سياحة في الوطن

غوسطا حكايات التاريخ والجمال
إعداد: باسكال معوض

بلدة العلم والثقافة حضنت مدرسة عين ورقة التي عرفت بـ " سوربون الشرق"

أرض تعبق بالتاريخ... عن صنوبرها المعمّر تُسأل السنين، حيث التربة خصوبة وعطاء، والرجال مواقف شهامة ومروءة، والمعرفة مدرسة وقلم و(ورقة)...
غوسطـا شعـلة المجـد، حاضـنة إحدى أمهـات المـدارس، إبنة التاريخ الذي استضافته في قلعتها وعلى مدرجها الروماني الغاطس في البحر.
طابعها قروي قديم وعريق، فمنازلها عمارة لبنانية أصيلة بنيت بعرق الجبين، وتجمعت في أحياء وحارات بين زواياها حكايات تاريخية يعتز بها أهل هذه البلدة العريقة...
طريقها الصاعدة أبداً ترفع الزائر الى السماء بينما يظل البحر تحت قدميه. جبلية، شديدة الإنحدار، تتمتع بتعرّج داخلي.
تحتضن قلعة على قمة عالية، ويحتضن واديها العميق الأشجار المحتشدة في جنباته.
رغم المساحة الخضـراء فيها، لا تعتـبر غوسطـا زراعـية. ففي الـقرون الماضية عمـل الأهـالي في زراعـة التوت وتربية دود القز ورعايـة المواشـي. وأما حالـياً فيهتـم أهلها بالعـلم والثقافـة والفن والمهن الحرة، وتبقى لهم بعض من مواسم المشمش والإجاص والكرمة والجنارك.

 

أجمل موقع مشرف على خليج جونيه

على بعد 25 كلم من العاصمة بيروت، وفي قلب الوسط الكسرواني، تحتل غوسطا أجمل موقع مشرف على خليج جونيه، هو أشبه بمدرج مسرح روماني يجعلها تعلو عن سطح البحر بين 250 و850 متراً في محلة القلعة. تتمتع بطقس رطب وهواء نقي عابق بأريج الصنوبر، يجذب المصطافين لموسم مميز ولا يدفع بالأهالي الى خارجها شتاء.
وتنتشر في أرجاء البلدة المساحات الجميلة بين أشجار الصنوبر والسنديان والتي يتخذ منها الأهالي والزائرون منتزهات لتمضية أجمل الأوقات؛ فمن صنوبر نسبيه الى صنوبر عين ورقة وعين الجرن، وساحة الميدان، وضهرة الزيتون، وصنوبرة القلعة الفوقا وغيرها... أماكن للراحة والنزهة والجمال.
الغوسطاويون عريقون بلبنانيتهم متمسكون بإيمانهم، يماشون الحضارة والتطوّر وعلوم العصر... وقريتهم مدرسة قيمهم، ومنها رهافة حسهم ورفعة ذوقهم وسعة خيالهم، وهي عندهم حاجة يجدون فيها راحتهم واستقرارهم، وفي أرضها رفات أجدادهم وآبائهم، وفي جلاليها وعلى دروبها تمشي خيالاتهم.

 

على اسمها تعددت الروايات

على اسمها تعددت الروايات، فمنها ما يقول أنه تحريف اسم إغريقيAugusta"" ومعناه الكبر والعظمة والفِخار، وقد يكون تحريف "qustha" وهي نبتة عطرية و"Kastas" أو العدل والحق والقسطاس. وهناك احتمال أن يكون من جذر "Gus" (جوس)، أي لجأ واحتمى ولاذ فيكون "gusta" الحمى والملاذ.
أما الروايات التاريخية التي ذكرت اسم غوسطا فمعظمها ورد في باب الكلام عن الرومان حيث أشار الرحالة إرنست رينان الى " أن معظم المناطق الساحلية من كسروان تبدو رومانية، ومثاله على ذلك أسماء القرى من أصل إغريقي ولاتيني مثلاً Ghousta".
ومن الروايات المتناقلة التي تطابق هذا الأصل، أن هذه المنطقة حملت إسم ابنة أوغوسطوس قيصر التي باسمها دعيت بيروت "˜مستعمرة جوليا اوغسطا السعيدة"Œ. وتضيف الرواية أن إبنة هذا القيصر كانت تتخذ من قلعة غوسطا مقراً شتوياً لها ومن قلعة بيت مري مقرها الصيفي.
وتشير بعض المراجع القديمة الى أن الإسم مأخوذ من الملك فيليب أوغستئ(Philippe Auguste)

أحد قادة الحملة الصليبية الثالثة في أواخر القرن الثاني عشر، الذي أقام أحد وكلائه المقدم باخوس فيها، فقام هذا الأخير بتسميتها تخليداً لذكر ملكه.
وهكذا نجد أن معظم الروايات تجمع على الأصل الروماني والإغريقي لهذه البلدة الجميلة.

