معالم

غابة أرز بشري
إعداد: تريز منصور

للدهر مخبر وللبنان حارس اسمه «أرز الرب»

 

رائحة البخور والقداسة تعبقُ في المكان. أساطير الزمان تنبثق سطورها مع زقزقات العصافير التي تملأ غابة أرز الرب الصامدة أشجارها في وجه الدهر وعواصف الثلوج، منذ ما يقارب الـ6800 سنة قبل المسيح.


الإرث الوطني
تربض غابة أرز الرب في أحضان جبل المكمل مشرفة على الوادي المقدس (قنوبين) العابق بالروحانية، متربعّة فوق مساحة 102566 مترًا مربعًا من التلال الوادعة والمنحدرات الهادئة والمنخفضات الحالمة، والتي تتوسط مساحة جرداء تغمرها الثلوج بدءًا من منتصف فصل الخريف وحتى أطراف فصل الربيع. إرتفاع الغابة عن سطح البحر يتدرّج من 1880 مترًا، أما حيث منخفض أرزة العلم، ليصل في تلة كنيسة التجلّي إلى 1916 مترًا في تلّة ساحة أرزات الثالوث المقدس فتصبح على 1936 مترًا علوّا.
تقسم غابة الأرز في بشري إلى ثلاثة أقسام: غابة الأرز الدهرية، غابة أرز الرب وغابة أصدقاء أرز لبنان.

 

غابة أرز الربّ
حافظت غابة أرز الرب - بشري على قداستها عبر الأجيال، أرزاتها الأقدم في لبنان، ويعتبر بعضها الأقدم في العالم. هي رمزُ بقاء لبنان دائم الخضرة والأمل والغابة الوحيدة في الأرض التي تتفرّد بكنيسة التجلّي (بنيت منذ القرن السادس عشر من جذوع وأغصان الأرز وتحوّلت لاحقًا الى بناء حجريّ) تأكيداً لحصول تجلّي الرب يسوع فيها. وفي عيد التجلي، تنظّم احتفالات وأمسيات شعرية وموسيقية، وتفتح الكنيسة أبوابها لإقامة الذبيحة الإلهية.
إلى جانب الأرزات المعمّرات والبالغ عمرها نحو 6800 سنة (وفق تقرير صادر عن بعثة يابانية أجرت فحصًا مخبريًا لبعض الأشجار العام 1983)، تضمّ الغابة 375 شجرة عمرها مئات من السنين، والآلاف من الأشجار الأصغر سنًا التي غرست منذ عقود أو سنوات لتأمين استمرارية هذا الإرث الوطني، علمًا أن الأرزة شجرة بطيئة النمو وقد يلزمها ما لا يقل عن إثنتي عشرة سنة كي تبدأ بالإرتفاع وأربعين سنة كي تبدأ بطرح بذور منتجة.

 

