رحلة في الإنسان

غضب، حزن وحسد...
إعداد: غريس فرح

نعم!!! نحن بحاجة إلى هذه الأحاسيس

 

خلال العشرين سنة الماضيّة، تكثّفت الجهود من أجل محاربة سلبيّة السلوك والتفكير، مقابل تشجيع الإيجابيّة في جميع المجالات. والأهم أن الاتّجاه العام كان يؤمن بضرورة كبح الأحاسيس السلبيّة، كالقلق، والحسد والغضب وسواها.. قبل وصولها إلى العلن، أو الخضوع للعلاج النفسي من أجل التخلّص منها.
ما مدى صحّة هذا التوّجه، وهل يقرّه علم النّفس الحديث؟


السلبيّة صفة مغلوطة
من خلال الدراسات التي أجراها باحثون نفسيون في السنوات الأخيرة، تمّ التأكيد أن صفة السلبية التي أحيطت بها الأحاسيس الآنفة الذكر، هي صفة مغلوطة. فالمشاعر لا تندرج فقط ضمن إطار السلبية والإيجابيّة، بل تتعدّاها إلى أكثر من ذلك.
وحسب الباحث تود كاشدان في جامعة جورج مايسون الأميركيّة، فإن وظائف الدماغ تطلق مزيجًا من الأحاسيس المعقدة لمواجهة النزاعات الداخلية الناجمة عن التفاعل مع المحيط الاجتماعي. وكل جزء من هذا الخليط، يعتبر توّجهًا دفاعيًا يعمل من خلال وظيفة دماغيّة معيّنة. وهذا يعني أن لكل شعور فطري حاجة ضمنية تعمل وفق متطلّبات الواقع. فالتحضير للاندفاع مثلًا يولّد الغضب، والميل إلى تحسين الذات بالمقارنة مع الغير، يولّد الحسد، إلى ما هناك من مشاعر تراعي حاجاتنا الطبيعيّة المعقدّة.
إذًا، توجد فكرة خاطئة عن المشاعر، وبالتالي عن التفرقة بين الإيجابي والسلبي منها. فالمشاعر كما يؤكد العلم، هي حالة عقلانيّة الهدف منها المساعدة على تحقيق الأهداف. والأهم أن الأحاسيس المصنّفة سلبيّة هي ليست فقط ضرورية من أجل تحقيق السعادة، بل من أجل البقاء.
قد يبدو ذلك غريبًا لكنّه الواقع، ففي عالم يضجّ بالتحدّيات، علينا كبشر أن نتسلّح بجميع دوافعنا الطبيعيّة الموروثة، على الرغم من أهميّة التدريب على خلق حالة توازن، بين هذه الدوافع وبين متطلبات العيش في المجتمع المعاصر.
على هذا الأساس، وضعت لائحة بالمشاعر التي من الضروري التعرّف إلى كيفيّة التسلّح بها من أجل حياة عصريّة أفضل.


متى نغضب ولماذا؟
برأي الباحث الأميركي كاشدان، يوجد تعريف منطقي لدوافع الغضب. فالغضب برأيه يحصل عندما نشعر بعدم التقييم، ونحن نستخدمه من أجل تأكيد أهميّتنا ووجودنا. لذا فإن الإحباط الذي ينجم عن عدم تقييم الآخرين، والذي عمومًا ما يفجّر فورة الغضب، يعطي في معظم الأحيان النتيجة المرجوة. وهو ما يعلي من شأن المعنيين به، ويؤمن لهم الرضى النفسي. صحيح أن الغضب الجارف قد يزيد أحيانًا الوضع سوءًا، لكنّ كبته، كما تمّ التأكيد، يقود حتمًا إلى الشعور بالكآبة والنقص.
على كلٍ، إنّ الغضب لا يفيد أصحابه فحسب، بل يؤمن التطوّر الاجتماعي بشكل عام. فلولا غضب الشعوب، لما تمّ الإقرار بالحقوق المدنية والعدالة والمساواة.


ماذا وراء الشعور بالخجل والارتباك والذنب؟
في الواقع، لم يتمكّن الإنسان من البقاء من دون التماسك ضمن المجموعات البدائية، فالحياة مع الآخرين تستدعي التزام معايير أخلاقيّة. وعندما تخرق هذه المعايير، نحتاج إلى طريقة تعيد تصويب الأمور. من هنا زوّدتنا الطبيعة مشاعر الخجل والارتباك والذنب. وهي مشاعر ضروريّة من أجل مواجهة الخطأ وتصحيحه. فالإحساس بعدم الارتياح الذي يثيره الارتباك في المواقف الحرجة، يعيدنا إلى ذواتنا، ويدفعنا بالتالي إلى إعادة تقييم المواقف التي فجّرت الأحاسيس المشار إليها، وهي أحاسيس كفيلة بتعليم الإنسان كيفيّة تصحيح أخطائه.
يجدر بالإشارة هنا أننا كبشر، نخجل لخجلنا، ونرتبك لارتباكنا، لكن علينا أن ندرك أن هذه المشاعر هي التي جعلتنا نعيش جنبًا إلى جنب، وبدونها، لا نتمكّن من الوثوق بالآخرين.


