأيضاً خلافاً لكل عرف، وصدر الحكم بعد أيام وربحنا الدعوى على أساس ما أدليت به. وبعد مرور شهرين تقريباً، وأنا في مكتبي في بيروت، دخل عليّ النقيب وجدي ملاط وكان لا يزال أحد معاونيّ في المكتب، والبهجة تغمر محيّاه ليقول: "يا معلمي أنظر الى الحكم منشور اًفي مجلة "داللوز" الفرنسية، ذكر فيه أنك المحامي في القضية. ومجلة "داللوز" لا تنشر سوى الأحكام المهمة التي تصدر عن المحاكم الفرنسية".

وفي هذا الإطار يقول الوزير والنائب السابق الأستاذ نهاد بويز والذي كان مع النقيب كسبار في تلك القضية: ˜كانت وقفة عزّ وشموخ للمحامي اللبناني، وكان النقيب كسبار ساحراً ومجلياً وعظيماً من لبنان". وهنا لا بد من الإشارة، الى أن النقيب العلامة وجدي ملاط، كان له الفضل في ربح تلك الدعوى، لأنه هو من عثر على الإجتهاد الذي ارتكز إليه النقيب كسبار أثناء مرافعته.

 
مواقف وطرائف

كتب العديد من المحامين عن إبداع النقيب كسبار أمثال عضو المجلس الدستوري إميل بجاني فقال: "إذا أتاه من يقصّ عليه وقائع قضية فكثيراً ما يقاطعه ليتابع هو عن محدثه وقائع القضية، لأن ما سمعه كان كافياً لجعله يحزر الباقي ويتنبأ بالخاتمة. ذلك أن الوقت في ازدحام مشاغله وزحمة انشغاله ثمين جداً. وضياعه هو ضياع للحياة والثروة وانتاج العمر، فضلاً عن أن اللجاجة كانت عنده من فرط الذكاء ويقظة الخاطر وسرعة البادرة. تحضره النكتة إذا شاء، يستلذ سماعها ويتقنها جارحة غير قاتلة لابسة ثوب الظرف والمداعبة. وذات يوم قرأ نبأ وفاة أسقف يعرف ببخله فعلّق ضاحكاً: حتى إذا خسر نفسه فلن يخسر حسنة قداس لخلاصها".

وبحكم تدرج الوزير السابق الشيخ ادمون كسبار في مكتب والده، كان متضلعاً في الفقه الإسلامي، وكان يروي أنه في أحد اجتماعات القانونيين العرب، وكان هو يترأس وفد لبنان كونه نقيباً للمحامين، اعتقد الجميع أن هذا المحاضر هو مسلم حتماً، وهو شيخ لا بحكم لقب لبناني موروث، بل بحكم كونه فقيهاً مسلماً. ولذلك طُلب منه أن يقرأ الفاتحة على ضريح الجندي المجهول في البلد المضيف باسم المجتمعين، ففعل.

ويروي النقيب ادمون كسبار انه حضر مرة كمحام متدرج إحدى مرافعات الرئيس المحامي بترو طراد في العشرينات من القرن الماضي فنسي ما حوله وذاب في كلمات الرجل. ولما انتهى الرئيس طراد من مرافعته وخرج تجاه شجرة قصر العدل الشهيرة، انطلق نحوه الشيخ ادمون كسبار وقال له: "كل ما أرجوه يا سيدي هو أن أصبح محامياً مثلك"، فربّت بترو طراد على كتف المحامي الشاب المتدرج وقال له: "كل ما أرجوه لك هو أن تصبح محامياً أفضل مني".

 
شيخ المحامين

إثر الإعلان عن وفاة النقيب الشيخ ادمون كسبار، قررت الحكومة اللبنانية منحه وساماً من أعلى الرتب، إلا أن ذلك استحال عليها، لأنه تبيّن أن الشيخ كان قد منح كل الأوسمة اللبنانية، وهدا حدث ملفت وطريف، يدل على ما كان للرجل من مكانة عالية في بلده لبنان.

والشيخ إدمون وإن لم يخلف سوى مؤلف حقوقي واحد هو كتابه "الوصايا والهبات والإرث" إلا أن له من مقالاته ودراساته وتعليقاته ومحاضراته القانونية، والتي منح كل وقته وموهبته لها، ما يشكل سلسلة من المؤلفات غير المجموعة. وهذا ما يجمع عليه أهل المحاماة والقضاء في لبنان، حتى أنه لقّب بالمحامي الأول وبشيخ المحامين.

 

المرجع: "القضاة والمحامون-­ مواقف وطرائف" للمحامي ناضر كسبار