الغابة الدهرية
تحتضن هذه الغابة أرزة العلم وهي الأرزة التي توسّطت العلم اللبناني لأنّها رمز الصمود والاخضرار. وأرزة الناطور، إذ كان ناطور المنطقة يبني لنفسه عرزالاً في عبّها ليتمكن من مراقبة أي معتد على الأرز والحقول المزروعة. وأرزة الشاعر الفرنسي لا مارتين الذي زار الغابة سنة 1832، وأرزة الرَب وهي أكثر الأرزات عمرًا وأثخنها جذعًا وأضخمها حجمًا لذا دعيت أرزة الرب. وأيضًا أرزة القديسة تريزيا التي سميّت باسمها بمناسبة زيارة ذخائرها الى داخل غابة الأرز في أيلول 2002.
ويخبرنا السيد بشارة كهيا المعروف بـ«أبو يوسف»، أنه في التّقليد المحلّي أرزتان معمّرتان متقاربتان ومتلازمتان هما «أرزة آدم وحوّاء»، وقد أصبح اسمهما في ما بعد «أرزة العائلة»، واليوم تعرفان بـ «أرزة الحبّ أو العشّاق»، بحيث تعشق أغصانهما الجذوع، فتعكس لنا الحب الأبدي السرمدي.
وهناك أرزة الحبيس، بحيث يقال إن أحد النواطير المكلّفين فتح كنيسة التجلّي خلال شهر أيّار، رأى كاهنًا بثوب ناصع البياض، فظنّ أنه أحد الرهبان الذين يقصدون الغابة للتبرّك، لكنه ما إن فتح الباب حتى تجاوزه الكاهن وركع أمام المذبح وشرع ينشد تراتيل بصوت غاية في الرقّة والعذوبة. وفيما كان الناطور يحدق بشعره الكثيف الأبيض المتدلّي فوق كتفيه ولحيته التي تنساب ببياضها لتغطّي نصف صدره ووجهه الطّافح طهرًا ووقارًا، اختفى الرّاهب كالومض. ارتعب الناطور وسمع وهو في ذروة انخطافه صوتًا هادرًا ينبعث من «أرزة الحبيس» ويتردّد في أرجاء الغابة كلّها هذه العبارة: «أنا هو الحبيس الّذي مجّد الله هنا، وما زلت أمجّده في مكان تجليه».
ويخبرنا أبو يوسف عن منحوتة الثالوث فيقول: العام 1992 ضربت صاعقة ثلاث أرزات معمرات من بينها أرزة لامارتين وحولتها إلى يباس ما استوجب اقتلاعها، إلا أن إزميل النحات رودي رحمة، إبن بشري جارة الأرز، أعادها إلى كتاب الخلود. وبعد ثلاث سنوات من العمل المضني، وبدعم من لجنة أصدقاء غابة أرز لبنان، أنجز نحت الثالوث على شجرة لامارتين وأرزة الآب، وهي أعظم وأكبر منحوتة خشبية في العالم حسب مجلة V.S.D العالمية، إذ تمتد على علو 39 مترًا. كما نحت 102 وجهًا للخالق والجسد والمخلوق، مركزًا على الرابط بين الزمان والمكان. وبذلك جسّد النحات رودي رحمة ملحمة إبداعية جديدة، تليق بالغابة الدهرية التي اكتسبت بفضله لقب أجمل متحف طبيعي.

 

غابة أصدقاء أرز لبنان
تقع غابة أصدقاء أرز لبنان بمساحتها البالغة 227 هكتارًا على السّفح الغربيّ من جبل المكمل وسط منحدرات منطقة أرز بشرّي وتبعد 400 مترٍ عن غابة الأرز الدهريّة. الهدف الأساسي لغابة أصدقاء أرز لبنان إعادة تحريج جبال لبنان، التي أصبحت مناطق جرداء نتيجة الإهمال، القطع، الرّعي الجائر والتلوّث، وذلك من خلال إعادة زرعها بشجر الأرز اللبناني، علمًا أنّ تضاؤل الغطاء النباتي الذي يتفاقم حاليًا يؤثّر سلبًا على الغابات.


رمز لبنان
 ورد إسم الأرز في التّوراة 75 مرّة في 18 سفرًا، كملك الأشجار وسيّد الغابات لميزاته الخالدة وعلاقته بالخالق. جعله لبنان رمزًا له، بحيث تتوسّط إحدى الأرزات المعمّرات العلم اللبناني، وتزّين أرزة أيضًا جواز السفر اللبناني، وتزيّن أخرى بطاقات المعايدة. كما تتوسط إحداها القبّعة التي يرتديها ضباط الجيش اللبناني وعناصره. وعلاقة الأرزة مع الجيش لا تقف عند هذا الحدّ، بل تتخطاها إلى علاقة روحية، لأنه حارسها وحاميها من الكوراث الطبعية ومن كل معتدٍ.

