قضايا إقليمية

غياب شارون اسرائيل على مفترق طرق
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

حتى كتابة هذه السطور، لم تكن حالة رئيس الحكومة الاسرائيلية آرييل شارون الصحية قد حسمت بعد. ومهما يكن من أمر فالذي حسم تماماً هو حقيقة غيابه عن ساحة القرار السياسي، وذلك بعد ما ألمّ به من نزيف حاد في المخ سيجعل من المستحيل عليه العودة الى ممارسة تحمل أية مسؤوليات رسمية قيادية.
ما من شك بأن شارون كان قد شكل ظاهرة اسرائيلية وصهيونية فريدة من نوعها من حيث الكاريزما العسكرية والسياسية والدبلوماسية التي تمتع بها. فهو الملقب بالبلدوزر وبملك اسرائيل عن جدارة. وهو المؤسس الثاني، بعد دافيد بن غوريون، لاسرائيل الثانية من خلال مواصلة ما سمي «حرب التحرير الثانية» بعد حرب عام 1948. وهو الذي ترك بصماته الاولى والأخيرة على حزب «الليكود» الذي أسسه عام 1973 وجعله يحكم في عام 1977 ثم وضع خاتمة لمجده السياسي والقومي عندما انسحب منه وأسس حزب «كديما» أي الى الأمام.
لا خلاف حول ان شارون ارتكب من الجرائم والموبقات بحق الشعوب العربية عامة والشعب الفلسطيني خاصة ما يندى له جبين الانسانية، منذ مجازر كفرقاسم وقبيه ومروراً بمجازر صبرا وشاتيلا وجنين وسواها.

 الا انه مع ذلك حظي، وللأسف، باحترام وتقدير قسم كبير من الرأي العام داخل اسرائيل وخارجها كرجل سلام، بل باعتباره رجل السلام الاقوى، وربما الاوحد القادر على تقديم ما يسمى «تنازلات مؤلمة» من أجل هذا «السلام» مع الفلسطينيين والعرب. والمتتبع لتطورات الأمور يدرك بأن شارون بخطوته الآحادية الجانب بانسحابه من قطاع غزة ومن ثم برحيله الوشيك عن ساحة القرار، قد أحدث ارتجاجين سياسيين خطيرين تتجلى آثارهما في استطلاعات الرأي المتقلبة، وفي الحراك الحزبي المتقلب لشخصيات قيادية بارزة تنتقل بين لحظة وأخرى من حزب الى حزب، مما حدا ببعض المراقبين للاعلان عن حيرتهم وارتباكهم في ما يتعلق بتوقع النتائج المرتقبة للانتخابات البرلمانية المقبلة التي تقرر اجراؤها بتاريخ 28 /3 /2006.
لم يكن شارون في أي وقت من الأوقات رجل سلام أو صلح أو مساومات مع العرب والفلسطينيين. كما وانه لم يكن رجل مثاليات وهو المتهم بخداعه لرئيسه بيغن أثناء اجتياح لبنان في مطلع الثمانينيات، وهو المتهم أيضاً بتجاوز القوانين والأعراف والتورط، مع أبنائه، بملفات فساد عديدة من بينها استغلال السلطة والحصول على أموال بصورة غير مشروعة وإقامة جمعيات وهمية لتجنيد أموال بصورة غير قانونية لانفاقها في تمويل حملاته الانتخابية، هذا ناهيك عن تورطه الراسخ في ملف الاستيطان المسمى غير القانوني لصالح المجموعات الايديولوجية الاكثر تطرفاً والاكثر شوفينية، وفي ملف اغتيال اسحق رابين، رئيس الحكومة الاسبق الذي سبق له أن استقال من منصبه كرئيس للحكومة الاسرائيلية لمجرد اتهام زوجته بفتح حساب مصرفي بالعملة الصعبة في أحد البنوك الاميركية في مطلع السبعينيات، الأمر الذي تحرِّمه القوانين المالية الاسرائيلية.
لقد اعتبرت الصحافية الاسرائيلية البارزة شباي يحيموفيتش ان اسرائيل، في ظل حكم شارون واليمين المتطرف، قد صارت قاب قوسين أو أدنى من أن تكون «دولة تسيطر عليها الميزتان الأبرز بجمهورية موز، وهما المستوى المتردي لنزاهة الحكم والفجوات الهائلة بين الفقراء والأغنياء». وتحدث الخبير القانوني الاسرائيلي موشيه نغبي عما اعتبره بأنه «فشل ذريع لمنظومة أجهزة سيادة القانون في حماية الديموقراطية الاسرائيلية من الذين يحاولون تدميرها وتقويضها من الداخل لغاياتهم الخاصة، التي ليس أبسطها التغطية على الفساد المستشري في القمة». ويخلص نغبي الى اختصار أوضاع اسرائيل من الداخل فيقول: «لا نهضة ترجى لدولة تخاف سلطاتها القانونية من أعداء القانون والديموقراطية... عصابات الاجرام المنظم تزرع العنف في شوارع اسرائيل، وأذرعها المافياوية تتغلغل داخل سلطات النظام الحاكم وتهدد بالمس بالديموقراطية من الداخل.