 

بين الساحل والجبل

ساد القول عند معظم المؤرخين أن الفينيقيين استوطنوا الساحل اللبناني دون الجبل لأسباب طبيعية واجتماعية واقتصادية. ومن الثابت تاريخياً أن "صربا وجونية" كانتا مقراً للفينيقيين، ويبدو أن للتلال المحيطة بهاتين المنطقتين علاقة مباشرة معهما، والدليل على ذلك ما جاء من تحديدات لموقعي " باليبيبلوس Paloebyblos " وجبل "Climax كليمكس" الذي تعلوه قريتا حريصا وغوسطا والذي يشرف على باليبيبلوس المعروفة بصربا وجونيه. وبما أن الجبل المشرف أطلق عليه اسم كليمكس هو من المراقي الصعبة وأشبه بدرج السلم والذي تعنيه كلمة كلمكس، نستنتج أن الفينيقيين بنوا مدنهم على مشارف البحر بينما بنيت معظم هياكل عبادتهم في المرتفعات الجبلية المجاورة لمدنهم؛ وبما أنهم وجدوا في صربا وجونيه فمن الطبيعي أن يكون لهم هيكل في غوسطا نظراً لموقعها المشرف على المنطقة الساحلية حيث انتشروا.
استوطن الرومان غوسطا وبنوا فيها هيكلاً للعبادة على بقايا الهياكل الفينيقية السابقة. فقد أشار الرحالة أرنست رينان الى الوجود الروماني في معظم ساحل كسروان ويثبت ذلك بأسماء المناطق التي يعتبرها من أصل إغريقي ولاتيني كغوسطا ودلبتا وغيرها.
وقد وجدت في غوسطا آثار رومانية يعتقد الباحثون أنها على علاقة بأصل الإسم، ويقال أنه من البقايا الرومانية القليلة في أسماء القرى اللبنانية، وقد يكون نسبة الى مركز حربي أو سياسي كانت تتمتع به البلدة في ذلك العهد.
فموقعـها المشـرف على البحر يرجـح أن تكـون القلعة البحرية قد أعطـيت اسـم البـلد خصوصاً، وترميـم أحـد الأديرة (ديـر الكريم في غوسطـا) قد أظهـر حجـارة ضخمة حفر عليها وجه أمبراطـور رومانـي ولا يـزال الحـجر موجـوداً داخـل الديـر.

 

القلعة

يذكر الرحالة رينيه دوسو ضمن تعداده للمناطق الكسروانية التي تحتوي آثاراً تعود الى هذه المرحلة بلدة غوسطا، وهيكل معراب، من دون أن يعلق عليهما. أما الأب هنري لامنس اليسوعي فيعرّف آثار معراب في كتابه الشهير: ( تسريح الأبصار في ما يحتوي لبنان من الآثار) بقولهئ ( معراب مزرعة على عطف الجبل بين دلبتا وعين ورقه تبعد نحو كيلومتر ونصف من عين ورقه في شرقيها لجهة ريفون، فيها آثار ماثلة يعرفها أهل تلك الضواحي بقلعة معراب أو يدعونها القلعة. والأرجح أن هذه بقايا أحد الهياكل التي ابتناها أرباب الدين القديم على مشارف لبنان تعزيزاً لديانتهم، وهو نعم الموقع يمتد منه البصر جنوباً الى بيروت وبحرها اللازوردي وشمالاً الى جبيل وبطائحها الخضراء. والآثار الباقية عبارة عن حيطان ضخمة الحجارة طولها 25 متراً في 10 امتار عرضاً و6 امتار علواً. وفي البناية حجارة متسعة محفورة في الصخر ذات حافة تنفذ منها سقاية، لعلها جعلت قديماً لتجري فيها دماء الذبائح وإسكاب التقادم...).
وورد في تاريخ الأمير فخر الدين المعني الثاني، وصف لقلعة معراب وموقعها: ( معراب قرية صغيرة واقعـة بين دمرسة عين ورقـه ودلبته وقلعـتها رومانـية وهـي الآن جدران ضخمـة الحجارة طمر معـظمـها في التراب طولها 24 متراً وعرضها 9 أمتار وعلـو جدرانها القائمـة الآن 6 أمتار وأكبر حجـر باق في جدرانها اليـوم طولـه أكثر من خمسة أمتار بعرض مترين. وهـذه القلعة نجـت من الحريق سنـة 1307 عنـد خراب كسروان كما ذكر إبن القلاعي).
نستـنتج مما تقدم أن الروايات التي حيكـت حول هذه المنطـقة وما تحتـويه من آثار متشابهـة، وترددت بصيغ مختلـفة، وفي جمـيع الحالات نرى ذكراً للآثار من دون التعليـق عليها ما عدا وصـف حجـارة القلعـة وضخامتها، هذا الغـموض مردّه الى فقدان النقوش أو أي أثر واضح يشير الى هذه المرحلة نظراً للبعد الزمني بين عصرنا وذاك العصر، ونظراً لما حصل بكسروان عبر التاريخ من حروب ودمار وخراب.