 

في الحضارات القديمة
تتميّز جذور الأرز بضخامة ملحوظة واستقامة مميّزة وتتحمّل ضغط الأثقال وتقاوم الإهتراء والعفن، لذا واكب الأرز الحضارات العالمية منذ القدم لغاية اليوم. استعمل صمغ الأرز بخورًا في الاحتفالات الدينية وزيته للحماية من العفن وخشبه في بناء الكنائس، المذابح، الأواني المقدّسة والهدايا.
اعتبر الأرز مقدّسًا يطرد الأرواح الشّريرة ويجلب البركة ويشفي الأمراض ويقضي على الأوبئة، واستعمل الفراعنة المادة السائلة CEDARIA التي يحتويها الأرز في عملية تحنيط موتاهم.
كان موسى النبي يأمر كهنة اليهود باستعمال قشرة الخشب وزيت الأرز لمداواة وجع الأسنان، الأمراض الجلدية وخصوصًا البرص. بَنى سليمان هيكل أورشليم من خشب الأرز وبات هذا الخشب على ألسنة الشعراء، كاتبي المزامير وأسفار التوراة منذ ذلك الحين كونه رمزًا للصّمود والجمال. تبيّن أنّ الأوراق الموجودة في قبر الملك نمرود بعد 500 سنة من وفاته مغموسة بزيت الأرز منذ 2700 سنة قبل الميلاد. وقد عثر على جسر ضخم من خشب الأرز في هيكل ديانا اليوناني في أفسس. استعمل الفينيقيون خشب الأرز في ميادين متعدّدة ونقلوه معهم أينما توجّهت مراكبهم وبنوا بخشبه أماكن العبادة والسفن والجسور… واستخدم الرّومان خشب الأرز في صناعة أثاث بيوتهم ومذابحهم وكان مصدر تباهٍ عندهم.
مع بزوغ فجر المسيحية، استمرّ استعمال خشب الأرز في بناء المذابح، نحت تماثيل القدّيسين، صنع الأواني المقدّسة والصّلبان وتشييد الكنائس ومن بينها: كنيسة القبر المقدّس في أورشليم، كنيسة المهد في مدينة بيت لحم، كنيسة صور التي بنيت في العام 75 وصلّى فيها القديس بولس، كنيسة القديسة مريم الملكية في أورشليم وكنيسة القديس بولس في روما. وجدت قطع من خشب الأرز سليمة في كنيسة القديس سرجيوس في مدينة الرصافة وفي كنيسة القديسة مريم البيضاء في مدينة طليطلة الإسبانية، والكنيسة الصّغيرة الموجودة داخل قصر الميرامار في إيطاليا مبنيّة من خشب الأرز ومكتوب على أحد جدرانها أن هذا الخشب هدية من أرز لبنان. تماثيل وزخارف كنيسة القديس مارك في مدينة البندقية مصنوعة من خشب الأرز أيضًا…
أهدى البطريرك اسطفان الدويهي العام 1674 جذع أرزة اقتلعتها العاصفة إلى الملك لويس الرابع عشر لينحت منها تمثالاً له. وكانت غالبية هدايا البطريرك الياس الحويّك من خشب الأرز. أما المقاعد الخشبية في خورس كنيسة القلب الأقدس في هضبة مونتمارتر الفرنسية فمصنوعة من خشب الأرز، وكذلك مذبح كنيسة المخلّص في مدينة فيّينا.
مع تطوّر الفكر العلميّ وتحسّن سبل التواصل بين الشّرق والغرب، نشطت حركة الرحّالة والأدباء وعلماء الآثار والآباء المرسلين من جميع الجنسيّات، وكانوا يتكبّدون مشقَّات السفر واجتياز الطّرقات الصّعبة والمسالك الخطرة للوصول إلى غابة الأرز، ومن أبرزهم: لامارتين، ابراهيم باشا، المتصرف رستم باشا،أمين الرّيحاني، الشاعر أحمد شوقي وغيرهم...
ولا بدّ من الإشارة إلى أن غابة أرز الرب قد شهدت عدة مهرجانات قبل الحرب أبرزها، تلك التي أحيتها السيدة فيروز (بياع الخواتم، 1967 وهالة والملك، 1972).