الحسد والغيرة
إنّ معظم النجاحات الحياتية، مادية كانت أم معنوية، تعتمد على طرق التعايش والتفاعل ضمن المحيط الاجتماعي. ومن هنا القول أن سعادتنا تتأثر بمقارنة أنفسنا مع الغير.
نحن لا نحتاج أن نكون الأغنى والأكثر ذكاء، لكنّ عدم ارتياحنا ينبع من شعورنا بأننا أقلّ شأنًا، وهو ما يثير فينا أحاسيس الحسد والغيرة وحتّى الكراهيّة.
قد يكون الحسد هدامًا، لكن لا أحد ينكر فوائده. فعلى الرغم من أنه ينبع بداية من الإعجاب بالغير، لكن وخزته المدمّرة قد تقود أحيانًا إلى نجاحات تتخطّى الحلم. ومع أن كثيرين يخلطون ما بين الحسد والغيرة، إلّا أنهما إحساسان مختلفان. فالحسد هو تمنّي الحصول على ما يملكه الغير، لكن الغيرة هي الشعور بمنافسة الغير على ما نملك. وهذا ينحصر عمومًا بالنواحي العاطفية ويؤمّن للمحبّين اختبار المشاعر وتصحيح الأخطاء. الأمر الذي يجعل الغيرة من أكثر الدوافع الطبيعيّة الوقائية وراء نجاح العلاقة وتربية الأطفال وبقاء النسل.


الخوف والقلق سلاحان وقائيان
يعتبر الخوف في مقدّمة الأسلحة الطبيعية الوقائية، إنّه ردّة فعل تجاه المؤشرات المهددة للبقاء. فهو يعكس في داخلنا صورًا حسيّة عمّا قد نتعرّض له من سوء. ويؤهلنا بالتالي للخروج من المأزق عن طريق تحضير الجسم للهروب من الخطر، أو مواجهته دفاعًا عن النفس.
بالنسبة الى القلق، هو رديف للخوف، إلّا أنه خوف من المجهول. على كلٍ فهو يحسّن الأداء، وخصوصًا لدى الأذكياء الذين يستمدّون منه اليقظة والعزيمة. ويعتبر هذا الشعور ضروريًا في المواقف التي تحتاج إلى الحذر والتحضير المسبق.


الندم يحيي الأخطاء في الذاكرة
عندما نفشل في عمل كنّا نتمنّى إنجازه، أو نرتكب خطأً نأسف لارتكابه، تلتصق صور إحباطنا في الذاكرة، وتكبر مع الوقت لتولّد شعورًا بالندم.
وباعتبار أنّ ارتكاب الخطأ يؤمّن فرصة سانحة للتعلّم، فإنّ الدماغ يكبّر الأخطاء بشكل يجعلها تقضّ مضاجعنا، وهو ما يجعلنا نعمل على تصحيحها، أو تجنّبها في المستقبل. وحسب ما أوردته مجلة Psychology Today حول هذا الشعور، فإنه ما لم يشلّ الفكر، يصبح صديقًا حميمًا للإنسان، ومنبّهًا يحيي الأخطاء في الذاكرة، مؤمنًا عدم تكرارها. فالندم يدفع إلى الاعتذار في حال الإساءة إلى الغير، الأمر الذي يوطّد العلاقات. وحسب الباحثة الأميركية، لورا كينغ، فإنّ الندم ضروري من أجل تطوير الذات. فالأشخاص الذين يعملون من أجل استعادة الأنا الضائعة في أخطاء الماضي، يصبحون أكثر نضجًا، فيطوّرون مهاراتهم، ويندمجون في محيطهم الاجتماعي أكثر من سواهم.


تقبّل الحزن يبعد الاكتئاب
في المواقف المفجعة، يحتاج الإنسان إلى التعبير ليستعيد التوازن، والحزن هنا هو المطلوب. وعلى الرغم من تفاوت أنواع الحزن ودرجاته، فهو قادر في جميع الأحوال على تسليح الإنسان بالقوّة وعمق التفكير. إنّه بعكس السعادة التي عمومًا ما تقود إلى التفكير السطحي والمغامرات غير المدروسة. إلى ذلك، فإنّ التعبير عن الحزن بشكل أو بآخر، يبعد الاكتئاب، وهذا يحدث عندما يصل التعبير إلى الغير عبر إشارات فطرية في مقدّمها البكاء وتعابير الوجوه. وهي بمجملها إشارات تبث ضمنًا طلب التعاطف والمساعدة، ما يقوّي اللحمة الاجتماعية، ويمنح المعنيين الثقة بالنفس ووضوح الرؤية. وعلى الرغم من الرغبة في تجنّب هذا الشعور بشكل عام، إلّا أنّ أحدًا لا ينكر أنه إحدى أهم التجارب الحياتيّة وأعمقها.
أخيرًا، للمشاعر السلبيّة فوائد طالما طمستها سمعتها السيئة، فلولاها لما استمتعنا بإيجابيات الواقع، ولا تمكّنّا من التأقلم والاندماج والمواجهة. فلنستمع إذن إلى ما تقوله مشاعرنا وإن كانت سلبية، فهي دليلنا الطبيعي إلى حياة أفضل.