 قتلة، مغتصبون، أزواج عنيفون، وتجار نساء يتجولون طلقاء بسبب حماية المحاكم لهم. أماكن لوائح المرشحين للكنيست تباع في وضح النهار عداً ونقداً، والساسة الذين يشترونها هم الذين يشرعون قوانيننا... مسؤولون كبار يستغلون مناصبهم لتحسين أوضاعهم وأوضاع المقربين منهم... القضاء العسكري يمنح حصانة للقادة الذين أهدروا بإهمالهم الاجرامي حياة جنودهم واستغلوا جنسياً جندياتهم... الاعلام الباحث عن الحقيقة الدامغة يفقد أنيابه، ويحل محله اعلام فاسق وانضوائي. وأفظع من هذا ان سلطات القانون مشلولة حيال التحريض والعنف الديني والقومي اللذين سبق لهما أن أديا هنا الى اغتيال رئيس الوزراء» (اسحق رابين عام 1995).
هذه هي اسرائيل الواقفة عند مفترق طرق تاريخي وهي تودع زعيمها الجنرال شارون، آخر العمالقة وأقوى قادتها منذ بن غوريون. وهي الآن مستعدة لأن تغفر له كل أخطائه وخطاياه، لأنها تدرك تماماً بأنه ما كان ليختار لها الا الأفضل ضمن اطار السياسة البراغماتية القائمة على قاعدة فن الممكن. وهي اليوم تدرك، وربما تقتنع، اكثر من أي وقت آخر، بخيارات شارون الاستراتيجية التي تمثلت بشكل خاص في قراره الانسحاب من قطاع غزة وتدمير المستوطنات اليهودية التي كانت قائمة هناك، وتفكيك بعضها الآخر في الضفة الغربية، من أجل ترك الفلسطينيين يتخبطون في همومهم ومشاكلهم القاتلة في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
اليوم يدرك الاسرائيليون بصورة أعمق وأكثر جدية حس المسؤولية وحقيقة التغيير الذي صنعه شارون بكفاح مرير مع كبار القادة في حزبه السابق «الليكود». وبالتالي فهم على استعداد ليكونوا أوفياء لحزبه الجديد - اليتيم «كديما»، الذي صحيح انه سمي باسم حزب الرجل الواحد، الا انه سوف يحظى، خلافاً لحزب «العمل» لدى مغادرة رابين له بالموت، بالتأييد اللائق بذكرى شارون، وسيكون في طليعة الاحزاب الرابحة في الانتخابات القادمة، وبعده سيأتي دور حزب «العمل» وحزب «شينوي» ثم سائر الأحزاب الاخرى. أما الحقائق الأساسية الموضوعية التي بنى عليها شارون خياراته الاستراتيجية الأخيرة فهي كالتالي:


1 - المشكلة الديموغرافية الناجمة عن تراجع أحجام الهجرة اليهودية وتزايد عدد المواطنين الفلسطينيين مما يهدد وجود «اسرائيل الكبرى» كدولة ديمقراطية ذات أغلبية يهودية واضحة.

2- الاعتراف بأن العمق الاستراتيجي الحقيقي لاسرائيل ليس فقط مقدار المرتفعات والأراضي التي تسيطر عليها، بل الشراكة والدعم القوي والمستمر من جانب الدولة العظمى الوحيدة من نوعها في العالم وهي الولايات المتحدة الاميركية.

3 - الاقتناع الحاسم بأنه على الرغم مما تتمتع به اسرائيل ذاتياً من تفوق عسكري كبير ومنقطع النظير في منطقة الشرق الأوسط الكبير، فإن هناك قيوداً اعتبارية اخرى بالغة الأهمية لهذا التفوق مثل الاعتبارات السياسية والدبلوماسية، كما وان هناك عناصر اخرى رديفة لهذه القوة الصلبة لا يمكن التغاضي عنها أو إغفالها في سياق الربح والخسارة، ومن أبرزها المنعة الاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية.


وعلى ضوء ما تقدم، لا يخفى ان شارون، والشعب الاسرائيلي برمته أيضاً، قد أدركا خطورة ما وصلت اليه اسرائيل من أحوال متردية في هذه المجالات الثلاثة الأخيرة التي أوضحنا بعضاً منها آنفاً، والتي كانت وراء الانعطاف التاريخي الذي نحن بصدده والذي هو في النهاية أبعد ما يكون عن معايير العدالة والانصاف.

شارون شكّل ظاهرة اسرائيلية صهيونية فريدة من نوعها
إلاّ انه لم يكن في أي وقت من الأوقات رجل سلام أو صلح مع العرب والفلسطينيين