 

ثروة تندثر
مع مرور الزمن وتغيّر الأحوال والأمور بدأت ثروتنا الحرجية تتدهور، فأخذت الغابات تتعرّى من غطائها الأخضر، وذهبت الأخشاب إلى المواقد والمشاحر… وفي القرن التاسع عشر انتهكت الغابات بشكل واسع وأصبحت في الحرب العالمية الأولى مصدرًا رئيسيًا للأخشاب اللازمة لمدّ خط سكة الحديد التي أنشأها الجيش البريطاني لوصل مدينة طرابلس (اللبنانية) بمدينة حيفا الفلسطينية. في العام 1876 أولت ملكة بريطانيا العظمى أرز الرب عنايتها، فأمرت بإقامة سور حول غابة أرز بشري لحمايته من أعداء الغابة التقليديين، لا سيما قطعان الماشية التي تقضم البراعم وتقضي على الشجيرات اليافعة.
اليوم يحتضن لبنان عددًا محدودًا من أجمّات الأرز المبعثرة في أرجائه، ومن تلك المحميات: «حرش إهدن»، «حدث الجبّة» و«تنورين». أما محافظة جبل لبنان فتضمّ إحدى أقدم الغابات التي جرى استغلالها في العصور القديمة وهي «أجمة جاج» في قضاء جبيل التي لم يبقَ منها إلا بعض الأشجار المنتشرة فوق القمم، و«أرز الباروك» التي يزيد عمر أشجارها على 350 سنة،  حرش «عين زحلتا» و«معاصر الشوف».

 

نشاطات لجنة أصدقاء غابة الأرز
أطلقت لجنة أصدقاء غابة الأرز (CAFC) في بشرّي بالتعاون مع مشروع التحريج في لبنان (LRI) خطة تحريج تقضي بغرس خمسين ألف شجرة، بهدف زيادة مساحة غابة الأرز. يمتد هذا المشروع على أربع سنوات، تموّله الوكالة الأميركيّة للتنمية الدولية (USAID) بمبلغ قيمته 12 مليون دولارٍ وتُنفّذه مديريّة الأحراج الأميركية (USFS)، وهو يقضي بتوفير المساعدة التقنية والدعم المؤسسي الضروري لتعزيز جهود التحريج المستدامة عن طريق غرس الأشجار المحلية المنشأ ومكافحة حرائق الغابات في جميع أنحاء لبنان، من خلال التعاون مع الجيش اللبناني، المنظمات الشعبية والمجتمعات المحليــة.


في معاني الكلمة

يعني الأرز بالعبريّة والسريانيّة الصلابة والثبات والديمومة، وبالعربيّة المتانة والرّسوخ، وفي لبنان يطلق على من كبر وشاخ وظلّ منتصب القامة.


ماذا تحكي الأساطير؟

تروي الأساطير أنّ آلهة الأرض هالهم أن يتركوا جبل لبنان من دون حارس يدافع عنه إذا اشتدّ الخطر، فاتفقوا على أن يكون أرز الرّب رصدًا في هذا الجبل. وها هو الأرز يقوم برسالته منذ آلاف السنين، كلّما أحدق خطر بلبنان، تضطرب أغصانه الخالدة وتثور، إلى حدّ الإيمان بأنّ الأرز هو ناطور لبنان. ويروى أن النبي نوح قطع أغصانًا من أرز الربّ وصنع منها ألواحًا لبناء سفينته، وأن القديس يوسف صنع سريرًا للطفل يسوع من خشب الأرز، كذلك الكرسي الذي جلس عليه المسيح في هيكل أورشليم والمذبح والأثاث كلّها مصنوعة من خشب الأرز، والصليب الذي سمّر عليه مصنوع من خشب الأرز أيضًا.
ارتبط ذكر الأرز بالحكايات والأساطير وبالمقدسات والرموز الإيمانية، وزعمت أساطير أن آدم وحوّاء سكنا في لبنان وكانا يمضيان فصل الشتاء في مغارة قاديشا وفصل الصيف في غابة أرز الرب. وورد في «سفر أيّوب» الفصل الأوّل، الآيتان 4 و5 (4-5: 1) أنَّ آدم اتخذ غابة الأرز مقامًا خاصًا له، يقدّم فيها القرابين عنه وعن بنيه.

 

تصوير: الجندي هاني قازان