 

دير مار شليطا

يقـع دير مار شليـطا في الجـهة الجنوبيـة الشرقية لبلدة غوسطا في المنطقة المعروفة بأرض مقبص تحيط به الأشجار الحرجية والأراضي الزراعية من جهاته الأربعة.
ويعود تاريـخ بنـاء الديـر الى سنة 1192 على يد وكيل ملك فرنسا فيليب أوغوست الذي قاد إحدى الحملات الصليبية. ويقال أن الوكيل سكن في غوسطا (فأنشأ هيكلاً عظيماً على اسم القديس مار شليطا وزينه بالأوجاه والثياب الكهنوتية الفاخرة وبالقناديل والصلبان الذهبية وفي دهاليز قدام أبوابه).
ودام هـذا الهيكل حتى عام 1305 حـين انتصر الممالـيك في حملتهم الثالثـة على الكسروانيين فأحـرقوا المقاطعـة الكسروانية لكـن كنيسة مـار شليـطا نجـت من الخراب.
ومع تمادي الأيام، لحق بالـدير الخراب والدمـار لأن المنطقة بعد دخول المماليك إليها أخليت من النصارى وبقي الدير مهجوراً حتى سنة 1615 عندما اشترى الخوري يوسف محاسب الأرض المتواجد عليها ما تبقى من الهيكل، وبعد سنوات أعيد بناء الدير.

 

"سوربون الشرق"

من أهم أديرة غوسطا، دير أطلّ شامخاً في قعر الوادي ليتردد صداه في كل الآذان فتنطق العيون قبل الألسنة شاهدة على تاريخه. أسسه المطران جرجس خيرالله أسطفان سنة 1660 على إسم السيدة العذراء في محلة (المشرح)، ثم تم نقله الى مكانه الحالي بعد أن تهدم. وفي 14 أيلول 1698 كرّس كنيسة الدير البطريرك أسطفان الدويهي مشيراً أنه سيعود بالخير العظيم... وبعد مرور 90 سنة أي في العام 1789 وقّع خلفه يوسف أسطفان صك تحويل الدير الى مدرسة (صار منها خير عظيم) محققاً نبوءة سلفه الدويهي. وافتتحت مدرسة عين ورقة سنة 1797 ­ 1798 على عهد البطريرك يوسف التيان على قوانين وبرامج المدرسة المارونية في روما. ولم تلبث أن ضاهت جامعات أوروبا، فكانت أول جامعة في الشرق، حتى لقّبها مارون عبود بـ"سوربون الشرق"، حيث كانت تدرس فيها خمس لغات الى جانب العلوم اللاهوتية والفلسفية. ومرّ في أروقتها وعلى مقاعدها من هم أساس النهضة الثقافية في لبنان والشرق بينهم أربعة بطاركة هم: يوسف حبيش ويوسف راجي الخازن، وبولس مسعد ويوحنا الحاج، وعشرون مطراناً وجمهرة من الكهنة والعلمانيين العلماء، وعنها نشأت المدارس الأخرى التي انتشرت في طول البلاد وعرضها حيث سميت (أم مدارس لبنان وسوريا)، وهذه التسمية هي لأحد ألمع خريجيها المطران يوحنا حبيب، في نبذة له محفوظة بين أوراقه في أرشيف الكريم.
وفي مجال الأدب والعلم والفكر خرّجت بشارة الخوري الفقيه، و3 من آل البستاني منهم: فيكتور والمعلم بطرس البستاني، أحمد فارس الشدياق والكونت رشيد الدحداح. وهذه المدرسة كانت وراء تأسيس 3 معاهد كبرى هي: مدرسة القديس يوسف عينطورة والتي أنشأها المطران بطرس مبارك ابن غوسطا، والمدرسة الوطنية في بيروت التي انشأها المعلم بطرس البستاني، ومعهد الرسل الذي بدأ في عين ورقه وانتقل لاحقاً الى جونيه.

 

المجلس البلدي في غوسطا

من غوسطا التاريخ والماضي الى غوسطا اليوم التي حدثنا عن شؤونها وشجونها ومشاريعها الإنمائية رئيس بلديتها الأستاذ زياد الشلفون، الذي تحدث عن بلدية عريقة تأسست منذ العام 1924 وعرفت 3 رؤساء قبل الإستقلال و6 بعده.
وتفتخر غوسطا بقصرها البلدي المميز المبنى وفقاً لقواعد العمارة اللبنانية القديمة، وهو يتضمن صالون استقبال على الطراز الشرقي، وقاعدة كبرى للمحاضرات والإحتفالات ومكتبة عامة. كما خصص داخل دار البلدية مركز لحركة إجتماعية تقوم بها (رابطة سيدات غوسطا)، و(رابطة غوسطا الثقافية).
وقد عمل المجلس الحالي على صعد عدة أولها البنى التحتية، حيث تم تأمين الخدمات كافة ومنها، إيصال المياه بشكل منتظم ودائم الى بيوت البلدة كافة، ومد شبكات الإنارة الى كل الأحياء، وإنشاء مركز الهاتف الآلي وتزويده باللوازم المطلوبة؛ كما تم تأمين التجهيزات الضرورية لإنشاء مركز للبريد، إضافة الى البدء بشق طريق داخلي نحو القلعتين لاختصار المسافات، وأخرى تمر في وسط البلدة مع بناء حيطان دعم لها.
وقد أقيمت ورشة لتجميل وتزيين وإنارة نبع عين الجرن لأنه يشكل جزءاً مهماً من تاريخ البلدة، وجرى تعديل تصنيف البلدة لصالح المواطنين والملاكين والبيئة والسلامة العامة.
وعلى صعيد الثقافة والبيئة بدأت تصدر نشرتان تتضمنان مواضيع متنوعة ومفيدة، إضافة لإقـامــة نـدوات مـع أصحاب الإختصاص حول مواضيع حيوية. وقامت البلدية باستئجار مبنى لصالح الثانوية الرسمية يمكنها من استيعاب أكبر عدد ممكن من الطلاب، وتتم المساهمة في نفقات تجهيز المبنى، ومساعدة مدارس البلدة مادياً ومعنوياً والمساهمة في نفقات بعض الطلاب. أما بيئياً وصحياً، فتقام حملة تشجير وتنظيف أراضي بور وزرعها بأشجار تزيينية، كما يتم دورياً فحص المياه الجوفية التي يستقي منها الأهالي للتأكد من خلوها من الجراثيم وصلاحيتها للاستعمال المنزلي.
الى ذلك أنشئ المستوصف البلدي وقدمت عدة لمستوصف غوسطا الإجتماعي. وتقوم البلدية كذلك بدفع مساعدات عينية ونقدية لمؤسسات وجمعيات تعنى بالشأن العام؛ وتشجع نشاطات المؤسسات والأفراد والنوادي والكشافة والمدارس والجمعيات المتنوعة، تأميناً لاستمرارية عملها الإجتماعي والكشفي والروحي والرياضي والثقافي.
ويولي المجلس البلدي مسألة النظافة العامة الإهتمام الكامل، وكذلك مكافحة الحشرات، ونقل النفايات الى مكب خاص وطمرها، وتوعية الباعة وأصحاب المحلات وتجار اللحوم الى واجباتهم الصحية حفاظاً على صحة المواطنين.
وفي خطوة رائدة، قام المجلس البلدي بإنشاء مركز في القصر البلدي للدفاع المدني وتجهيزه بالأثاث والمعدات اللازمة لحسن سير العمل، وهو بعمله اليوم يغطي قسماً كبيراً من حاجات بلدات كسروان الوسطى وغيرها.
غوسطا تستحق الأفضل وهو ما يسعى له أبناؤها دوماً، يحدوهم تقدير كبير لهذه الأرض المعطاء...

 


في الذاكرة الشعبية

رددت الذاكرة الشعبية أصداء شهرة مدرسة عين ورقة وما كان لها من مكانة. وحتى اليوم يتردد ذكرها على ألسنة الكبار في السن، كما في مطلع هذه ˜الزلغوطةŒ:
˜يا عريس ويا تلميذ عين ورقة يا دهب يوسفي ملفوف بورقة
أما عين الجرن التي كانت تقام حولها الحفلات في الأعياد والمناسبات، فعرفت عزاً كبيراً هي الأخرى. ويتناقل أهالي المنطقة بيتين من الزجل ينسبان الى شحرور الوادي، إذ قال في إحدى الحفلات الزجلية واصفاً مياه العين:
عين الجرن وصافيها 12 علّة بتشفيها
كباية من عين الجرن الأطبا بتشهد فيها

 

المرجع

دراسة سكانية اجتماعية في غوسطا ­ جرجي باسيل.
صور وأرشيف جاك مناسا.